على مدى تاريخ السينما التونسية لم تكن الواقعية السحرية كنوع سينمائي حاضرة في مجمل إنتاجاتها، وهو أمر تعود أسبابه إلى ما يحمله هذا النوع من كلفة إنتاجية لا يتحمله واقع الإنتاج في السينما التونسية وحتى سينما الجنوب، فيكاد هذا النوع يحتكر في هوليوود لما تمتاز به من سخاء إنتاجي وصناعة سينمائية. ولكن ما يشهده العالم في العقدين الأخيرين من تطورات تقنية في صناعة الصورة والمؤثرات البصرية سواء في السينما أو التلفزيون جعل الأمر يتحقق بسهولة دون كلفة إنتاجية خارقة، وهو أمر ذلل الصعوبات على الجيل الجديد من السينمائيين برفع سقف التخييل السينمائي للولوج الى أنواع سينمائية جديدة مرتكزة على التطور التقني، الذي يدل على مرجعية كونية ومعرفية لهذا الجيل وتكوينه السينمائي للتعبير عن أطروحاته الفكرية حول الواقع والعالم. وقد كان السبق هنا للسينما المصرية التي استغلت هذه الظروف المعرفية لنرى أفلامًا تنتمي إلى نوع الفانتازيا، الرعب، الخيال العلمي والواقعية السحرية، مثل تجربة مروان حامد، عمرو سلامة... وهذا ما فعله المخرج التونسي عبد الحميد بوشناق في تجاربه السينمائية، سواء في فيلمه الأول "دشرة" (2019) الذي ينتمي لنوع أفلام الرعب والذي يعد أول فيلم رعب تونسي، وفي تجربته الثانية بفيلم "فرططّو الذهب" (2021) الموغل في الواقعية السحرية باعتباره نوعًا سينمائيًا، ولبوشناق السبق مرة أخرى في تاريخ السينما التونسية.
الحكاية وما وراء الحكاية
بقالب سردي متداخل ومشتت تتمحور الحكاية في "فرططّو الذهب" عن شخصية الشاب معز (محمد السويسي)، وهو ضابط أمن عنيف شديد الغضب والهيجان يجد نفسه مطرودًا من العمل بسبب مديره (إبراهيم زروق) ثم يجد نفسه بشكل مفاجئ في مواجهة طفل (ريان الداودي) غريب الأطوار في منزله يحمل رسالة مضمونها أنه مصاب بمرض نادر في عينيه وأنه سيفقد بصره قريبًا فيقرر بعد تردد وفي نوع من التعاطف أن يريه ما لا رأته عين قبل أن يفقد بصره تمامًا، فينطلقان في رحلة يتعرف فيها معز الطفل الصغير على شخصيات من عوالم غرائبية وعجائبية للرجل الطائر، والمرأة الجميلة بثلاث عيون، والمهرج صاحب اللسان الطويل الذي يبتلع عصفورًا من مسافة بعيدة، والرجل الذي يتحول إلى ذئب مع اكتمال القمر، فتصبح مشاعر الطفل مختلطة بين ذهول وخوف وإعجاب بهذه العوالم السحرية. وخلال هذه الرحلة ندخل في خطوط درامية أخرى وهي شذرات من سيرة معز وعلاقته المتوترة والمعطوبة مع والده (فتحي الهداوي)، وهو مدمن للخمر ومعنف لابنيه معز وأخته (هالة عياد) مهينًا لهما في مشاهد استرجاعية بواقعية شرسة ومركبة وهي بمثابة مكونات للهوية الدرامية لشخصية معز باعتبارها سببية تصرفاته الخشنة، لكن نجد فيها وجهًا آخر مرهفًا ومسالمًا متعاونًا مع أخته، فضلًا عن أنه شاعري ورومانسي مع حبيبته التي انتقم لأجلها بعد اغتصابها وقتلها من طرف مديره في قسم الشرطة والذي يأخذ بدوره خطًا دراميًا موازيًا متمثلًا في علاقته بزوجته (رباب السرايري) وأبنائه القائم على القسوة ببرود حد الإنهاك ينجرّ عليها خوف الأبناء واغتراب من قبل الزوجة وانكسار.
مجموعة من الخطوط الدرامية بين الماضي/ الحاضر، الواقعية/ الواقعية السحرية تتفاعل مع شخصية معز وتتقاطع معه كي تتشكل تفاصيل الحكاية ونكتشف أن معز مريض بالانفصام في الشخصية، وأن الطفل الذي صحبه في الرحلة لم يكن إلا معز عندما كان طفلًا، وتلك الشخصيات العجائبية التي قابلها لم تكن سوى شخصيات يؤديها والده أمامه باعتباره ممثلًا مسرحيًا تم رفض عروضه الفنية وهو شديد الشغف بالمهنة وبابنه معز المؤمن بموهبته متمتعًا بالفرجة. فانكسار الأب وتحوله من شخص فنان ودود إلى شخصية مهمشة سلبية مع ذاته وأبنائه، كانت سببًا في مرض الانفصام الذي يعيشه معز ولم تكن العودة على عوالم الطفولة إلا عودة للذات غائبة التي جعلت من معز يفقد نفسه التي لم يكنها، كما فقد الأب نفسه أمام إكراهات الواقع المُر الذي يعيشه الفنان، فانعكس الأمر على معز الذي يعيش حياة موازية مع شخص لم يكن موجودًا، وهذا الشخص هو. فلم تكن حاله وحال أبيه إلا استعارة للواقع المعيش بطرح المخرج سؤالًا جوهريًا: لماذا أصبحنا على هذه الحال؟ فعاد بنا إلى أصل الحكاية بحفر في تاريخ الأب والابن لنفهم أصل الحكاية وما وراء الحكاية ليقول المخرج عبد الحميد بوشناق إن الطفولة هي بذرة الانسان السوي في المستقبل بما تحمله هذه الطفولة من مكونات أولها العلاقة الأبوية المثالية، وما أسباب تدهورها وانزياح هذه العلاقة إلا إكراهات الواقع المعيش المتجسد في الأب الممتهن للفن الذي يشهد كسادًا، وهذا أمر خطير مبشر بالعمى وهو المرض النادر الذي يهدد الطفل الصغير وقد أصيب به معز وما العمى إلا عمى الروح والقلب والعقل، يجعل من الإنسان يتلمس الأشياء باحثًا عن الأنا في أناه، كي يكون الشيء هو هو، مراد الإنسانية في هذا الكوكب.
بنية الحكاية ومكوناتها
هذه البعثرة المصنوعة لعوالم الشخصيات التي قد تبدو موغلة في "اللا كلاسيكي"، جعل منها المخرج في تركيبه المونتاجي لمسار الشخصيات عملًا شبه متكامل، لا سيما أن الفيلم مبني على الفهم المؤجل أو الفهم التدريجي لمفاصل الحكاية، وهي لعبة سردية فرضها مرض الانفصام في الشخصية عند معز، وهي النتيجة التي نخرج بها في نهاية الفيلم لنتائج متعددة تتعلق بشخصية معز والشخصيات المتصلة به والمنفصلة كذلك، وما القفزات المتعددة بين الماضي والحاضر إلا أجزاء من أصل الحكاية تجعل المشاهد يعي قيمتها في نهاية الفيلم لندخل في حقل تأويلي عن سبب مصير الشخصيات فيجد المشاهد نفسه أسيرًا للعبة غير متوقعة.
من خلال النظر في بنية كل شخصية، تتوالد الأسئلة عن العلاقات الدرامية بين الشخصيات: فما سر توتر العلاقة بين معز ورئيس مركز الشرطة الذي حرك مفاصل السرد في البداية والنهاية، خاصة وأن معز قام في أحد المشاهد بالبصق على رئيسه في العمل وقام هذا الأخير بلحس هذا البصاق العالق على سترته البيضاء في مشهد خلاب يدل على قدرات تمثيلية خارقة.. فهل هو شاذ؟ وهل هذا سبب لقتل حبيبة معز بسبب الغيرة؟ كذلك العلاقة بين معز وحبيبته لم تأخذ حقها في مفاصل السرد وإنما مجموعة من المشاهد الحميمية، والأجدر أن تأخذ حقها خاصة وهي الحبيبة التي قام بالانتقام لأجلها في مشهد دموي لما به من جمالية البشاعة. وهذا الإسقاط المباشر وغير المبرر للسببية الدرامية في العلاقة بين الطفل ومعز، كان من الأجدر أن تسير هذه العلاقة بحذف مشهد اللقاء بينهما والمتمثل في دق الطفل الباب وأن يكون الطفل متواجدًا في حياة معز من البداية وخاصة أنه يسكن وحده ويسير الفيلم بمنطق الإيهام بكون الطفل الصغير يعيش مع معز دون معرفة كيفية بداية العلاقة رغم أنه في الأصل غير موجود فيكون وقع مرض الانفصام في الشخصية أكثر قوة وشدة على المشاهد.
أما الرحلة الغرائبية فلم تكن سوى شذرات ومحطات، ولا توجد بين هذه الشخصيات الغرائبية أي روابط درامية، يشكلون حكاية داخل الحكاية، مما يحقق التضمين السردي والدخول في حقل تأويلي آخر خاصة وأن الزمن السردي في قسم الواقعية السحرية يسمح بذلك فتكون هذه الشخصيات مترابطة فيما بينها ومحبوكة في شكل قصة داخل القصة، فهذه العوالم الخرافية التي يتلقاها الطفل في المسرح أو الصور المتحركة أو الأفلام يتفاعل معها في خياله ويعيد صياغتها وتوليفها، فلم تكن صورة الطفل في تفاعله مع أبيه وهو يجسد له الشخصيات الخرافية نفسها وهي أمامه مع معز وقد تحقق ما هو فرجوي، لذلك لم يكن صمت الطفل مع معز طوال الفيلم مبررا دراميا، ورغم أن اختيار الممثل الصغير موفق في الفيلم فقد كان على عكس شخصية معز الذي يعيش انفصامًا في الشخصية، فلم يكن اختيارًا موفقًا في الأداء على عكس (فتحي الهداوي) الذي لعب دوره بشخصية مختلفة اختلافًا تامًا عن أدواره التي ظهر بها في الدراما التلفزيونية والسينما رغم قلتها أمام التلفزيون، ونراه يمارس اللعب مع الشخصية بتماسك لما تحمله من تركيبة مختلفة بين الماضي والحاضر على مستوى البنية النفسية المحكومة بواقع سردي مختلف اختلافًا جذريًا. وهذا أمر صعب يدل على تمكن المخرج من أدواته في إدارة التمثيل وخبرة الممثل القائمة على التراكم والتجريب، وفي النسق ذاته تبدو (هالة عياد) في دور ابنة عبد الوهاب الأب بتألق حقيقي وتناغم كبير في مشاهدها مع فتحي الهداوي كأننا أمام فيلم منفصل في حد ذاته أمام ملامحها التونسية الصرف كأن المخرج كتب لها الدور ولم يكن قائمًا على اختيار مخرج لممثلة لأداء الشخصية، بالتالي وبالرغم من بعض الهنات على مستوى السرد إلا أن هذا الفيلم يدل على أننا أمام مخرج مغامر وله مستقبل في حرفة الإخراج السينمائي.
لقد فعلها عبد الحميد بوشناق ثانية بعد فيلم "دشرة" في الولوج إلى غمار الواقعية السحرية كنوع سينمائي بعد الرعب، وهذا أمر يحسب له، وفي خوض غمار الإنتاج الخاص (عبد الحميد بوشناق، عمر بن علي، حمزة بوشناق) مرة أخرى، بعيدًا عن دعم الدولة للأفلام السينمائية وبعيدًا عن مغازلة صناديق الدعم الخارجية لما لها وما عليها من إملاءات على أطروحات المخرج وأفكاره، فكان بمثابة اندفاع شبابي بروح ثورة ثقافية في ميدان السينما وتوسيع أبواب التخييل لأنواع سينمائية جديدة في السينما التونسية لم نعهدها من قبل، وكانت النتيجة عودة الجمهور لصالات السينما المهجورة نوعًا ما وإحداث حالة جدل في المشهد الثقافي والإعلامي التونسي، وما هو أهم تحفيز الشباب من صناع السينما على دخول مغامرات إنتاجية وإبداعية قائمة على المبادرات الفردية والخاصة لنرى مشهدًا ثقافيًا يليق بثورة الشباب وروح التحرّر المنشودة اليوم.
*مخرج تونسي.