}

"حرقة" (الضفة الأخرى).. مرارة الواقع وحلاوة سرد الدراما التلفزيونية

حسام علي العشي 26 أبريل 2022



ليس مبالغة القول إن مسلسل "حرقة" بجزأيه، للمخرج التونسي الأسعد الوسلاتي، يعتبر استثناء في مسيرة الدراما التلفزيونية التونسية وربما العربية فيما يتعلق بتناول قضايا الهجرة السرية وحكايات العرب في المهجر.

في الجزء الأول من مسلسل "حرقة"، الذي عرض في الموسم الرمضاني الفارط، مرّ العمل بمجموعة من الشخصيات التي تسعى للهجرة السرية إلى إيطاليا عبر قوارب الموت في سرديات متنوعة حول أسباب الهجرة مرورًا بمغامرة الإبحار وما انجر عليها من صعاب وصولًا إلى اعتقالهم من السلطات الإيطالية وحجزهم في معتقل خاص بالمهاجرين (التشنترو)، حيث تدور الأحداث بالتوازي مع آباء وأمهات المهاجرين الباحثين عن أخبار أبنائهم أمام تلاعب السلطة التي كان لها يد في تنظيم هذه الهجرات.
النجاح الكبير في نسبة المشاهدة العالية الذي حققه الجزء الأول وقد استوفى كل شروط ومقومات النجاح الأربعة - إنتاج، سيناريو، إخراج، وتمثيل - كان الفاتحة لإنتاج جزء ثان، كما هو معلوم في الدراما العربية، دون ليّ عنق الحكاية هذه المرة لاستثمار النجاح في الجزء الثاني، وكاستمرار طبيعي ومنطقي لمعرفة مصير الشخصيات التي هربت من المعتقل بما أن الثنائي، كاتب السيناريو عماد الدين الحكيم، والمخرج الأسعد الوسلاتي، جعلا النهاية مفتوحة،  فكان الجزء الثاني في هذا الموسم الرمضاني حاملا معه نجاح جزئه السابق، وجاء مسلسل "حرقة 2" بعنوان فرعي "الضفة الأخرى" باعتبارها مدار الأحداث مع إضافة خطوط درامية جديدة، وخوض غمار مواضيع لم نعهدها في تاريخ الدراما العربية، بتوليد ضروري للحكاية وتخطيط مسبق من المخرج صاحب القصة مع كاتب السيناريو.

 واقعية القاع واستنطاق صمت الضحايا

مجموعة من الخطوط الدرامية ببطولة جماعية في عالمين موازيين بين تونس ومدينة باليرمو الإيطالية تتشابك خيوط العمل وتتقاطع مصائر الشخصيات في مسلسل "حرقة 2 (الضفة الأخرى)".          

في تونس: حياة مجموعة من العائلات في العشوائيات، هذه الطبقة الاجتماعية الثالثة وربما الرابعة التي تعيش في الحارات والأزقة الضيقة المبنية دون أي تفكير، هذا السواد الأعظم في المجتمع التونسي وحياتهم اليومية مع أبنائهم الذين يسكنهم حلم الهجرة في ظل النزيف الاقتصادي والأخلاقي وغياب الدولة الراعية وحضور الدولة القاهرة، عمال نبش القمامة وفرزها ومعاناتهم من عنصرية طبقية، المهاجرون الأفارقة في تونس مدينة ترانزيت الهجرة السرية وما يتعرضون إليه من قهر السلطة وتحايل عصابات قوارب الموت وعنصرية اجتماعية إلى حد الخجل... إنها سردية واقعية القاع أو الواقعية القذرة بشخصياتها المعطوبة. 

الثنائي كاتب السيناريو عماد الدين الحكيم والمخرج الأسعد الوسلاتي جعلا النهاية مفتوحة في الجزء الأول!



في إيطاليا: حياة المهاجرين غير الشرعيين دون إقامة بين شوارع مدينة باليرمو وسجونها، وبين الحقول والمزارع المترامية، أين تعمل المهاجرات وتعشن في إسطبل الحيوانات كأنهن في نظام شبه إقطاعي، تدور مجموعة من الحكايات المأساوية حد الإرهاق، بين عصابات المخدرات وتجارة الأعضاء وعبودية الرأسمالية المتوحشة وجور السلطة الإيطالية وبيروقراطية السفارة التونسية. يستنطق الأسعد الوسلاتي صمت الضحايا والمهمشين، هؤلاء المهاجرين الباحثين عن حياة الرفاه والكرامة المفقودة في وطن بديل، هو الآخر مصنع لرسكلة الضحايا فتحول حلم الشخصيات إلى كابوس آخر.

تشكّل شخصيات مسلسل "حرقة 2، الضفة الأخرى" نموذجًا من الواقعية الشرسة عبر بطولة جماعية، لكل شخصية فيها حكاية مصدرها الألم بوجوه المختلفة، فليس للسعداء قصة في هذا العمل. فهذا صاروخ (مهذب الرميلي) ينجح في الهروب من السجن الإيطالي إثر محاكمته بعشرين سنة لتورطه في إحضار المهاجرين عبر قوارب الموت، محاولًا الوفاء بوعده لحبيبته التي قتلت بعد محاولة هربها من السجن، بإعادة ابنها الصغير إلى تونس بعد ما تم بيعه لعائلة إيطالية من قبل عصابة تتاجر بالبشر، سواء ببيع الأطفال أو أعضاء المهاجرين غير الشرعيين من خلال حجزهم في قبو وإجراء العمليات الجراحية وهو الأمر الحاصل لابن مجيد (رياض حمدي) الذي يدخل التراب الإيطالي خلسة باحثًا عن ابنه خالد، فتحاول وعد (ياسمين بو عبيد) مساعدته فيسكن في بيتها لتجد فيه الأب الحنون.. علاقة وعد بمجيد أعطت طابعًا إنسانيًا عميقًا في المسلسل، أمام ما تعانيه وعد من إحساس بالندم واضطراب نفسي تجاه أخيها الذي هاجر عبر قوارب الموت وتم قتله في السجن من قبل لمين (أحمد الحفيان) الذي خسر حلمه الإيطالي إثر الجريمة التي ارتكبها وأصبح مشردًا في شوارع باليرمو عائدًا منها إلى تونس بخفي حنين بعد غياب عشرين سنة بينما أمه زينة (منى نور الدين) لم تقطع الأمل بعودته رغم انقطاع أخباره، ولكنها غريزة الأمومة التي تحرك مفاصل السرد وليست في أمومة زينة فقط.

لقطة من المسلسل 



وهذه شادية (نادية بو ستة) أم بين ندوب الماضي من لمين الحبيب الذي هاجر وبين محاولة ترويض ابنها ربيع الذي يعاني إعاقة في النطق محاولًا الهجرة لما يعانيه من تنمر في الحي، وحياة (ميساء ساسي) الأم العاملة في نبش القمامة وما ينتج عنه من تجليات لمفهوم القهر الاجتماعي وما تعانيه، هدفها الوحيد تعليم ابنها الصغير، فباعتقادها أن المدرسة هي السلم الاجتماعي الوحيد لحياة أفضل، أما نعمة (وجيهة الجندوبي) فهي أم أرملة مطحونة بين عملها في نبش القمامة أيضًا وحرقتها على ابنها فارس (مالك بن سعد) الهارب من العدالة في إيطاليا نتيجة تورطه في تفجير مطعم بعد أن تلقفته المافيا الإيطالية لتحوله إلى بائع مخدرات نتيجة إكراهات الجوع والخصاصة في مدينة إيطالية، صورها لنا الوسلاتي بعين مدير التصوير، ربيع المسعودي، بنفس شبه هوليوودي وصورة ناعمة توحي بجمالية المدينة. هذه النعومة في الصورة لم تكن اختيارًا فنيًا وجماليًا موفقًا في الخط الدرامي المتعلق بعمال نبش القمامة، وكان الأجدر بالصورة أن يكون فيها شيء من الخشونة والجفاف لتتماهى مع مسرح الأحداث رغم دسامة هذا الخط الدرامي على مستوى الموضوع ولكنه على المستوى السردي كان ضعيفًا وسقط في بروباغندا المأساة من أجل تعاطف المشاهدين باستعراض الممثلين للمعاناة دون أي قصة أو حبكة على عكس الخط الدرامي المتعلق بالمهاجرات اللاتي يعملن في إحدى المزارع لرئيس عصابة التجارة بالأعضاء.
كل هذه الحكايات وأكثر، هي وعاء صبّ فيه الكاتب كل شيء من هم اجتماعي لا يخلو من قصص حب مثل حكاية عياد (أسامة كشكاش) وأمينة (سناء الحبيب) الباحثين عن حياة أفضل في أوروبا متسلحين بالحب في زمن ما بعد اليأس، لعله الشيء الوحيد الذي تبقى لنا.

بنهاية الحكاية في الحلقة العشرين كانت سردية هذا المسلسل إجابة جريئة على سؤال، من نحن؟ بتضافر النص مع العناصر الفنية من صورة أنيقة ولغة سينمائية تكشف عن تطور أدوات المخرج ومونتاج دقيق في تشكيل وتركيب الخطوط الدرامية التي حققت مفهوم اللعبة السردية والتجديد في السرد التلفزيوني وأمام براعة مجموعة من الممثلين الذين اشتغلوا بعناية على تفاصيل الشخصية من قبيل أحمد الحفيان، مهذب الرميلي، رياض حمدي، منى نور الدين، وجيهة الجندوبي، ياسمين بوعبيد... إلى جانب الموسيقى التصويرية..

على ضوء سؤال من نحن؟ هناك سؤال آخر: أين نحن؟  نحن في مدينة الفوضى والأسى، وهذا ما قاله المسلسل، وهنا تكمن أهميته، لكن الأسعد الوسلاتي قال نصف الحقيقة، إذ جعل الشخصيات مسؤولة عن مآسيها، أما النصف الغائب من الحقيقة فهو السؤال السياسي، العلة القائمة وراء كل الخراب الذي نعيش فيه.

ومع ذلك، يمكن القول إن اختيارات الأسعد الوسلاتي في جل أعماله هي دليل على أننا أمام مخرج صاحب مشروع فكري في الدراما التلفزيونية، وحامل همّ اجتماعيّ.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.