}

الوجه الآخر للسينما الصينية.. العلاقة بالأدب والموسيقى والحركة

وائل سعيد 13 مارس 2022
سينما الوجه الآخر للسينما الصينية.. العلاقة بالأدب والموسيقى والحركة
لقطة من الفيلم الصيني "الشروق الأخير" للمخرج وين رن

ارتبطت السينما الصينية بأفلام فنون القتال والدفاع عن النفس، وفي هذا المجال لمع اسمان على مستوى العالم، بروس لي، ومن بعده جاكي شان، قبل أن ينتقل الأخير إلى هوليوود. قد يبدو هذا المفهوم عن السينما الصينية مُجحفًا أمام تاريخ حافل يجمع بين النجاح والإخفاق، ويمتد منذ بداية ظهور السينما العالمية بعروض الأخوين لوميير المتتالية في أعقاب عرضهما الأول في باريس 1895؛ التأريخ الرسمي لبداية الفن السابع.
لقد كانت الصين ضمن الدول الأولى في رحلة عروض لوميير بعد عدة أشهر من العام التالي، ويُحسب لها إنتاج أول فيلم محلي بعد فترة وجيزة من الصناعة الوليدة، وهو "معركة دينغ جون شان" (1905). ومن هنا بدأ الجيل الأول الذي يمثل السينما الصامتة. وقد تأثرت السينما الصينية كالعديد من الدول بالنموذج الهوليوودي.
مع دخول الصوت إلى الفن السابع في أواخر العشرينيات، كان على الجيل الثاني من صناع السينما الصينية خوض التجريب مع معطيات السينما الجديدة، وتشعب مؤثراتها بجانب البحث عن هوية ميلاد للسينما المحلية، حيث (كانت الأفلام الأجنبية تشكل نحو 90 في المئة من السوق الصينية. مع ذلك، فإن المواهب المحلية في الصين، التي دفعتها إلى العمل موجةٌ يسارية تقدمية، ساعدت في إطلاق العصر الذهبي للسينما الصينية في ثلاثينيات القرن الماضي، وكانت العديد من أفلامهم تؤيد كفاح البسطاء وتدافع عنهم). ("السينما العالمية من منظور الأنواع السينمائية، ويليام كوستانزو/ ترجمة زياد إبراهيم).




وحين نبحث عن تناول الثيمات التراثية في السينما الصينية، نجد أن هنالك ثلاثة مستويات احتلت البطولة الأكبر في هذا التناول: الحركة ـ الصورة ـ الكلمة، فللحركة دور هام في الأفلام الصينية ـ الشعبية منها والفنية ـ سواء على مستواها الديناميكي، أو الجمالي، في تحريك الكاميرا، واختيار زوايا التصوير. أما الصورة فتستمد من إرثها القديم الممتد لآلاف السنين القدرة على التلون والتشكل على كافة الأوجه بصريًا وأيديولوجيًا، بالإضافة إلى الكلمة المكتوبة، أو المروية، من خلال التراث الشفهي.


الجيل الخامس.. الطريق إلى العالمية
ظهر الجيل الخامس في الثمانينيات تحت ما يمكن أن نطلق عليه "الموجة الصينية الجديدة"، الحركة المغايرة في تاريخ السينما الصينية، المتأثرة بالموجة الفرنسية الأشهر التي غيرت وجهة السينما العالمية منذ ميلادها في فرنسا ـ نهاية الخمسينيات ـ على أيدي كازان، وتروفو، وغودار، وغيرهم، وزحفت لتشكل إمكانيات جديدة ومغايرة لفن السينما. أفرزت هذه الموجة أيضًا في مصر جيل الثمانينيات، محمد خان، وعاطف الطيب، ورأفت الميهي، وداوود عبد السيد؛ الجيل الذي قدم تجربة مغايرة وجريئة في تاريخ السينما المصرية والعربية، من حيث إمكانيات الكاميرا، والمواضيع، وزوايا التصوير، وفقًا للحركة الفرنسية التي حركت السينما من قيود جمالية لا تناسب جموحها المستمر.

ملصق فيلم "وداعًا بلدي المحظية" (1993) للمخرج كايج تشن 







انطلقت أفلام الجيل الخامس في السينما الصينية إلى آفاق العالمية، ونافست العديد من الأفلام، لتحصد الجوائز الكبرى للمرة الأولى في مهرجانات "كان"، و"غولدن جلوب"، وترشيحات الأوسكار، وغيرها. ويأتي فيلم "الأرض الصفراء" للمخرج كايج تشن (1984) في طليعة الحركة، وهو المخرج الأكثر حظًا في التقدير الدولي؛ حيث حظي عدد من أفلامه بالجوائز المحلية والدولية، ومنها الفيلم الجريء "وداعًا بلدي المحظية" (1993).
لمع اسم المخرج زانج ييمو، كأحد رواد الجيل الخامس. وعلى الرغم من بدايته كمصور سينمائي، واشتراكه في تصوير معظم أفلام تلك الفترة، حصدت أولى تجاربه في الإخراج "الذرة الحمراء" جوائز عالمية. وهنالك عدد من الأسماء اللاحقة لمخرجين شبان أضافوا كثيرًا من المعطيات الجمالية والبصرية للسينما الصينية.

لقطة من فيلم "الذرة الحمراء" للمخرج  زانج ييمو


من الأسماء المميزة، أيضًا، في هذا الجيل، المخرج هوانغ جيان شين، الذي يجنح بدرجة أكثر للاختلاف، منذ فيلمه الأول "حادثة المدفعية السوداء" (1985)، وفيه يأخذنا إلى رحلة من الكوميديا السوداء تقلب حياة أحد مهندسي شركات التعدين المُولع بلعبة الشطرنج رأسًا على عقب، حين يعود من رحلة عمل ليجد قطعة مفقودة، فيرسل برقية لأحد الأصدقاء مفادها "أعثر على الطابية". إلا أن البرقية تثير شكوك موظفي مكتب البريد، وبعد أن يتم عرضها على الأمن العام، تتبدل الظروف المحيطة بالمهندس، ليجد نفسه متهمًا بحادثة المدفعية السوداء، وعليه إثبات براءته من تلك التهمة العبثية.

ملصق فيلم "حادثة المدفعية السوداء" للمخرج هوانغ جيان شين


تجتمع في الفيلم أجواء فانتازية تذكرنا بعوالم الكاتب الروسي تشيخوف، والتشيكي كافكا، في رسم صورة البيرقراطية والوجودية معًا، ولا يخفى بالطبع العبثية المطروحة في السيناريو التي تستدعي بطل الرواية الشهيرة "المحاكمة"، حين يُساق "ك" من قبل مجهولين لمحاكمته عن جرم لن يعرفه ولم يرتكبه.

بين الصورة والكتابة.. حركة وموسيقى
يمكننا العثور بسهولة على بعض الملامح من السينما الصينية التي تتكرر في عدد كبير من الأفلام، وعبر العديد من الأساليب الإخراجية، وفي مقدمتها يأتي فن الأوبرا، وتحديدًا "أوبرا بكين" التاريخية والأوسع انتشارًا في البلاد منذ نشأتها قبل مئتي عام تقريبًا، وقد كانت موضوع كثير من الأفلام، على رأسها أول فيلم صيني مأخوذ عن قصتها، حتى رائعة المخرج كايج تشن "وداعًا بلدي المحظية" (1993). وفيها يمتزج الأداء الحركي بالغناء والموسيقى، وهو الملمح الثاني في التجربة الصينية على مستوى السينما والموسيقى معًا؛ فقد شكلت بعض الآلات نمطًا مميزًا يخص الموسيقى الصينية، بين الآلات النفخيّة والوتريّة، وتطعيمها بالآلات النحاسية، مما أعطى طابعًا من الصخب الدائم، وما يحمله من مشاعر مؤججة.




الفيلم عن رواية ليليان لي، وهو ما يقودنا إلى ملمح آخر وهام حول علاقة الأدب والسينما الصينية، حيث تستحوذ الأفلام المأخوذة عن عمل أدبي على نسبة كبيرة من النتاج السينمائي الصيني، الأمر الذي لم يكن من قبيل الصدفة، فعلاقة الأدب والسينما خاصة جدًا لم تتميز في طرحها كثيرًا من الدول والسينمات. وقد نجحت تجارب عديدة من السينما الصينية في طرح هذه العلاقة المعقدة بين الرواية ـ خاصة إذا كانت شهيرة ـ والوسيط الفيلمي، ولكل منهما لغته الخاصة والمختلفة. ربما فيلم "الذرة الحمراء" للمخرج زانج ييمو (1988) قدم نموذجًا مثاليًا في هذا الشأن.
الفيلم عن رواية "الذرة الرفيعة الحمراء" (1986) لأديب نوبل الصيني مو يان، وفي الرواية والفيلم تشابه في متن الحكاية بين رواية أديب نوبل الألماني، غونتر غراس، في رائعته "طبل الصفيح" (1959)، التي قدمها المخرج فولكر شلوندورف عام 1979 في فيلم يحمل الاسم نفسه. حملت ثيمة الحكايتين روي تاريخ البلدين ألمانيا والصين من خلال حكاية جدة الراوي، المدخل الرئيسي للدراما.
اللون، أيضًا، أحد الملامح الهامة في التركيبة السينمائية الصينية، فبرغم تنوع مستوياته البيانية في الأفلام، تبقي هنالك بطولة لحالتين بعينهما؛ درجات الألوان الصارخة، والدموية، في مقابل قتامة الأسود والرمادي، الذي قد يعتمد عليه الفيلم بكامله، مثل "الشروق الأخير للشمس" (2019)، للمخرج الشاب وين رن، من نوعية الخيال العلمي. الطريف في الأمر أن الفيلم عرض في فبراير/ شباط قبل ظهور أولى حالات كورونا في ديسمبر/ كانون الأول من العام نفسه، وتبع ذلك البيات الطويل في المنازل بسبب موجات الحجر والفيروس، من دون الحاجة إلى غياب الشمس، السبب الذي أبقى الناس في بيوتهم داخل دراما الفيلم.
أما عن صورة المرأة، فقد حذا رن حذو أسلافه من المخرجين في إظهار وجه خفي وخارق للأنثى. ورغم تبعيتها الجلية للرجل، إلا أنها تتعامل مع ضعفها البيولوجي بالحيلة لصنع البطولة التي تكون في أحيان كثيرة سببًا لإنقاذ البطل، أو الجماعة، وهو من أحد الملامح الهامة التي تتكرر في السينما الصينية على مر عقودها.


الطريق الضعيف للنجاة
للمرأة الصينية تاريخ طويل من الإقصاء والتهميش، شأنها في ذلك شأن معظم النساء في عموم الثقافات، جراء الهيمنة الأزلية للرجل، مهما اختلفت صورته؛ الأب؛ الزوج؛ الأخ؛ الابن، وما يستلزم ذلك من تبعية من جانبها. إلا أن تاريخًا نضاليًا للمرأة وقف حائلًا بين رضوخها الظاهري وقوتها الباطنة، فكثيرًا ما تُقدم النساء بطولات غير متوقعة تؤثر على مجرى الأحداث الدرامية، وهو ما نجد نظيره في السينما المصرية، حين نستعيد فيلمي صلاح أبو سيف، على سبيل المثال، "الزوجة الثانية"، و"الفتوة"، فنجد أن الزوجتين سعاد حسني، وتحية كاريوكا، تقومان بتغيير دفة الصراع لصالح الرجل.
ولا يخلو الوجود النسائي من الرمزية في بعض الأحيان، ففي فيلم "الذرة الحمراء" قد تمثل الجدة المروي عنها الصين نفسها؛ فالجدة تجبر على الزواج من مسن ثري مريض بالجذام، لكنه يموت، وتبقى الزيجة مع وقف التنفيذ، حتى تقترن من جديد بأحد عمال زوجها، وهو ما يتشابه مع ما مرت به البلد من حروب داخلية وخارجية، واحتلال، وفترات طويلة من الاستبداد السياسي، حتى جاءت الثورة بمفهومها الاشتراكي الأحمر: رمز الدم والثأر.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.