}

الفن التشكيلي إذ يجابه الحروب

أسعد عرابي 20 أبريل 2022
تشكيل الفن التشكيلي إذ يجابه الحروب
نذير نبعة، الشهيد، تقنية مختلطة، 1967



لم يكن صعبًا معالجة هذا الموضوع الشائك (الفن التشكيلي ومجابهة الحروب)، لأن تاريخ الفن يحتشد (بل هو متخم) بالأمثلة الفنية المندّدة بفظائع العسكريتاريا لدرجة وكأن اللوحة تقف بالمرصاد لتعسف وفساد وفظائع جنرالات القيامة الحضرية. إنما بالعكس فقد عانيت من اختزال هذه الأمثلة الرمزية الإبليسية المتراكمة، أقتصر فيها على المأزوم والأشد غثيانًا، ثم تقسيمها إلى ملفين تتجمع في الأول النماذج المختارة المختصة بنقد مواصفات قيامة الحرب من تعسف العسكر المسلحين وفسادهم، وإثارة الفوضى وقانون الغابة والاستباحة المطلقة، وذلك ابتداء من فظائع لوحات ومحفورات الفنان فرانشيسكو غويا إلى التعبيرية الألمانية التي تزامن ملتزموها الفنانون خلال الحربين العالميتين. أما الملف الثاني فيمثل التحول من موضوع الحرب إلى إبليسية البنية التشكيلية، من معالجة غثيانية للخطوط والمساحات والألوان إلى حدود المسخ والتشويه والتحريف، وعبثية التكوينات وبانقطاع تام عن تراكم تاريخ الفن منذ عصر الكهوف. مع استدراك تهيئة هذا المنحى الانتحاري من تيار الدادائية في بداية القرن العشرين، وتظاهرت البقية ما بين 1925 م و1929 م واستمرت رواسبها حتى الستينيات ما بين مونوبولين، باريس ونيويورك. تدين اللوحات عمومًا الإعدام الجماعي واجتياح المدن وشريعة القتل وطقوس الأضاحي وتعذيب الإنسان وبقية الأجناس الحية.

لا بد من تدارك أن أشد العلوم تقدمًا هي المختبرات العسكرية، وصناعة الأسلحة: الكيميائية - البكتيوروجية (الجرثومية) والذرية، وحتى الاكتشافات في الفيزياء الفلكية، وفضائياتها حيث محطات التلستار التجسسية والأقمار الصناعية وتأسيس القواعد العسكرية في الكواكب القريبة مثل مارس (المريخ) (وكالة ناسا الأميركية) والقمر (بداية الاستثمار الحربي الصيني). لعلها تهيئة لحرب النجوم (التي كانت من العلوم التخيلية) وأصبحت واقعًا.


"غيرنيكا"، بيكاسو، 1937



سأبتدئ من التيار المحوري الذي ترعرع على مدى مساحة بركان الحربين العالميتين (الأولى 1914 -1918 م والثانية 1939 -1945 م). يترسخ مع الاستهلال الأسطوري الجرماني لماكس بكمان المرتبط عضويًا (مثل الازدهار الموسيقي) بتفوق الفلسفة الألمانية. واستغلال النازية لفلسفة نيتشه حول التفوق الآري، وتحول إلى نظرية عنصرية أدت إلى أفظع مأساة في التاريخ. غذت الحروب النازية شتى الفروع التعبيرية الفنية ضراوة ومقاومة في الفن التشكيلي لعنصرية الحرب وفساد جنرالاتها. الفورة الأولى كانت مع جماعة جورج غروز وأوتو ديكس، مرورًا بغوتي كولفيتس، بالتوازي مع لوحة الصرخة للنرويجي التعبيري إدوارد مونك، ثم أقنعة وعرائس البلجيكي جيمس إنسور وصولًا حتى التعبيرية الثالثة المحدثة بقيادة جورج بالتز.

سنعثر على المواقف الوجلة في باريس في عهد بيتان من قبل فنانين بارزين في مدرسة باريس (المونمارثر) وعلى رأسهم حاييم سوتين الذي اختص بالذبائح الرمزية الحيوانية قبل خروجه من فرنسا مثله مثل بول كلي الذي هرب إلى سويسرا من ألمانيا في وقت كان مطاردًا فيه لأنه يدين باليهودية، وأحرقت لوحاته مع سواه في برلين عام 1936 م تحت تهمة (الفن الفاسد) وأغلقت مدرسة الباوهاوس الطليعية، ليحملها موهولي ناجي إلى واشنطن ولا زالت مستمرة إلى اليوم.

أوتو ديكس، هجوم بالغاز، 1924/ ماكس بيكمان، ليلة تعذيب، 1918.



نعثر في باريس على فنان كبير معاد للحروب، معتمدًا على نموذج الزجاج المعشق الغوطي هو جورج روو، ثم جان فوترييه ما بعد الحرب العالمية الثانية يصور بطريقة مقززة مجازية رؤوسًا مجزوزة. فقد كان في فريق الإعدام السريع دون محاكمة. ولا يمكن إنكار مرسيل كرومر الماركسي الذي اختص بتصوير شراسة الألبسة العسكرية وكابوس حضورها في المدينة، وسيكون لبيكاسو حديث آخر.

تعتبر المقاومة الفنية العربية جزءًا من نضال دول العالم الثالث ضد عسكرة العبودية، التي تحول اسمها إلى الاستعمار والتبعية العسكرية (من قواعد وسواها). يبدو أن صناعة التاريخ تمت من خلال سنابك أحصنة الغزاة، ما سجل منها في رسوم المخطوطات ليس قليل، خاصة اجتياح بغداد وأهرامات الرؤوس المقطوعة ولون المداد في الكتب المرمية في مياه دجلة والسبي والحرائق واستباحة المدن ابتداء من هولاكو 1258 م وتيمورلنك وأبنائهما ثم صور صلب الحلاج ثم شارلمان والإعدامات الجماعية بالسيف وقبلها اجتياح الإسكندر المقدوني ثم الحروب الصليبية وفظائعها، بقية الشعوب لم تكن بأحسن حال على مثال مذابح الهنود الحمر والقبائل الاسترالية، وسوق الأفارقة مع قتل أكثر من عشرة ملايين، وحرب التحرير بقيادة لنكولن (الولايات المتحدة)، وحرب المئة عام (إنكلترا وفرنسا)، ثم حرب الفيتنام ومجزرة راوندا ما بين 300.000 ونصف مليون قتيل (أطفال ونساء وعجزة) ومذابح الجزائر، وقهر مناطق أميركا اللاتينية من قبل الإسبان والبرتغال.

إذا قربنا مجهرنا التحليلي من المنطقة العربية وجدنا حروبها أشد دموية وفنونها أشد عنادًا في المقاومة. يمثل الصراع الإسرائيلي - العربي جوهر الفظائع الحربية المرتبطة بعسكرة الشرق الأوسط، هي على الأغلب ومنذ بداية الأربعينيات للقرن العشرين تقترف إسرائيل (المتفوقة عسكريًا ومخابراتيًا وعلميًا) كل أنواع القهر بما فيها الإبادة والحصار وسرقة التربة والتراث، إسرائيل دولة عسكرية قائمة على اقتصاد الحرب وصناعة الأسلحة لكل مناطق الحروب في العالم، لا يهمها تثبيت حدودها لأنها تقضم أراضي الجوار في الحرب والسلم. تتجدد كل فترة أسباب الصراع المسلح، من مشكلة القدس إلى ثورة الحجارة إلى مجزرة صبرا وشاتيلا إلى حصار غزة وقصف مواطنيها كل فترة إلى احتلال الجولان وشبعا في سورية ولبنان إلى استباحتها لأجواء هذه الدول والبناء المزمن للمستعمرات في أراضي الفلسطينيين دون توقف بما فيها مساحة الضفة الغربية. كثيرًا ما توظف إسرائيل الصراع الطائفي ضد اللاجئين الفلسطينيين في الدول المجاورة، كما هي الحرب الأهلية اللبنانية.

واختلط بالتالي الصراع ضد الاستبداد بالصراع ضد الاحتلال بشتى أنواعه. لعله من الجدير بالذكر استحضار دور الفنان الدمشقي نذير نبعة والعراقي ضياء العزاوي في انحياز رسومهما للنضال الفلسطيني. قد تكون صورة الشهيد التي ابتدعها نذير نموذجًا فنيًا لشتى كرافيكيات الفصائل لا تقل عنه حمية طباعات ومحفورات برهان كركوتلي، وقد لعب الكاريكاتور النضالي دورًا حاسمًا في مواجهة آلة الحرب الإسرائيلية مع ممتاز بحرة وعلي فرزات وبوسف عبدلكي وآخرين. تمثل تصاوير عبدلكي السياسية (مثله مثل ماهر بارودي) العلاقة الحميمية بين التعبيرية السورية والألمانية، هو أقرب إلى جورج غروز وكيفيير. يتفوق ضياء العزاوي فيما كرسه من طباعات ومحفورات للقضية الفلسطينية، ونظيره نذير نبعة كان ملتزمًا في جزء أساسي من نشاطه الكرافيكي بمطبوعات منظمة فتح.

تيسير بركات، عبر المتوسط، 2019/ سليمان منصور، تربة فلسطين المشققة، 2019 (جائزة اليونسكو)/ ضياء عزاوي، صبرا وشاتيلا، 1982/ عاصم أبو شقرة، صبّار، 1989



إذا عدنا إلى مجهرنا التحليلي المركزي وجدنا أنه بقدر ندرة الفنانين في إسرائيل بقدر وفرة عددهم وخاصة الملتزمين في الوطن الفلسطيني، ابتداءً من عاصم أبو شقرة الذي اختطفه السرطان شابًا وكان مدرسًا في معهد فنون تل أبيب، وخلف ميراثًا رمزيًا يرتبط بنبات الصبار لا يزال تأثيره حتى اليوم، ويراجع هذا الرمز المقاوم بأنه كان على عناده يشق تربة مواقع المذابح الجماعية التي كانت تقترفها عصابات الهاغاناه في الأربعينيات (قبل الاحتلال)، ثم أشاع زميله سليمان منصور رمزًا موازيًا هو التربة المتشققة من الجفاف بسبب الاحتلال، ثم أنسنة أشكالها التي تشف عن تراث الأرض والمواطن. أما تيسير بركات فقد اختصت لوحاته بالتدمير والتهجير الممنهج للمدن الفلسطينية، ومؤخرًا النزوح الانتحاري عبر المتوسط. نختتم العقد بفيديو منى حاطوم وإيماءاتها الصامتة الخرساء الصماء البكماء. عانت البلدان العربية في الشرق الأوسط من الهزائم الكبرى التي منيت بها من طرف التفوق الإسرائيلي، أكبرها اثنتان: حرب عام 1967 م وحرب تشرين عام 1973 م. مما قاد إلى عسكرة الأنظمة التي كانت ديمقراطية، وتداخل في اللوحات النضالية وتصدي الحروب الخارجية (كل أنواع الاحتلال) مع الحروب الداخلية. تخصصت لوحات يوسف عبدلكي في كشف فضائح فساد العسكريتاريا وأحزان تجربته في السجن. وعلينا الاعتراف بأن اللوحة النضالية ضد قوى الشر العسكرية انحسرت في السنوات العولمية الأخيرة، وبالعكس بلغت ذروتها سابقًا بعد الهزيمة بتأسيس جماعتي العشرة في دمشق بمبادرة من نذير نبعة والرؤيا الجديدة في بغداد بمبادرة من ضياء عزاوي - معارضتهما تجابه الهزيمة. وقد يكون يوسف عبدلكي الأخير الذي ما زال ملتزمًا بصراع اللوحة مع قوى الشر العسكرية والمدافع عن الحرية السياسية رغم اعتقاله وسجنه.

السؤال الشرعي الذي يطرح نفسه في ختام الموضوع: هل تقف مجابهة اللوحة الملتزمة عند مضمون نقدها ومواجهتها كما كان فرانشيسكو غويا يصف فظائع الحرب، أو حتى رمزية "الثورة تأكل أبناءها" أو استهلاله لمشهد الإعدام الجماعي؟

تفضح الرسوم التعبيرية الساخرة التهكمية لدرجة العدمية لجورج غروز مفاسد الطبقة القيادية العسكرية من جهة أخرى.

أنا أجد ان هناك مستوى أبعد في مجابهة قوى الشر الحربية، ترتبط أكثر بطريقة الأداء التدميري في اللوحة، قد يكون مثالها النادر لوحة غيرنيكا لبابلو بيكاسو (1888 - 1973 مـ) منفذة بالألوان الزيتية عام 1937، أي سنة قصف هذه الضيعة الإسبانية الوادعة بالطيران الفاشي. تبدو الأشكال مذعورة بطريقة تدميرها وانفصامها عن دلالتها، خاصة أن قياس اللوحة لا يخلو من العملقة: 770 سم * 345 سم.

نعثر في تفاصيل هذه اللوحة على عناصر تراجيدية من يد مبتورة أو حصان جريح أو مصاب يستنجد، أو حمامة مهيضة الجناح، لكن طريقة اختزال الأشكال وقصفها السادي وحركتها التجريدية الطبوغرافية المأزومة تتكشف أكثر في حشود الرسوم التحضيرية التي اجتمعت في أحد معارض متاحف بيكاسو: تحولات في التواء الأشكال وتناقض تشريحها ومناظيرها ووحشية قصها السحري على طريقة حيوية الأقنعة الأفريقية.

تتكشف هذه البنية الإحباطية الغثيانية العدمية العبثية اليائسة من خلال لوحة صغيرة بقياس 60*50 سم رسمها مباشرة بعد غيرنيكا وهي "المرأة الباكية"، وتحولاتها ضمن مئة لوحة نظيرة تكشف حجم الألم الذي يثيره عنف الحروب في وجدان الكائن الحي، الذي ينقلب إلى ملحمة مقنعة بتشويهات الاحتضار والنفس الأخير، كما نشهد أخفت درجاته في إعلام حرب أوكرانيا الراهنة، كل يوم وكل ساعة وإلى أجل غير مسمى قد ينتهي بحرب عالمية ذرية!


فيديو لمنى حاطوم:



الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.