}

رسوم بشار العيسى.. استقرار في مهب الريح

أسعد عرابي 18 مايو 2022
تشكيل رسوم بشار العيسى.. استقرار في مهب الريح
بشار العيسى ولوحة "جنرالات الجيش الميت.. سفلة القاع الإنساني"


يتفوق الفنان الكردي النموذجي المعروف بشار العيسى في تعدديته الأسلوبية. يبدّل لبوسه الإبداعي (رغم ثبات تقاليده التصويرية) بصيغة موسمية مثل الزواحف. وها هو يباغتنا في الأشهر الأخيرة بجديده من الشبكات الخطية المجدولة بكثافة، وضمن نسق من الحومانية الحاذقة اللجوجة والملحة، تماحك زحفه على الورق المصقول مما يسمح لأقلام الحبر الناشفة الدقيقة بالإنزلاق الدؤوب دون كلل أو ملل ودون أن يرفع يده عن التحزيز، باحثًا بعناد عن تفاصيل ذاكرته الطفولية في الارتحال الكردي (في الشمال السوري والرافدين) هو الذي لا يعرف الاستقرار. جموع من البشر ضمن الخطوط الهائمة على وجهها. تجتمع شبكاتها وتتفرق، دون أن تتخلى عن قدر سهم النزوح والانخلاع المتراكم عن أماكن الذاكرة، سواء الحضرية منها أم الريفية أم الاجتماعية. رسومه مثل لوحاته تعكس تضاريس هذه الهجرة السيزيفية، هي التي تغادر المكان إلى اللامكان؛ شأنها شأن النزوح السوري والقيامة الشامية بمصابها العام، تداعيات متدافعة من خطوط نحيلة أشبه بلحية كثة، أو شرنقات رهافة خيوط الحرير. نتبين في غبار وضباب وأمواج هذه الكتل الديموغرافية الفولكلورية هيئة أمهات تضم أطفالهن برعب متهالك، أو جمعًا من الماعز بهياكله العظمية الملتاعة من العوز والجوع والعطش، وكثيرًا من العجائز من الجنسين.

يكتوي الجمع بحرائق شموس الشمال السوري عبورًا من التضاريس الصخرية أو السهوبية أو البوادي المقفرة من الزرع أو الحقول المهجورة الجرداء تموج كتلها مع حركة الرياح والعواصف والزوابع والأعاصير. ناهيك عن صفعات الصقيع والرطوبة في شتاء الليل. هو شظف العيش في العراء، شهادة وتجربة خطوطية معاشة بصدق. تستحضر تحرقات سعدي يوسف عندما تنحنح: "ترحلت حتى ما عاد من مرتحل".

تتسم هذه الجماهير المحدثة من الخطوط بنخبوية تدربها، وتقنية أدائها المتسارع المأزوم. تستحق هذه المرحلة التأمل لجدة أصالتها. لذلك ابتدأت المقال بدراستها وموهبتها الأدائية.

الخروج من الجحيم، بابا عمرو، حمص 2012، حبر صيني على الورق   


لا شك في أن رسوخ شموليته الإنسانية وتطهره من القبلية والعصبية الثقافية العمودية ساهم به تداخل الأجناس البشرية وحركتها الأنثروبولوجية والإثنولوجية في منطقته، اختلاطه الحميم مثلًا مع وادي النصارى والسريان شركاء المنطقة، والنازحين الأرمن، والقادمين الموسميين من شتى الجهات والبقاع والأجناس ومنهم أكراد تركيا، للحصاد عدة أشهر والعودة إلى مناطقهم، أما المواسم التراجيدية فهي التي ترتبط بالألاعيب الاستراتيجية الكبرى واحتلال القرى وحقول الإنتاج ومواسم الهجرة عن مواطن الاستقرار والحرمان حتى من جوازات السفر، كلنا يذكر مأساة "حلبجا" في العراق وقصف الأبرياء النازحين منهم بالكيميائي والنشادر للأمهات والأطفال والعجزة من قبل نظام صدام حسين.

ندرك هنا حجم أتون الغضب الملتزم لبشار، وملاحقته كشيوعي وكمعارض واختفائه كل الأوقات ومنها أربع سنوات في لبنان، ثم استقراره النهائي في باريس - أرجنتوي، ولا شك بأن مرضه الخطير أقعد نشاطه ولم يصمت تصويره بل ازداد توقدًا وحرارة وحيوية ونشاطًا في العرض لا يفتر.

مجزرة نهر قويق، حلب 2013، حبر صيني على الورق   


يستقر بشار إذًا مع عائلته ومحترفه في مدينة فرنسية صغيرة تدعى أرجنتوي، تقع في ظاهر باريس، وضمن ضواحيها الغناء القريبة. تقع خلف هذا السلام والدعة والتوازن الظاهري ملحمة يمتد تاريخها في غور الزمان والمكان حتى مسقط رأسه عام 1950 في ضيعة أيضًا صغيرة في الشمال الكردي السوري تدعى غنامية، تبعد خمسة عشر كيلومترًا عن الدرباسية، التي درس فيها مرحلتي الابتدائي والإعدادي. درج على تحمل وعورة ثلاثين كيلومترًا سيرًا على الأقدام في كل يوم دراسي. وذلك في منطقة مدينة الحسكة التي تابع فيها يافعًا التأهيل في دار المعلمين. وهنا نعثر على تميز وسطه الثقافي (نصف الإقطاعي)، هي الفترة التي نقل أحد الأساتذة المتمرسين بمعرفة بواطن اللغة العربية قدرته الألسنية والنحو والصرف إلى مهارات الشاب المبكر في شبقه الثقافي التعددي، وأوصى عائلته بأنه من الضروري (استجابة لموهبته الفنية) أن يُعنى بتربيته الموسيقية أو التشكيلية أو الاثنين معًا، دعونا نتأمل بدقة نتائج هذه الشروط في تربية وسيرة بشار، سواء الثقافية الإبداعية أم الأيديولوجية.

إن تفوق تدربه باللغة العربية نافس عصبيته للغة الكردية بل قاده إلى يقين خطأ العصبية القومية لأي منهما فتحول من تربيته التقليدية إلى شمولية الفكر الماركسي، ثم اتجه بنوع من التعويض لعدم قدرة عائلته على ضمان دراسته في كلية فنون دمشق (التي تقع على حدود "بلاد الواق الواق" بالنسبة إلى خارطته الجغرافية) فتم اختيار اختصاص قسم التاريخ بالمفاضلة وبالمراسلة عن بعد، وهكذا كان.

من مجموعة حاملي الأطفال، فجيعة الأهل بالأطفال من جراء القصف الروسي في إدلب/ حاملات القش، ميزوبوتاميا 2009-2010، ألوان زيتية على قماش  


يخبرني بأنه تبيّن له في غمرة شبقه لانتهال الثقافة بشموليتها، أن الكتب المنهجية المقررة مزروعة بالأخطاء التاريخية غير الحيادية المتعصبة، فما كان منه إلا أن وسّع دائرة قراءاته وبحوثه ليقضم أمهات الكتب ويتوقف خاصة عند تناقضها باحثًا دومًا عن الحلقة المفقودة، هو ما يفسر تفوقه الثقافي والكتابي اليوم مقارنة بأقرانه، خاصة بعد أن أسس في الثمانينيات في باريس دار حداد للنشر ومجلة "المنبر" الصادرة عنها. وتسلم إدارة تحريرها والإنجاز الكرافيكي في إخراجها الطباعي. وهنا نعثر على بذور بوادر خطوطه النحيلة التي تفجر بركانها اليوم، كان يوثق يوميًا في مكتبه بأداة بالغة النحالة تدعى رابيدو غراف (بدرجة صفر) كل ما تجود ذاكرته من مظالم ربعه الكردي، وتحولت معارضته "الجيوبوليتيك" بالتدريج إلى موقف نخبوي مثقف وشمولي. وتحولت ممارسته للرسم الموهوب ثم اللوحة المحلية بما تملكه من بركانية ألوان حرائق شموس الجزيرة في الشمال، إلى تصوير جماهيري ملتهب يعبق بخصائص الذائقة ذات الهوية الكردية بدرجة ما.

لم يندم أبدًا على عدم تلقيه فن التصوير في الأكاديمية (كلية الفنون دمشق)، لأن قناعته ترسخت بأن الفن يرتبط بالمعاش وبالتجربة الحية، بالهم والقهر الجماعي وليس بالمختبر التقني، ولا يزال كذلك حتى اليوم.

يؤكد في أكثر من مناسبة أنه لا يوجد فن تراكمي كردي متمايز، وإنما هناك فنانون أكراد متباينو الموهبة، تبتدئ القائمة من رأسها بفاتح المدرس وتنتهي بموهبة عادل داوود عبورًا من برهان كركوتلي وبهرام حجو وعمر حمدي وغيرهم.

العديد من الشباب يعتبرونه الفنان الكردي النموذجي بسبب خصوبة إنتاجه وتعددية معارضه في العواصم العربية والغربية، وخاصة في ألمانيا، ولا بد من الاعتراف بثنائيته الإبداعية التي فاتت الكثيرين: العملية والنظرية، وهو ما يفسر تأسيسه لغاليري عرض مختصة في حي الماريه ثم أغلقها مع عملية القلب المفتوح.. شفاه الله ذخرًا للفن والثقافة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.