}

"عائلتي الأفغانية" لميكائيلا بافلاتوفا.. تشيكية في كابول

ندى الأزهري ندى الأزهري 30 مايو 2022
سينما "عائلتي الأفغانية" لميكائيلا بافلاتوفا.. تشيكية في كابول
حين يسخر الرجال من امرأة تقود السيارة!


أفغانستان ليست ملتقى الحضارات، ولا مقر حضارة تُعد من بين الأعظم. ليست منبع آداب وشعر ولا طبيعة ساحرة. هي في هذا العصر صور أخرى تمحو ما عداها. أفغانستان هي الاتحاد السوفييتي، وأميركا، والمجاهدون، وطالبان، هي الحروب والدمار، وهي المعاناة والجنون. أفغانستان هي الحقوق المهضومة للمرأة، شعرها المستتر تحت ملاءة، وعيناها المطلتان من فراغات مشبكّة، وصوتها المتردد في الصياح، وخطواتها المحسوبة من الرجال.
صورٌ لم تمنع امرأة شابة من أصل تشيكي من القدوم إلى كابول بداية الألفين، والاستقرار فيها بعد أن وقعت في الحبّ، فكانت شاهدة يومية على الاضطرابات التي تعيشها عائلتها الأفغانية الجديدة، والتناقضات المجتمعية، والاختلافات الثقافية التي تواجه امرأة أوروبية تستقر في الشرق. كتبت التشيكية بترا بروشازكوفا "فِرشْته"، من خلال هذا المنظور، وهو عمل أدبي مستوحى من حياتها اليومية هناك. المخرجة السينمائية التشيكية ميكائيلا بافلاتوفا لمست في الرواية حسًا إنسانيًّا عميقًا، ونظرة متفردة قادمة من الداخل، فحوّلتها إلى فيلم رسوم متحركة. فرض التحريك نفسه في "عائلتي الأفغانية" (2021)، كما تقول مخرجته في حوار ترويجي للفيلم، وهي فضّلت مع فريقها تطوير رسومات وأسلوب يسمح للمشاهد بأن يكون أقرب ما يمكن من الشخصيات. ولا يمكن إلا القول بأنها نجحت تمامًا في هذا.




قد يُظنّ لوهلة أولى أن "عائلتي الأفغانية" فيلمٌ محليٌّ يتعاطف مع جهود المرأة الأفغانية، وينقل وضعها في البيت عن كثب، ويكرّر صورًا وأفكارًا، وينتقد مجتمعًا يضطهد المرأة. لكن الفيلم يفاجئ بنغمته المتوازنة، ونظرته العميقة البعيدة عن ترداد المعروف، وبدقته وحساسيته. وإن كان يندد بانتهاك حقوق المرأة، فهذا من دون وضع الأخيار والأشرار في مواجهة، إنما ببناء الجسور فيما بينهم. كما تتجاوز أبعاده الإنسانية الدائرة الضيقة لوضع امرأة غربية في أفغانستان لتشمل حكاية زوجين محبين، وبحث عن التفاهم والتلاؤم والسعادة والاعتراف، في مواجهة أحداث يومية غير متوقعة.
يسرد الفيلم يوميات (هيرّا) الشابة التشيكية التي قررت، بدافع الحب، أن تترك كل شيء، لتتبع من سيصبح زوجها، إلى كابول في 2001. وهي بسبب تعلقها بنذير، تتخلى عن حريتها في مواجهة القيود المفروضة على النساء هناك، وطريقة معاملة الرجال لهن. لكن هيرا تجد القوة للاستمرار، يدعمها حبّ الزوج، ومساندة حماها الرزين المتفهم والمحترم للمرأة. يؤكد الفيلم من خلال شخصياته المتنوعة على الفرق بين جيل الآباء والأبناء. فوالد نذير هو من هؤلاء الذين يؤمنون ويطبقون دينهم بتسامح، ويتحلون بقيم الماضي وتقاليده المعتدلة، فطالما هو على قيد الحياة "فإن النساء سيُعاملن باحترام". فيما يبدو جيل الأبناء أكثر تشددًا وعصبية وعنفًا، وتبدو ردود أفعاله كمؤشر على الشك والخوف وانعدام الثقة. مثل الصهر المائل للعنف والمتعصب في ميوله وقرارته المتعسفة أحيانًا بحق زوجته وابنته (وهو في أحيان أخرى لطيف ومحبّ، من هنا توازن الفيلم تجاه شخصياته الغنية بتناقضاتها)، ومثل السائق الذي يقول لهيرا بعد أن هرَّب بنت الأخت من زواج مفروض عليها من والدها "كل هذا الخطاب عن الحرية يجعل بناتنا يهربن ويضاجعن أيًّا كان".

من فيلم "عائلتي الأفغانية" 


هيرّا، انطلاقًا من رغبة حقيقية من جانبها في تعلم القواعد المحلية، تردّ بذكاء، وكما يجب، على ما تراه ويصادفها، ويقال لها. لا ردود فعل عصبية، أو محتقرة، فهي تتجنب إهانة الآخرين، أو أيّ عنف لفظي. تارة تختار الدعابة للرد، وأخرى السخرية، ولا تدع مجالًا لمن أمامها بإمساك مأخذ عليها. هي تكتفي بالردّ على السائق "لعلك تريد لطالبان أن تعود". وحين يسخر رجال منها، ومن زوجها، لأنها تقود السيارة بالقول "هيا أرينا يا امرأة... أسرعي"، تبتسم وتقول حسنًا، لتنطلق بسرعة مثيرة الغبار حولهم. لقد فهمت هيرا جيدًا المجتمع حولها، وعرفت كيفية التعامل معه من دون خضوع. كانت تنحني أحيانًا لتجعل العاصفة تمرّ، ولكنها تقف من جديد لتلائم بين مفاهيمها ومفاهيم هذا المجتمع. تحاول الاستفادة أيضًا من خصاله، كهذا الارتباط العاطفي، وهذا الحب الذي تحيطه بها عائلة زوجها، واهتمامه هو بها، ومحاولاته التغلب على تناقضات وضغوطات مجتمعه. هذا ما يبرزه الفيلم على نحو رائع، هذان العالمان اللذان يواجهان بعضهما بعضًا بخفة وجدية معًا في قصة حساسة تتجنب ابتزاز المشاعر بالمبالغات العاطفية، ثرية في شخصياتها. فشخصية هيرّا صورة مجسدة لامرأة منفتحة ذكية، أما الزوج فهو تجسيد تام للرجل المتفتح، إنما المتأثر أيضًا بتناقضات مجتمعه، وهو على الرغم من غيرته وحساسيته الشديدة تجاه مسألتي السمعة والشرف، بقي محبًا ومتفهمًا لزوجته. أما الطفل، الذي يسمح ظهوره بتطوير الحبكة وإغنائها بعنصر جديد، فهو صغير متخلى عنه معاق غريب الأطوار يرتكب حماقات غير عادية، لكنه يجذب لطرافته وأقواله وتعليقاته المفاجئة والمدهشة أحيانًا في نضجها وسخريتها. وهيرا التي تجد نفسها عاقرًا تعثر في الصغير على أمل جديد يساعدها على العيش والاستمرار، فتتبناه.

"عائلتي الأفغانية "


تأتي قوة السرد من خلوّ "عائلتي الأفغانية" من أي مواعظ في موضوع حساس، كما تتجلى دقة ملاحظة السيناريو ليوميات هذه الأسرة الأفغانية الحافلة بكل ما يخطر، وما لا يخطر، على البال. لكن الفكاهة تختلط مع مآسي الحياة، ما يخفف من حدّة القصة وآلامها، ومن مأساوية بعض المواقف، لا سيما في النهاية. ومع حسّ الطرافة السائد في الفيلم، يبدو أحيانًا أن قصص الأزواج والزوجات والعشاق والأصدقاء والأهل تنطبق على كل مكان. ولا يمكن إغفال تأثير التحريك الذي أضاف حيوية على السيناريو، وكان مبهرًا بصريًّا على الرغم من بساطته، وذلك في خطوطه الدقيقة، ورقّة ألوانه، بين الأخضر الدافئ الذي يعكس دفء العلاقات، والترابي الطبيعي الذي يعكس جمال المكان. وهو ما سمح للقصة أيضًا بأن تكون أكثر وضوحًا وسهولة للفهم. وكان ممكنًا التقاط مشاعر قوية وإسباغ الطرافة على السرد، في صورة أنيقة تذهب إلى الأساسيات، وتعطي مزيدًا من التأثير للحدث والقوة، ما جعل المشاهد يستغرق في القصة متعاطفًا مع شخصياتها، كأنها حقيقية في أشكالها البسيطة القريبة من الواقع.




المخرجة ميكائيلا بافلاتوفا، وهي أيضًا ممثلة، سبق أن نالت أفلامها جوائز عدة في مهرجانات. وترشح بعضها، مثل "ريسي"، إلى الأوسكار، كما شارك أحدها، وهو "ترام" (2012)، في أسبوعي المخرجين في مهرجان "كان". هنا، قدمت فيلم تحريك واقعي بسيط تختلط في موضوعاته المعقدة والمؤلمة روح الدعابة الرقيقة مع الجدية بكل رهافة. فيلم واضح يخدم أجواء القصة، حيث لم تضع الجماليات في المقدمة، لينسى المشاهد الشكل، ويرتبط بالشخصيات، كما قالت. تعاملت مع الشخصيات بحب كبير وحقيقي مهما كانوا، ونقلت بهجاتهم الصغرى برغم الآلام الكبرى في فيلم مؤثر ودقيق يأخذ في عين الاعتبار تدرجات المشاعر والأحداث، ويثير وجهات نظر عدة في بلد مزقته الحرب.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.