}

"بول سيزان وأنوار الريف".. معرض سيبراني رائد

أسعد عرابي 4 مايو 2022
تشكيل "بول سيزان وأنوار الريف".. معرض سيبراني رائد
مراحل سيزان على الشاشة المعلوماتية

 



افتتح الموسم الراهن بمعرض قوبل بترحاب يتفوق على إغراء عنوانه "بول سيزان والأنوار الساطعة في الأرياف"، لأن أهميته ترتبط قبل كل شيء بالتقنية المستقبلية السيبرانيّة. هي التي تعتمدها الإسقاطات الصورية، من تسجيلات الفيديوهات المتعددة بكثرة، على مساحة جدران الصالة التي تتجاوز الألف وخمسمئة متر، تبدو صدمة هذه الاستعراضات التقنوية أشبه بمختبر رائد بصري يطوق بيئة المشاهد من شتى الأطراف، ويقتحم ذائقته وحساسيته الذوقية التشكيلية. ألوان نفاذة معلوماتية، وقياسات نسبية عملاقة تكشف التفاصيل المخفيّة بالعين المجردة، هو ما يدعى "بمحترف التنوير" الوحيد في باريس وأوروبا، والذي تأسس في أواخر 2018 مـ، معتمدًا على الفيزياء البصرية الحديثة بما فيها من تأثيرات "الهولوغرام" وأشعة ليزر اللونية المشبعة بأقصى درجات الإثارة البصرية (الحارة مقابل الباردة)، أي تباين شدة نفاذ اللون وتحليله المعلوماتي بفيض متخم بالإضاءة الليزرية. سياحة مثيرة للعين والذهن والخيال تستبطن العناصر المهمة، يكشف العرض مثلا كوامن تفاحات سيزان التي تتراقص بحجومها العملاقة في الفراغ وكذلك الأمر بالنسبة إلى تصوير جبل "سان فكتوار" رمز مدينته "إكس أون بروفانس". يستعرض برنامج سينوغرافية هذه العروض (المترفة بحداثتها) بتوهج نقدي بالغ الإتقان تربويًا.

يمتد تاريخ العرض من الثامن عشر من شباط/ فبراير من العام الحالي 2022 مـ، وحتى بداية شهر كانون الثاني/ يناير من العام المقبل 2023 مـ، وذلك لما تطلبه تحضيره من تقنيات عالية باهظة التكاليف. وقد تم اختيار بول سيزان بعد اتفاق المختصين مؤخرًا حول تثبيت ما درجنا على وسمه بمؤسّس الفن الحديث في مونوبول عاصمة الحداثة. لعله من الجدير بالذكر أن فناننا ولد عام 1839 مـ في نفس المدينة ولم يغادرها إلا للدراسة وتوفي ودفن فيها عام 1906 مـ.

جبل سان فكتوار رمزًا لمدينة إكس أون بروفانس/  تفاحات سيزان والفراغ السيبراني  



مراحل تطوره التشكيلي

يعيدنا المعرض إلى نقطة الصفر في سيرة تلك الفترة (النصف الثاني من القرن التاسع عشر)، ابتداء من إساءة الأديب الأكبر إميل زولا في إحدى رواياته لفن سيزان (زميله منذ الدراسة الابتدائية في نفس المدينة). تنبه الفنانون إثر قطيعة سيزان لصديق عمره إلى التناقض خاصة في مساحة الرومانسيّة ما بين الكلمة واللون (تناقض نوعي في المادة) وأصبحت كتابات النقاد الوافدين من الأدب والصحافة متواضعة المصداقية. هو ما يفسرّه ثوار فناني ما بعد الانطباعية، ومنهم سيزان، على عقيدة هذا التيار المتأثر أصلًا بشيفرول، عالم البصريات الفيزيائي، من خلال كتابه الموجّه إلى صنّاع السجاد مثل طراز غوبلان وسواه، فنظريته التوليفية في دمج الألوان وهمًا على الشبكية وليس كيميائيًّا على الباليتا، دفع بعض رواد الحداثة المنخرطين في هذا التيار وعلى رأسهم سيزان وبول غوغان (الذي أسس جماعة بول آفين) منتقدًا الانطباعيين بقوله الشهير: "إنهم يبحثون حول العين وليس في المركز الخفي للفكرة"، وقول زميله بول سوريزييه: "ليست اللوحة أكثر من مجموعة ألوان مرتّبة أسلوبيًا وفق شخصية الفنان بنسق معيّن". ومن هنا كانت بداية التحول من استلهام المناظر الطبيعية إلى التجريد الغنائي في مدرسة باريس، بل ويفسر تقارب أسلوب كلود مونيه (مؤسس الانطباعية) من ضفاف التجريد، وتأثيره على تجريد "مدرسة نيويورك". إذا أعدنا تأمل البنية الهندسية في مناظر سيزان في مرحلته الاستهلالية الانطباعية وجدناه أقربهم إلى التجريد الهندسي، خاصة في تكويناته الهرمية التي تنحاز إلى نظام المثلث سواء في المناظر المحلية الطبيعية أم في تكوينات السابحات.

إن تجديدات بول سيزان التي أرجعت العناصر الطبيعية إلى قوالبها الأساسية مثل الكرة والمخروط والأسطوانة في الأشجار والأغصان والأجساد البشرية كانت تعصى على ذائقة أمثال إميل زولا، الذي كان يحتقر مثل العامة موضوع "الطبيعة الصامتة" الذي لا يملك تقاليده مثل الفن الفلامنكي، وتاريخه يبدأ من موظف في متحف اللوفر هو جو شاردان، سيزان حذا حذوه واكتشف في اللوفر هذه الهندسة الكلاسيكية من فنان فرنسي عريق مستقر في روما (ما بين القرنين السادس عشر والسابع عشر) يدعى نيكولا بوسان. أثارت انتباهه طريقة معالجته الرؤيوية لأسطوانات المعابد اليونانية والرومانية.

تفاحات سيزان- كرات ملونة/ هندسة الجسم البشري



الثائر الثالث على الانطباعية كان مؤسس "التجزيئية" التي شاع اسمها الصحافي الساخر "التنقيطية"، وهو بول سينياك وزميله جورج سورا. أسس الأول الكتابة التحليلية للوحة من قبل الفنانين الممارسين وقطع بذلك الطريق على وصاية النقد الوافد من الأدب والصحافة في كتابه الانعطافي: "من دولاكروا إلى ما بعد الانطباعية"، مصحّحًا شتى المفاهيم المغلوطة التي أشاعها الجهل التشكيلي بما فيه بخصوص هندسة مرئيات العالم من قبل بول سيزان. لم تتكشّف أهميته الكلاسيكيّة المحدثة لسيزان إلا بثمرة أبرز تيار حداثي وهو "التكعيبيّة" بمرحلتها التحليلية التي اختبرها بابلو بيكاسو ومرحلتها التركيبية التي اكتشف ملصقاتها جورج براك أثناء إصابته خلال الحرب العالمية الكبرى الأولى.

كثيرون يربطون شيوع الجدلية المادية (عبر ماركسية بيكاسو)، بالمعالجة التكعيبية، وذلك بطرحها في نفس اللوحة الأطروحة ونقيضها، ومهما يكن من أمر فإن تكويرات تفاحة سيزان تفضح اكتشافاته حول الكتلة المصمّتة، مثلها مثل تكويرة أو مخروطية الشجرة، وصلابة جبل سان فيكتوار الذي صوره عشرات المرات.

بالنتيجة يمثّل بول سيزان في التصوير، وبرانكوسي في النحت، المصدرين الأساسيين لروافد تيارات الحداثة التشكيلية؛ تبدأ بالبداهة البصرية وتنتهي بالقناعة الذهنية.

منظر من أعمال سيزان والتكعيبية المبكرة / لاعبو الورق والأكمام الشبيهة بالأسطوانات

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.