}

سنوات العشرينيات الألمانية.. الموضوعية الجديدة

أسعد عرابي 6 يوليه 2022
تشكيل سنوات العشرينيات الألمانية.. الموضوعية الجديدة
ماكس بكمان والتأسيس للتعبيرية الألمانية

 

 

 

يتحفنا متحف الفن المعاصر في مركز بومبيدو الثقافي (في بؤرة القلب النابض لعاصمة التشكيل، باريس) بمعرض طال انتظاره، لأنه يمثل الحلقة المفقودة بين أبرز معرضين للفن الألماني أقيما في نفس المتحف، كان الأول حدثًا باهرًا بجذبه الجماهيري، وهو المعرض الاستعادي لمؤسس خصائص التعبيرية - الميثولوجية الآرية ماكس بيكمان (1884 - 1950) الأب الروحي لجورج بازلتز (مولود عام 1938 مـ). ومعرضه الراهن الذي يقام لأول مرة في فرنسا، ولا يقل جماهيرية حدثية عن الأول رغم أن الفارق يتجاوز جيلين من التعبيرية بينهما، وهو موضوع المعرض الراهن ما بين بكمان وبازلتز. إذًا قوة أصداء معرض بازلتز ليست بريئة عن ضرورة اللحاق بعام 1920 مـ في معرض انفجاري مستقل، ابتدأ منذ الحادي عشر من أيار/ مايو مستمرًا حتى الخامس من أيلول/ سبتمبر من العام الراهن 2022 مـ.

لا تخلو أفكار المعرض من اختلاط قد يشوش الزائر غير المختص، وذلك بسبب تداخل وتراكب نقاط علام المفاهيم والتيارات التي تشكل مصداقية العنوان، واختيار تاريخ حساس تتجنبه المؤسسات التشكيلية 1920 مـ بداية التحول الفني ما بين الحربين، وارتباطه بالحرب العالمية الأولى ما بين 1914 مـ و 1918 مـ التي تدعى بالحرب الكبرى بسبب عظم التدمير وعدد الضحايا وتوهم العالم أن هذه الحرب لن تنتهي مع العشرة ملايين ضحية، لذا فإن الحرب العالمية الثانية (1939 - 1945) تعتبر استمرارًا للأولى وكذلك الثالثة التي نشهد بداياتها ولا نتخيل نهايتها مع تدمير كامل للكوكب الأرضي.

"الصرخة" لإدوارد مونك - التعبيرية الأوروبية /  "كرنفال الأقنعة" لجيمس إنسور - التعبيرية الأوروبية / "امرأة ترتاد المقهى" (ألمانيا، 1920) لأوتو ديكس



دفعني هذا التداخل المربك في المعرض إلى إعادة تنظيمه والبدء من البداية، ليس فقط من باب التبسيط وإنما الفهم الأعمق لمغزى فنون ردود الفعل في كل مرحلة. خاصة ما خلفته نكبات الحرب الكبرى (الأولى) من موجات فوضى حكومات الحرب العسكرية، وفسادها في المجتمعات الأوروبية، وإذا كانت نتائج هزيمة بروسيا يرجعها الألمان إلى اليهود فإن أعوام العشرين تمثل نهوضًا للحقد اللاسامي أو بالأحرى شيوع عنصرية أفضلية العنصر الآري (على السامي) باعتباره شماليا يبتدئ من الهند وإيران وينتهي بألمانيا والمتميز بالقدرة على الإبداع في شتى الميادين الفنية والعقلية. بعكس الجنوبي السامي المعادي للفكر، والمنتج للهمجية والتخلف والتآمر والفوضى. وصلت هذه المغالاة إلى ذروتها مع الحزب النازي بقيادة أدولف هتلر الذي سيطر مع الفاشية الإيطالية على مجريات الحرب العالمية الثانية وجرائم الهولوكوست الأشد وحشية في تاريخ البشرية.

تتمثل المفاهيم الثلاثة المتداخلة زمانيًا وفكريًا في المعرض في ثلاثية التيارات الفنية: "الدادائية" و"التعبيرية" و"الموضوعية الجديدة".

سأبتدئ من الأقدم والأشد تأثيرًا على شتى تيارات الحداثة وما بعدها.

1) الدادائية: يجتمع في زيوريخ (المدينة السويسرية المحايدة) عدد من المبدعين في شتى الميادين مجابهة لقرار الحرب العالمية المدبرة من عقل أصحاب القرار، تبدو الحركة إذًا مقاومة ومعادلة للحرب والعقل الذي أنتج الفنون البورجوازية التي مهدت للعنة هذه الحرب. تتكشف معاداة تقاليد المنطق التقني والتراكمي لفن اللوحة والمنحوتة والمحفورة، من خلال بيان أبرز المجموعة وهو كريستيان تزارا يصرح فيه وخلال السنوات الأولى من الحرب: "كل شيء يساوي لا شيء، إذًا لا شيء هو كل شيء". فتحوا القاموس بالصدفة فوجدوا كلمة دادا (ابن الحصان) فسموا المجموعة هكذا بهذا بالصدفة.

تواترت اجتماعاتهم خاصة عام 1916 مـ حيث برز نجم المجموعة بدون منازع مارسيل دوشامب (1887 - 1968 مـ). بالإمكان الاعتراف بأن أغلب التيارات اللاحقة له مفاهيمية، (ولكن أعماله ليست مفاهيمية كما يشاع)، خاصة "الريدي ميد" المجهز بطريقة مسبقة مثل الدراجات والمشاجب المعدنية، حتى وصلنا عام 1917 إلى موضوعه الرمزي "المبولة"، رفضت في البداية من عروض الدادائية ثم قبلت على مضض ودخل المتحف، وظل يبيع نسخها حتى خلال سنوات الستين. يعلق هو نفسه بأن ما يدخل المتحف ليس بالتأكيد أنه فن أصيل.

ندرك هنا صفة العالمية في هذا الاتجاه الذي انتشر بسرعة في أوروبا والولايات المتحدة (مع نجم الدادائية المحدثة روشنبرغ). ومعاداة كل ما هو تراثي وقومي وتعصبي وفلسفي ثقافي يعتمد على العقل. تزامنت مع تيار السوريالية التي تمثل بدورها النكوص إلى اللاوعي بدلًا من الوعي.

ماكس بكمان والميثولوجيا الآرية /  جورج غروس وقصف المدن خلال الحرب العالمية الأولى / جورج غروس والموضوعية الجديدة ما بعد الحرب العالمية الأولى



2) التعبيرية: تمثل الاتجاه الأبرز والأكثر شمولية والعام في المحترفات الألمانية، هي التي عانت من الحروب أكثر من غيرها. لأنها الصيغة المأزومة والمتألمة من الرومانسية، تعتمد مثلها ومثل فلسفة كانط وهيغل على مركزية الإنسان أمام ترصد قدره، ومصيره التراجيدي، عاطفة عمودية مثل شرخ الجروح المزمنة، لعل المثل المطابق يمثل أشعار شيللر في السيمفونية التاسعة للودفيغ بيتهوفن، المعروفة بالقدر فالإنسان كما يؤكد خاتم الفلاسفة الألمان مارتن هايدغر محكوم بقدره. وكأن هدف الحياة هو المصير المحتوم للموت. من أبلغ أمثلتها المعلم الأكبر ماكس بكمان (1883 - 1950) وصولًا حتى "التعبيرية المحدثة" التي يمثلها بعد ثلاثة أجيال جورج بازلتز (من مواليد 1938 مـ). تقع بينهما "كوتي كولفيتز" واثنان من الموضوعية الجديدة التي سنتعرض لها، وهما أوتو ديكس وجورج غروز. وكان اثنان قتلا في الحرب خلال الخدمة الإجبارية وهما فرانز مارك وهانز ماك.

انتشر هذا التيار لشموليته وردود فعله على مدرسة باريس الانطباعية والتجريدية الغنائية، في أوروبا وأميركا. لعل أبرز اتجاه استهلاكي في مدرسة نيويورك يصالح بين الذائقتين الفرنسية والألمانية والمدعو بالتعبيرية التجريدية. على رأسها الهولندي وليام دوكونينغ، عرفنا في أوروبا إدوارد مونك البلجيكي صاحب أشهر لوحة "الصرخة"، ثم السويسري جيمس إنسور المختص بكرنفالات حشود الأقنعة المجازية في صبوة تعرية الحقيقة بالنسبة لهذا التيار.

يمثل ماكس بكمان المعلم الأول حشودًا من الميثولوجية البروسية (الألمانية النمساوية) الآرية. ورث عنه جورج بازلتز قلب الأشكال ورسمها بطريقة بهلوانية معكوسة، فأصبحت صفة لازمة لاستفزازاته ما بعد التعبيرية، يصور كل مرة اللوحة باتجاهها التقليدي ويقلبها عند عرضها. يجتمع الاثنان على أهمية التعبيرية البسيكولوجية الحادة في المرآة (الأوتوبورتريه) يفضلها بازلتز عارية. أضيف مؤخرًا إلى المجموعة كييفر بمطامحه السياسية.

وصل تأثير هذه النزعة إلى محترفات الشرق الأوسط خاصة سورية ابتداء من تلميذ بازلتز، وهو مروان قصاب باشي، ثم نذير نبعة في بعض مراحله، ويوسف عبدلكي وياسر الصافي (في محفوراته) وماهر البارودي وسواهم في مصر عبد الهادي الجزار مثلًا وفي العراق علي طالب وسواه وفي فلسطين ولبنان والأردن.


3) الموضوعية الجديدة معروفة أكثر كمجموعة باسمها الأوروبي La nouvelle objectivité وهي موضوع المعرض 1920 مـ.

نشأت بداية ما بين الحربين وبالذات قبل 1920 مـ على أنقاض التعبيرية، وكرد فعل عليها، فهي مشاكسة للذائقة العامة حتى أنها تبدو وكأنها استمرار لاستفزازات الدادائية. تفضح فساد عسكريي ما بعد الحرب، واستباحتهم لكل محرمات المدينة من نساء إلى أطفال وعجائز، وتضخم الحدة الطبقية مترافقة مع المجاعات والفقر. بعضها يصور أهوال الحرب بأقنعة الغاز والشعشعة الذرية. عرفت منها أساليب الكبار، خاصة أوتو ديكس. من أشهر أعماله بورتريه لصحيفة سيلفيا فون هاردين. واختص جورج غروز بفساد العسكريتاريا، لذلك تأثر به وبكييفر المصور المعروف يوسف عبدلكي وزميله ماهر البارودي - إضافة إلى عبقرية الفوتوغراف أوغست ساندير.

إنه معرض بالغ الأهمية، خاصة وأنه يخاطر بعرض المحرمات الحساسة، بعض الحقائق الفنية تعرض لأول مرة مما يساعد على التفريق الرهيف بين المفاهيم الثلاثة الرديفة والمتداخلة.


الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.