}

الانطباعية بين المحلية والعالمية

أسعد عرابي 9 أغسطس 2022
تشكيل الانطباعية بين المحلية والعالمية
كلود مونيه وزوجته على المركب المُحترف، إدوارد مانيه، 1874

 

ابتدأت الانطباعية من إسبانيا (على يدي جو سارولا) المقيم في أميركا ثم نقل أسلوبها إدوارد مانيه، وفي فرنسا ابتدأت من الهافر (على يدي أوجين بودان) وليس في باريس، واكتسبت فيما بعد الطابع الأميركي.

من المعروف أن تيار الانطباعية يمثل أبرز الحركات في النصف الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين. وقاد خلال أكثر من قرن إلى أغلب تيارات المعاصرة والحداثة، سواء في مهدها الفرنسي المفترض أم الأوروبي أم الأميركي. انتزعته "مونوبولية" روما (في عصر بونابرت الأول وسيطرة "الإيطالية" على كبار الفنانين وعلى رأسهم المعلمان جاك دافيد وجان آنغر) إلى باريس ثم انتزعته نيويورك في ستينيات ما بعد الحرب العالمية الثانية.

لعل إصرار النقاد والمؤرخين في فرنسا على أن هذا الاتجاه يمثّل محترفًا أحاديًا: فرنسيًا باريسيًا، حكم لا يخلو من العصبية القومية والسياسية والتنافسية مع الولايات المتحدة الأميركية ومع عواصم الفن الأوروبية: لندن - مدريد - روما - كوبنهاغن، وغيرهم، ثم إقصاء تأثير الشرق (سواء الاستامب الياباني لهيروشيج وهوكوساي أو الفن الإسلامي) وتهميش دور مدن فرنسية كانت محطات لفنانيها مثل ميناء الهافر وروان وأرجنتوي وجفرني.

ابتدأ كل شيء مع تأسيس نابليون الثالث لـ"صالون المرفوضين" عام 1863 مـ. أغلبهم من فناني الانطباعية الذين منعوا من الاشتراك سابقًا في الصالون الرسمي بسبب نفوذ الأكاديميين والمستشرقين في لجان التحكيم، ولكن بول سيزان لم يقبل ولا مرة (عيّره صديق طفولته إميل زولا في إحدى رواياته فكانت القطيعة الشهيرة).

شارك إذًا في هذا الصالون البديل كل من إدوار مانيه وكلود مونيه وأوغست رونوار وكايبوت وإدغار ديغا وسيسلي الإنكليزي وبيسارو واثنين من الانطباعيين الأميركان، فكان هذا أول لقاء يجمعهم. ولم يتوقف في وقت محدد إلا مع وفاة كلود مونيه ليستمر في مدرسة نيويورك من خلال بعض رواد التعبيرية التجريدية (على غرار جاكسون).

"انعكاس شروق الشمس" لكلود مونيه، 1872  



هو إذًا تاريخ أول تجمّع للانطباعية بأبرزهم إدوار مانيه بلوحته الفضيحة "غداء على العشب" المرفوضة بسبب تصويره لامرأة عارية بين مدعوين بألبستهم العادية. ترسخت هذه الصورة الاستفزازية عنه بلوحة الصالون الثاني "عارية مضطجعة" ذات هيئة عامة نجدها في أي بار، وخلفها خادمتها الأفريقية تحمل باقة زهور. لم تتخلص اللوحة من عادة العبودية ولم تكن بمأمن عن الشراكة الإيطالية في الانطباعية لأن العارية مستلهمة لدرجة كبيرة من لوحة تيسيان، لذا دعيت أولمبيا (وقورنت سابقتها بولادة فينوس لبوتيشيللي). يتجاوز هذا التقاطع الانطباعي تواضع هذه الإشارات إلى إغفال نقاد ومؤرخي فرنسا التيار الانطباعي الموازي لنظيره الفرنسي في إيطاليا (من عام 1850 وحتى 1880 مـ) بعضهم استقر في فرنسا مثل فريدريكوزاند وميسجي 1834 مـ. وشاركوا بأربعة معارض فرنسية.

لا بد هنا من استدراك التيار الذي يُعتبر استمرارًا للانطباعية وهو التنقيطية (التجزيئية) المعتمد على صراحة لمسة الفرشاة الجزيئية اللون، بادر به بيسارو ولم يعتبر مؤسس الاتجاه أبدًا، بعكس جورج سورا في لوحته العملاقة (2x3) "بعد ظهر أحد أيام منتجع غات"، ثم وبعد وفاته المبكرة تسلم رأس المجموعة الفنان والمنظر والرحالة بول سينياك (وانخرط في عروضها هنري إدوار غروز).

"بعد ظهر أحد الأيام في منتجع غات" لجورج سورا، 1884



لا بد أيضًا من استدراك أن إدوار مانيه صوّر عام 1874 مـ مركبًا محترفًا لكلود مونيه مع زوجته عائمًا في نهر السين على ضفاف قريبة من جونفيليه، باعتبار أن مادة الضوء وقزحيته ورفيف موجة أكثر أهمية للتحليل (في لوحة الخارج) من الجاذبية الأرضية. ستتضاعف هذه الصبوة مع امتلاك بول سينياك مركب أسفار يجول به كبحار محترف مرافئ البحر الأبيض المتوسط، يصل به بعد سنوات إلى إسطنبول معلقًا على مصادفته لنفس مبادئ التنقيطية في الفسيفساء البيزنظي والعثماني المزجج. تعكس لوحاته شتى المحطات التي عبر عنها تصويره بما فيها فينيسيا التي حط مركبه للاستراحة والتصوير فيها (مثله مثل مونيه).

يتوج بول سينياك بعد عودته هذه الخبرة الانطباعية - التنقيطية بكتابه الشهير "من دولاكروا إلى ما بعد الانطباعية" عام 1899 مـ. وقد أثّر مانيه على أغلب فناني هذه الفترة، أغلبهم بادروا بحثهم الخاص باستعارة التقنية التنقيطية، قبل أن يتحولوا إلى تيارهم المغاير، مجتمعين في نفس "صالون المرفوضين" على غرار أندريه ديران وهنري ماتيس (قبل أن يؤسس الوحشية عام 1905 مـ)، وجورج براك (قبل أن يؤسس التكعيبية مع بيكاسو) وموندريان (قبل أن يستقر على التجريد الهندسي) وكانديسكي (قبل أن ينخرط في تجريده الخاص). وهنا لا بد من استحضار اجتياح هذه التقنية لأعمال المستقبليين الطليان في ميلانو (مثل بوتشيوني). أسس هذا الاتجاه فنان اسكندراني من مصر المتوسطية. كما لا بد أن نعرج على ملاحظة أن الفنانين أنفسهم الذين أسسوا النقد الفني ما بين فاساري (عصر النهضة الإيطالي) وبول سينياك، كثيرون حذوا حذوهم، مثل كاندينسكي وبول كلي حتى أصبح بعض فناني الطليعة وما بعد الحداثة يملكون مكتبتهم التأليفية التي تضاهي عدد أعمالهم الفنية مثل فيكتور فازاريللي. أما في أوروبا الشمالية فإن أبرز الانطباعيين هو الفنان السويدي أندر زورن.

ثلاث لقطات من تحولات الضوء على واجهة كاتدرائية "روان" لكلود مونيه



الانطباعية الأميركية

أثبتنا حتى الآن الشراكة الإسبانية- الإيطالية في نمو الانطباعية. بقيت أمركتها الأشد تفوقًا وفضلًا عن كل ما عداها، على مثال الفنانين الأميركيين السبعة الذين أقاموا في جفرني الفرنسية ابتداء من 1887 مـ مثل جون سينجر سارجان، الصديق الحميم لمونيه، وعرف هؤلاء باسم الجغرافيين لأنهم مهدوا الطريق لمن تبعهم وانخرط في الانطباعية الأميركية، أغلب أعمالهم موجودة في متحف جفرني بجانب متحف مونيه.

إذًا ولد كلود مونيه (مؤسس فريق الانطباعية الفرنسية ورئيسها) في باريس عام 1840 مـ، فهو لم يستقر فيها أبدًا، ابتداء من رحيل عائلته إلى الهافر ابتداء من عام 1845 مـ واستقرارهم فيها. وهو ما يفسر غياب المتاحف الخاصة به على غرار متحفه ومحترفه وقصره الباقي في جفرني التي توفي فيها 1926 مـ عن عمر متقدم نسبيًا (ستة وثمانون عامًا) بعد أن دفن خلفه كل زملاء انطباعيته.

لا بد من الاعتراف بعدم اكتراث الفرنسيين (بعكس الأميركان) بهذا الاتجاه، ظنوه رسم مناظر استهلاكية كما هي في حي المونمارتر. أما هو فقد ابتدأ ممارسته معدمًا، ولم تتحسن أحواله نسبيًا إلا عندما بدأ الأميركان يشترون أعماله، أولًا بأثمان بخسه ثم ارتفعت "الكوتا"، ولم يحصل على ميراثه إلا متأخرًا ما بعد الستين من عمره، وهيأ له هذان المصدران الاكتفاء الذاتي المادي والتفرغ للإنتاج. ولعل أبرز المشجعين الأميركان لكلود مونيه هو دوران رويل، التاجر وصاحب الغاليري المختص به وبعرضه في الولايات المتحدة بشكل دائم، يعتبره العبقري الانطباعي الوحيد ضمن فريقه والأقرب إلى الانطباعية والتعبيرية التجريدية الأميركية بسبب شدة تأثيرهم عليهم. كان دعمه المادي دومًا يشد من أزره عندما يكون بحاجة إليه، ويملك أكبر مجموعة له.

رفع ثمن لوحاته بالتدريج "الكوتا" حتى أصبحت تتخاطفه المتاحف ابتداء من المتروبوليتان في نيويورك إلى شيكاغو الذي يعانق أكبر مجموعة لرونوار، ومعهد فيلادلفيا الذي تضم مجموعته 180 لوحة انطباعية، ولا تعادل مجموعة نيويورك سوى مجموعة متحف أورسي في باريس الذي رصد أموالًا طائلة لإعادة جزء من التراث الانطباعي (المعتبر بالافتراض فرنسيًا إن لم يكن باريسيًا). الواقع أنه ما بين 1860 و 1930 مـ اقتنى المليونيريون الأميركان مئات اللوحات الانطباعية خاصة مؤسسة بارنيس، حتى ليكاد هذا الاستحواذ العام يتفوق على استهتار الفرنسيين بهذا الاتجاه الذي اعتبر شعبيًا بالخطأ على مستوى القطاعين الثقافيين العام والخاص.

"القدم المجروحة" لجواكان سارولا، 1909



لا يُنكر دور الانطباعية الأميركية المستقرة بنشاطها الانطباعي في باريس وهي ماريا كاسات، ساعدت على الأخص بنشر مبيعات إدغار ديغا الخاصة بكواليس رقص الباليه منذ عام 1877 مـ، وكذلك الاقتناء والاهتمام العام للفنانين الذي هيأوا ومهدوا للذائقة الانطباعية الفرنسية والمختصين بتصاوير الطبيعة الغناء على الطريقة الإنكليزية مثل جماعة الباربيزون وجماعة الفونينيلو ابتداء من المعلمين مييه وكورو وانتهاء بجوستاف كوربيه (مؤسس الواقعية الطبيعية). ولم يصل هذا الحماس إلى مؤسس الرومانسية المشرقية أوجين دولاكروا برغم شدة تأثيره على الانطباعية الفرنسية والتنقيطية وفق كتاب سينياك كما رأينا، خاصة دفاتره المرسومة خلال رحلاته إلى الأندلس والمغرب.

استمر التاجر دوران في مساعدة كلود مونيه حتى وفاته، خاصة في ترميم ميراثه من قصر متحف جفرني بحدائقه الغناء وبحراته الآسنة التي تسبح في أديمها أزهار النينيفار، دون نسيان الجسر الياباني الساحر وهكذا. وهو ما هيأ لتأسيس متحف خاص ملاصق لمتحف مونيه للانطباعية الأميركية. ودعونا نستحضر الفنان اللبناني الكبير صليبا الدويهي، وإن نجاحاته التي اقتحم بها قلعة الاحتكار الانطباعي الأميركي كانت بفضل تفوقه في تصاوير الأرز والهرمل، وما أن تحول إلى المنماليزم التصويري رغم أن أصوله الحداثية أميركية توقف نجاحه واضطر لأن يقضي بقية حياته في باريس. لعب أخيرًا الأثرياء اليهود دورًا مشجعًا للوحات بيسيير ونشرها في متحف واشنطن، والواقع أن أصالة هذا الفنان تكمن في مبادرته التنقيطية التي ادعاها بول سينياك على غير حق.


"مرفأ الهافر" لأوجين بودان، 1862



شمولية كلود مونيه المسافر أبدًا

يتفق المختصون من الطرفين الفرنسي والأميركي على اعتبار كلود مونيه، رأس ومؤسس فريق الانطباعية العبقري، أشدهم موهبة ورؤيوية وثقافة متميزة ومتفوقة على بقية المجموعة، يتظاهر هذا التقدير والتميز من "كوتا" أسعار لوحاته المرتفع، والتي تتخاطفها المتاحف العالمية خاصة الأميركية بمبالغ فلكية.

امتلك هذا الفنان الاستثنائي منذ البداية زمام المبادرة الانطباعية، في إعادة دراسة عالمين في الفيزياء البصرية، الأول فرنسي وهو شيفرول الذي ألف كتابًا عن تراكب الألوان الأبجدية وتوليفها وهميًا على الشبكية بدون الحاجة إلى خلطها كيميائيًا في المختبر. فلمسة الأزرق إلى جانب الأصفر تؤولها شبكية العين بالأخضر، كذلك الأمر بالنسبة للبنفسجي المؤلف من الأحمر والأزرق، والبرتقالي المشكل من الأحمر والأصفر. أما العالم الثاني والذي لا يقل أهمية وتأثيرًا على الأول بصريًا فهو كاروود، ولم يذكره النقاد الفرنسيون لأنه إنكليزي.

كلود مونيه هو الذي طبّق هذه المبادئ الفيزيائية كعقيدة في الهواء الطلق، (خارج المحترفات) مع مراقبة رهافة انعكاسات الألوان خاصة في الأقمشة والألبسة والأجساد والوجوه والمراكب، والتوغل أكثر في عالم المياه، ورفيفها وأمواجها (تأثير موجات هوكوساي وهيروشيخ في الإستامب الياباني). لذلك اخترع "المركب - المحترف" العائم على مياه نهر السين، وتبعه سينياك في مركب أسفاره المتوسطية. كلود مونيه هو الذي أقام في مدينة روان عدة سنوات يراقب ويمتحن تحولات الزمن الهارب وساعة المقامات اللونية المتغيرة على واجهة كاتدرائية المدينة، ليتحقق لأول مرة أربع عشرة لوحة تقتنص كل نصف ساعة هوية المقام اللوني الذي يحدد زمان إنجاز اللوحة قبل الانتقال إلى ما بعدها. رافقه في هذه الطقوس الديكارتية الانعطافية في الفن أحد أصحاب المجوعة الفنية الأميركية واقتنى منه مسبقًا قبل ختامها كامل المجموعة وبأسعار مغرية.
 

لوحة الفضيحة "الغداء على العشب" لإدوارد مانيه، 1863



قادت تجارب مونيه بما تتضمنه من موهبة تجل فلسفي فيزيائي تشكيلي، إلى اختراع طباعة الأوفست والبث الإلكتروني الضوئي الملون بنقاط متراكبة في التلفزيون الملون، ناهيك عن صناعة فلترات عدسات الكاميرا، التي تتحكم بلون الزمن (بتبديل فصوله).

توصل إلى تعميق هذه الفكرة زميله بيسارو الذي بادر برؤيا تتمة الفكر الانطباعي عن طريق تأسيس جورج سورا للتنقيطية (أو التجزيئية) من خلال لوحته العملاقة "بعد ظهر يوم أحد في منتجع غات" (2X3 م). ثم شكل الفريق مع منظره بول سينياك والمختص بموسقة الشواطئ عن طريق التنقيط اللوني وهو إدمون غروز.

علينا الاعتراف بفضل وعناية التاجر الأميركي دوران رويل المختص بعرض أعمال مونيه في صالته في نيويورك ودعمه المادي الدائم له (ومساهمته في ترميم بناء محترف قصر جفرني الموروث كما ذكرت). ولما استطاع أن يستثمر أزهار النينيفار في أعظم لوحاته المجموعة الأخيرة: بانوهات دائرية تطوق المشاهد من كل جهاته (360 درجة) تصور فراديس هذا المشهد، متزامنة في العرض مع موسيقى دوبوسي ومقاطع من رواية بروست "الزمن الضائع" وذلك لشدة تأثير وتصاوير مونيه عليهما. أهدى المجموعة إلى فرنسا لتعرض أكثر من مرة في متحف الفن المعاصر لمدينة باريس. لعل أبرز ما يعانق هذه الجنان الجسر الياباني اعترافًا بفضل الاستامب الياباني على تكوينات لوحاته خاصة موجة هوكوساي وجسر هيروشيج.

"الشاطئ" لأوجين بودان، 1862



يمثل فن كلود مونيه إذًا البرزخ التوحيدي بين الثقافات الفرانكفونية والأنكلوساكسونية واليابانية. تكشف رحلاته الأسبوعية من الهافر إلى لندن مدى إعجابه بتصاوير حرائق سفن مرفأ لندن لدى فنانهم الكبير وليام تورنير. استوحى من مشاهده البحرية لوحته الشهيرة "انعكاس غروب الشمس على البحر" والمنجزة في لندن وأصبحت مع الأيام الرمز الأول للانطباعية. يعتبره النقاد الأميركان المعلم الأول في مدرسة نيويورك: التعبيرية التجريدية، لشدة تأثيره على بعض روادها، ابتداء من جاكسون بولوك من الجيل الأول وحتى سام فرنسيس من الجيل الثاني والمجاميع اللونية لآندي وراهول (على غرار مارلين مونرو) استلهامًا من مجاميع سلسلة ألوان النوتردام كاتدرائية روان أو مجموعة موتيف الشوفان في حقول الحصاد وهكذا. تمثل إذًا الانطباعية المنهل الخصب للحداثة النيويوركية متمثلة بمجموعة الانطباعيين الأميركان في متحفهم في جفرني ـ الملاصق لمتحف مونيه. لن نعثر على نظير لعبقرية مونيه في فريقه الانطباعي، وإنما سنجدهم في صف الذين كانوا ينتقدون نظريته: بول غوغان (جماعة بونت أفيين) وبيير بونار (جماعة الأنبياء) ثم جنون فان غوخ، وداخلية هنري ماتيس (الوحشيين).


إن المعنى المجازي البعيد لتأسيس كلود مونيه "للمركب - المحترف" يصور في تماوجه ويعيش مع زوجته فيه، هو "المركب - المسافر" في مرافئ البحر الأبيض المتوسط لتلميذه بول سينياك معبرًا عن شدة الترحال والسفر في اللامكان، فأصل الانطباعية قد سبق إعلانها بعدة عقود المعلم الانطباعي الأول في مرفأ الهافر وهو أوجين بودان. انضم إلى عروضهم متأخرًا وغاب نجم مبادرته لصالح مونيه، إن جوهر تجربة الانطباعية، ومونيه بالذات، هو السفر الدؤوب في شتى الشروط الضوئية والأيكولوجية والمناخية، وتعددية الفصول والأصقاع والمدن والغابات والمرافئ والجزر النائية. إن عدد لوحات مونيه في القارة الأميركية وسواها يعد أضعافًا مضاعفة عما هي في معالم باريس، (لا أذكر أكثر من محطة قطارات سان لازار وجسر البون نوف على السين، وبعض المصانع)، كلها شريكة الثورة الصناعية الأنكلوساكسونية خاصة التحول الطبقي في الفن (من السلطة الحاكمة إلى المواطن العادي الثائر دومًا على القيم البرجوازية والملكية). لنتذكر مجموعة مناظر الثلوج لمونيه في النرويج وبلاد الشمال، لنتذكر كم مرة صور جندولات فينيسيا. وكذلك الأمر مع توأمه رينوار الذي وجد محطته النهائية في الثقافة الشرقية في الجزائر (لوحة الجارية، ونساء جزائريات وسواهما) وإذا خرج بول غوغان عن مسار التصوير "حول العين" (كما هي تهمته للانطباعية) فقد وصل أبعد من مونيه في هجرته عن باريس باتجاه تاهيتي والثقافة البولينيزية. مونيه كان مهاجرًا عن باريس أصلًا وأعاده إليها نقاد السياسة والعصبية القومية أو التجارية. هو مثال عن تزوير تاريخ الفن المعاصر، لمآرب أخرى لا يتهيأ لنا معرفة تفاصيلها إلا عند التدقيق المنهجي المحايد.

ملاحظة: اعتمدت في الإحالات على المعارض العديدة الخاصة بالانطباعية خلال نصف قرن والاحتفاظ بطباعاتها. كان آخرها كتاب طبعته GEOART بالغ العناية مع مجلة L'art autrement عام 2013 مـ في إسبانيا E : PRISME.    


الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.