}

جدليات فنية ونقدية.. اللون وبداية الخلق

أسعد عرابي 16 سبتمبر 2022
تشكيل جدليات فنية ونقدية.. اللون وبداية الخلق
أسطورة نرسيس التي تمثل غرقه في انعكاس وجهه (ووترهاوس)

 

عندما أعدت كتابة تاريخ تيار الانطباعية (الموسومة بالفرنسيّة - الباريسيّة) مؤخرًا أحببت أن يصل معي سواء الفنانون الممارسون أم المهتمون بالذائقة التشكيلية عامة وسياق تاريخها، إلى أن "أغلب الطروحات النقدية والتاريخية في الفن لا تخلو ولو في جزء كبير منها من عدم الدقة"، تصل إلى حد الإجحاف وعدم الحياد، لأسباب خارجة عن "البارامتر" الاستطيقي، وقياسه ومقاييسه الحدسية المعقدة. وهنا لا بد من ضرورة إعادة امتحان البداهات الشائعة، ومراقبة المراجع بأنواعها، والارتكاز بالذات على المنهج الذي اعتبره عقيدتي العصبية في وثوقية البحث، وهو منهج علم الجمال المقارن، الذي ابتدعه في نهاية القرن التاسع عشر عالم الجمال إتين سورو، ودرسته عقدًا من الزمان البحثي في السوربون على يد تلميذيه ألكسندر بابا دوبولو وفرانك بوبير.

يبتدئ هذا المنهج (الموثوق والمتقدم) من الفلسفة وينتهي بالحساسية البصرية والحدسية المتدربة على مستوى المختبرين: النظري والعملي. إن مراجعة مصدرين للبحث: الفلسفة وفرعها، وابنها الشرعي المعرفي علم الجمال، تضمن إعادة كتابة تاريخ الفن بطريقة منهجية شمولية، وتتمثل الإضافة الفلسفية لهذه الكتابات التشكيلية الجادة بأمثلة مبعثرة.



إذا ابتدأ مجهرنا التحليلي من النهضة النحتية للفلسفة اليونانية (في القرنين الخامس والرابع ما قبل الميلاد، أي عصر نحت فيدياس وانتشار عادة صب وجوه المتوفين) نعثر على أول فيلسوف مختص بالفنون وهو أفلاطون رغم رأيه السلبي بها. وذلك من خلال تهمته الشهيرة "تقليد التقليد"، بما أن أطروحته تقسّم العالم إلى مستويين: عالم معقول أعلى، وعالم محسوس أسفل. فكل الأشكال وفق تصنيفه المنجزة في عالم المحسوس ما هي إلا نقلًا عن نماذج عليا "مثالية" نموذجية لا تقبل حتى الرسم لأنها مفاهيمية وغير مادية محسوسة على غرار الأشكال الهندسية كالمربع. فإذا حقق النجار في عالم المحسوس طاولة مربعة، ثم نقل رسمها المصور، يكون بذلك قد اقترف مضاعفة التقليد: الأول عن نموذج العالم المعقول والثاني عن العالم المحسوس. وهي بمثابة إدانة عامة لفعل الإبداع التشكيلي. علينا ألا نستهين بسلطة هذه الأطروحة التي أثرت خلال قرون على مفاهيم الذوق الروحانية الصوفية. وبأنها طريقة للوصول إلى الحق. يقول أبرز تلاميذ ابن عربي وهو جلال الدين الرومي: "كثير من الطرق تقود إلى الحق، أما أنا فقد اخترت طريق الموسيقى والرقص". لذا يدعى المتصوفة بجماعة الذوق والعرفان. هو نفسه الذي يؤمن مثل الجيلي بتطابق العالم الكبيري والصغيري في هذه النسبية: "وتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر"، أما رقص المولوية التي تعكس دوران الأفلاك والنجوم فيعتمد على مواجيده. يعرّف السيوطي الوجد "بأنه كمن يسلم نفسه إلى زرقة المحيط ثم لا يرجو من غرقه نجاة".

بول سينياك يرفض تسمية التنقيطية وهنري ماتيس يؤسس مجموعة الوحشيين عام 1905 وهي مسبّة نقدية



يعبّر أبو حامد الغزالي عن ذروة "التواصل الموسيقي مع فنون البصر"، ويستحق كتابه "البصر والبصيرة" أن نتجول في محطته المفصلية: يتقمص الفيلسوف دور العارف في التصوير محاولًا استنارة المريد بدعواه أن هناك فرقًا بين البصر الحسي والبصيرة القلبية التي يتجلى عنها الفن، وذلك باقتراف الطرف الأول لسبعة أخطاء أو عيوب تصححها البصيرة على مثال أنها ترى البعيد صغيرًا والقريب كبيرًا، هو ما يشرح منظور عين الطائر أو العنقاء (أو السيمورغ) لأنه يرى الأشياء من القبة السماوية، أي من شتى الأطراف بعكس منظوري ألبرتي (عصر النهضة) والطاوي الصيني. اتفق "أهل الذوق" على أن العقل ينتج العلوم الوضعية في حين أن الحدس (أو القلب) تتجلّى عنه الفنون البصرية والسمعية والقولية. لهذا يؤكد ابن خلدون في "مقدمته": "أول ما يفسد بعد العمران، صناعة الموسيقى"، هو ما رسّخه نجم الفلسفة الألمانية شوبنهور بتأكيده أن "الموسيقى رأس الفنون".


أما التوليف بين التصوير والموسيقى فهو درة مكتشفات منهج علم الجمال المقارن (والمختص ببحوثه شخصيًّا بعد إنهاء دراستي كما ذكرت). نموذجي الذي يحتذى هو الفنان المصور - الموسيقي المحترف في الجهتين بول كلي، الذي كان عازفًا للكمان في فرقة البلدية في فايمار- ألمانيا، قبل حرق أعماله من قبل النازية وإغلاق الباوهاوس حيث يعمل، وهروبه إلى سويسرا. لا شك بأن تصويره التوأم للموسيقى الغربية - الشرقية، سواء ديوان باخ (الكونتربوات العمودي) أو المقامات العربية والإسلامية الأفقية، كان يغذي عبقريته اللونية المتأثرة برحلته إلى تونس. ثم تبين مؤخرًا أنه كان مؤلفًا للنوطة الموسيقية وكان يستثمر أشكال هذه النوطة في لوحاته المتزامنة. قائد الأوركسترا الفيلهارموني بيير بوليز أصدر كتابًا نخبويًا يكشف في رسومه النوتانية والبصرية هذا الاستثمار بعنوان "المواطن الخصبة لبول كلي"، غاليمار - 1989 مـ. جنيف وباريس.
 

إساءة إميل زولا لفن بول سيزان وأسطورة سيزيف الإغريقية وكتاب ألبير كامي



يحضرني توأمه المهاجر الروسي إلى الباوهاوس للتدريس، يصدر الاثنان كتابين متزامنين حول هذه الإشكالية عام 1910 مـ، وهو واسيلي كاندينسكي: "الروحانية في الفن المعاصر" يكتب فيه: "سيأتي يوم، قرب أم بعد، ستتحول فيه اللوحة مثل الموسيقى إلى نوطة قابلة للتنفيذ من قبل عدد غير محدود من الفنانين".

استعار كلي وكاندينسكي مصطلحات فلسفة هنري برغسون مثل الوثبة الحية والديمومة، وقمع الذاكرة وغيرها. وحتى ننهي الفترة الإغريقية علينا إنعاش الذاكرة الميثولوجية الخصبة والمرتبطة بالفنون خاصة النحت والسيراميك، فقد تفوق جسد الرجل كمًا ونوعًا على نظائره الأنثوية لسبب بسيط هو كونه أقرب إلى النسبة الذهبية الرياضية، ثم هناك أسطورة نرسيس الذي غرق في صفحة الماء ضحية إعجابه بصورة جماله الخارق، وهناك بالعكس أسطورة سيزيف التي نحتت مرات ومرات ممثلة العذاب الأبدي والعبثي الذي يمارسه من يرفع الصخرة إلى أعلى الجبل فتسقط من خلفه ليعيدها من جديد وهكذا، صورة رمزية لوجودية ألبير كامي الذي خصص كتابًا بهذا الاسم سيزيف ليشرح عبثية ولا غائية النشاط الإنساني وقدريته المجانية الحتمية.

ورث عباقرة عصر النهضة الإيطالي هذه النزعة الموسومة "بالإنسانية"، لأنها تعتبر الإنسان مركز اللاهوت اليوناني، فجبل الأولمب (موطن الآلهة)، أقرب إلى المهجع الإنساني بتسميات إلهية مثل جوبيتر وزيوس وأفروديت وكيوبيد وغيرهم، هناك إذن فلسفة فنية نكوصية إلى ما قبل التوحيد يمثلها الثلاثي ميكيل أنجلو بتقديسه في القصص الإنجيلية للجسد الذكوري، وكذلك ليوناردو دافنشي ورفائيل، أما الرابع الذي يهم البحث فهو إميديو فاساري، مؤسس النقد الفني في تاريخ الفن، والنقد هنا في الإيطالية بعكس معنى الانتقاد لأنه يعنى بالتحليل المحايد، إلى درجة تبجيل واحترام موهبة العباقرة وفق كتاب فاساري، وأنه لا يجب بذل النصح لهؤلاء العمالقة بل محاولة التعلم من تقنيتهم وشرحها للقارئ والهواة.

يقول  كمال الدين بهزاد: "في بدء الخليقة كان اللون"



أما فاساري فلا تقل لوحاته موهبة عنهم. يكتشف ميكيل أنجلو في أواخر حياته النحت المباشر بالحجر، فيعتبره أهم من كل ما صنعه من رخام مصقول. علينا أن ننتظر حتى القرن التاسع عشر مع أوغست رودان لاستكمال هذا البحث. دعونا نتأمل تصريح ميكيل أنجلو الشهير بعد ذلك: "أعطوني جبلًا أعطيكم مدينة" يتخيل أن داخل الجبل تكمن مدينة من البشر لم تزل عنها الزوائد النحتية بعد.

فاتني التذكير بالنحات اليوناني الذي نحت مباشرة فتاة بالغة الجمال ثم وقع في غرامها، وظل يبكي حتى حن قلب أفروديت فجعلت في التمثال روحًا. فتزوجا وعاشا بقية حياتهما سعداء.

لم يكن رودان يقبل أن يشيّد نصبًا تذكاريا إلا إذا درس جسد المرشح للتكريم عاريًا مهما كانت منزلته، حتى يتمكن من كشف هيكلية ملابسه، لم ينج من هذه القاعدة أبرز روائي في تاريخ فرنسا: فيكتور هوغو، وهناك كتاب مطبوع يحتشد بجلسات هذا النحت العاري والمرتدي لباسه مصورًا بعدد كبير منها. " EDi: Musées de Paris , 2003 " Hugo Face à Robin

هو ما يقودنا إلى ما يحفل به تاريخ الفن المعاصر من أسرار وجدليات ومنازعات وأطروحات نظرية، أنعشت خصوبة التيّارات والمدارس. على غرار القول الدارج لبابلو بيكاسو: "آمل من زملائي الفنانين قبل أن يبدؤوا مواجهة فراغ اللوحة أن يضعوا أيديهم على عيونهم حتى لا يروا ما قبل اللوحة سوى العدم".

يحفل إذًا تاريخ الفن المعاصر بالنتيجة منذ نهاية القرن التاسع عشر بشتائم وتجريحات، تحولت مع الأيام إلى مقولات نقدية أو صحافية نافذة. وما تأسيس نابليون الثالث "لصالون المرفوضين 1889 مـ" إلا إشارة لهؤلاء الذين كانوا يتعرضون للانتقاد المخالف لأصول النقد الفني التي أسسها فاساري وبول سينياك وهنري ماتيس.

خلال صالون 1905 مـ مثلًا، يتهم أحد الصحافيين في جريدته بأن "بورديل (النحات الكلاسيكي المعروف ما قبل رودان برامي القوس) بين قفص الوحوش" والمقصود هنا الإلماح إلى أعمال هنري ماتيس وأندريه ديران وجورج براك وفلامينك. نالت هذه التهمة أرهف الملونين، ثم قبل هنري ماتيس على ذكائه وتسامحه هذا المصطلح واعتبره الاسم الشرعي لجماعة "الوحشيين". سبقته جماعة "الدادائيين" الذين لم يجدوا اسمًا لهم (من بينهم تزارا ومارسيل دوشامب)، فتحوا القاموس، وتبنوا أول كلمة وجدوها "دادا" وتعني ابن الحصان. وهو ما كان أيضًا مع تأسيس جماعة "التجزيئيين" التي أطلقها منظّرهم بول سينياك صاحب كتاب: "من دولاكروا وحتى ما بعد الانطباعية". سخر النقد الصحافي من تسميته وأشاع بديلها الساخر "التنقيطية"، أشيعت رغم رفض الثلاثي جورج سورا وبول سينياك وغروز لها. تستمر هذه الحال مع نقاد أدباء بمستوى إميل زولا الذي أساء لزميل طفولته بول سيزان في إحدى رواياته، فأخر تذوقه عدة عقود رغم أنه كان خلف نجاحات تكعيبية بابلو بيكاسو وجورج براك.

تحضيرات نصب فكتور هوغو للنحات أوغست رودان ومايكل أنجلو ونحت الحجر المباشر



من الغريب أن أصحاب مجادلات النقد السلبي قبلوا بمحمول "الاستامب" للفن الياباني (مطبوعاته منذ القرن الثامن عشر) وتأثيره وأساطير تفوقه مثل "حكاية المصور الذي رسم بابًا في لوحته ودخل فيه ولم يخرج منه أبدًا". واتهم جاك فيون (عضو جماعة الأنبياء وزميل بيير بونار) بأن أعماله لا تتجاوز مستوى أوراق الجدران اليابانية، أقول ولكنهم لم يرحبوا أبدًا بالحمل الصيني العريق الذي اخترع التصوير ومواده، من ورق الكاغد إلى الحبر الصيني والمائيات والرولوهات في المناظر، ناهيك أن كتاب طاو "الفراغ والامتلاء" من أبرز ما بقي عن الكونفوشيوسية التشكيلية منذ الألف الثاني قبل الميلاد، درس لديهم في القرن الثاني الداعية "ماني" وشارك بعضهم في ازدهار الفن العربي الإسلامي (المنمنمات أو فن المخطوطات) مثل المصور محمدي الصيني وطبعت رسوم الفترة الغزنوية بالتقاليد التصويرية للصين. (راجع مذكرة رحلة ابن بطوطة للصين).

بعيد تأسيس بول غوغان لجماعة "بونت آفين" (في مقاطعة النورماندي) ينفصل عن الانطباعية منتقدًا إياهم: بأنهم "يفتشون حول العين وليس في المركز الخفي للفكر"؛ وحين سئل كيف تصور الشجرة إذًا، أجاب: أتناول أجمل أخضر عاطفي من صفيحة الألوان (الباليتا) وأضعه على قماشة اللوحة". استكمل هذه الأطروحة زميله في نفس الجماعة وهو بول سوريزييه، ليثبت أبلغ تعريف للمعاصرة في اللوحة يقول: "ما اللوحة إلا عبارة عن مجموعة ألوان مرتبة وفق نسق معين يعكس ذائقة مبدعها".  ثم بعد هجرة غوغان إلى الثقافة البولينيزية (في تاهيتي وسواها) يستغرق هنري ماتيس في تونس بحساسية الفن الإسلامي. يتبع بول كلي ممجدًا عنصر "المحراب" فنيًا في دراسة مستفيضة عن مواده النورانية الروحية (الدراسة محفوظة في اليونسكو). ويصور زميله كاندينسكي مجموعة لوحات: "عربيات".

سأختم هذه الدراسة بقول حكيم لأعظم مصور إسلامي في القرن السادس عشر في تبريز الصفوية النقشبندية متزامنًا مع عصر النهضة الإيطالي وهو كمال الدين بهزاد الذي يقول: "إذا اعتبر طاو أن بداية الخلق كان الخط، أصحح له بعد عقود بأن بداية الخلق كان اللون".


الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.