}

لا أرض في فيلم "غولدا" ولا سينما

محمد جميل خضر محمد جميل خضر 14 أكتوبر 2023
سينما لا أرض في فيلم "غولدا" ولا سينما
يعرض فيلم "غولدا" سيرة حرب أكتوبر عام 1973
بعيدًا عن حجم الزيف الذي ينخر أركان السينما في فيلم "غولدا"، فإن أكثر ما لفت انتباهي هو غياب المكان: لا أرض على امتداد أحداث الشريط، باستثناء أرض المعركة المجلوبة، بمعظمها، للمُشاهِد من خلال أرشيف حرب أكتوبر (بحسب مصر) تشرين (بحسب سورية)، أرشيفهم هم، مع قليل من الفيديوهات التي راجت أيامها لأحدٍ (منهم) يبكي، وآخر يصرخ، وثالث يستغيث.
صيرورة الحرب التي بصدق، أنا شخصيًا على الأقل، لا أعرف من انتصر فيها، شكّلت هاجسًا وجوديًا لدى غولدا مائير وعصبتها، ما أرغم المخرج (الّلي منهم) أن لا يفكر بالمكان بقدر ما يجعل تركيزه على تداعيات الإحساس بإمكانية فناء الناس الذي يحتلّون المكان. رجفة الخوف من المجهول تملأ تعابير حواراتهم خلال أحداث الفيلم. المجهول الذي قادوا أنفسهم إليه بعد أن أمعنوا في الاحتلال، فأعقبوا احتلال مدن فلسطينية في عام 1948، باحتلال بقية فلسطين في عام 1967، وهي الحقيقة التي لم يتطرّق إليها الفيلم لا من قريب ولا من بعيد.
المكان، على وجه العموم، يستعدي رومانسية ما، مساحة تأمّل بِنهرٍ... غدير... حديقة... بُستان... تلّة مُشرفة... سهلٌ ضَحوك... سنابل قمح... جَمهرة بيلسان... موجةٌ تغازل الشاطئ... طريقٌ ساحليٌّ كتب عنه، كثيرًا، الشعراء الذين ينتمون للمكان، وفي حالة المغتصِبين من طراز (غولدا)، فلا وقت لِهكذا رومانسية، المكان آخر ما يعنيهم، وآخر همّهم أن يحبّوا يافا لمجرّد أنها يافا، أو يرتبطوا بحيفا وجدانيًا ومكانيًا وذاكرة حميمة. هُم، كما أوهموا العالم كلّه، عادوا من الشتات لأرضِ ميعاد، قيمتها بِما ورد في كتبهم حولها، وبِما حفظوا من قصص مُفبركة عنها. وهي كتب، وهي قصص مُفبركة، نادرًا ما وردت عكّا فيها، أو الناصرة، أو اللد والرملة والجليل، بالتالي، لا يوجد ما يربطهم بها، سوى أنهم تمكّنوا من احتلالها بأقل الأثمان بعد انتشار عصاباتهم (الهاغانا، وشتيرن، وإرغون، وغيرها) في كل مكان، وبعد تواطؤ بريطانيا معهم، وتركهم يستفيدون (العصابات ومنظمتهم الصهيونية) من انتدابها لِفلسطين، ومما تركوه بعد رحيلهم من أسلحة وعَتاد ومقدّرات، وقبل ذلك بما سنّوه من قوانين تجرّم، حتى، حَمْلَ فلسطينيٍّ سكّينًا صغيرة!
المكان، بالتالي، في حد ذاته، لا يعنيهم، ولا يعني فيلمًا يخرجه واحد منهم. وكيف يعنيهم وهو مكاننا؟ وكل حجر فيه يختزن ذاكراتنا؟
حتى في المشاهد التي كانت تصعد خلالها رئيسة وزرائهم لسطح المبنى (الفلسطينيّ) الذي تدير حكمها منه، كانت الكاميرا بخيلةً جدًا لا تظهر من فلسطين شيئًا، لعلها (الكاميرا) كانت مشغولة بِهَوَس (غولدا) بالسجائر تدخنها بغزارةٍ بشعةٍ ونهمٍ مريض، وبِمراقبة طيورنا التي لم تفهم زوجة مائير (جولدا مابوفيتز الأوكرانية) حكايتها، فكانت تراقبها بعداءٍ وريبة، تمامًا كما كانت تُعامِل كل شيء حولها، حتى أميركا التي شكّكت، كما تشي بعض حوارات الفيلم، بحقيقة وقوفها معهم، وحضنها لهم، وتحمّلها كل أهوائهم ودعاويهم وأكاذيبهم: "ربما يريدوننا أن ننتصر (تقصد الأميركيين)، ولكن بأنفٍ دامٍ"!




تشكيكٌ يصل إلى عدم إيمانها بقدرات وزير حربها (حتى لا أقول دفاعها، فالمعتدي لا يدافع عن مسروقاته، حتى لو أوهم كل العالم بذلك)، وإلى رغبة طبيبها بشفائها (بحسب الفيلم كانت مصابة بسرطان الغدد اللمفاوية)، وإلى الطريق نحو سرير الفحص، وهو عبارة عن سردابٍ مكدّسٍ بجثثٍ لا يقول لنا الفيلم جُثث مَن هِي!
لا تثق إلا بسيجارتِها تتمسّك بها وهي على سرير المعاينة، ومساعدتِها وحاضرِها الحَقود.

حقائق الحرب...
قد لا أختلف مع الفيلم حول ما يعرضه من سيرة حرب أكتوبر في عام 1973، فحين كنّا صغارًا سمعنا أن خيانةً حدثت في جبهة مصر، أدّت إلى "ثغرة الدفرسوار"، وبالتالي، إلى حصار الجيش الثالث المصري، وهي الخيانة التي دفعت الفريق سعد الدين الشاذلي، كما سمعنا، إلى إجراء محاكمة ميدانية لِمن تسبّب بها (الأخبار التي سمعناها صغارًا تشير إلى أن هذا الخائن هو ابن شقيقة السادات، وكان برتبة رائد)، وتنفيذ الحكم به مباشرة، وكان الفريق الشاذلي حذّر قبل حدوث تلك الثغرة، ووقف ضد قرارات السادات، وضد قرارات المشير أحمد إسماعيل، ما يعني أن تحوّلات الحرب على الجبهة الجنوبية من فلسطين، لم تكن (غولدا) بطلتها كما يوحي الفيلم، بل خيانة هناك. والخيانة، على كل حال، شكّلت، في كل مكان وزمان، رافعًا جوهريًا من روافع سيطرتهم على فلسطيننا؛ خيانة روس الاتحاد السوفياتي لشعاراتِهم وقد كانوا أوّل من اعترف، خيانة التشيك لاشتراكيّتهم حين مدّوا العصابات بالسلاح، خيانة الجيران لِجيرانهم، وهلمّ جرًّا.
بالتالي، قد لا تكون تفاصيل الحرب جميعها غير دقيقة، ولكن زاوية النظر إليها جاءت في الفيلم منْقوصة، غير محايدة، مشغولة بِتجيير كل إحداثيةٍ خلال أيام الاشتباك نحو مُنجزات (السيدة العجوز). وعلى سيرة (السيدة العجوز)، فلعلّ أبشع مشاهد الفيلم ذلك (الحميميّ الأرشيفيّ) الذي يجمع السادات مع رئيسة وزراء العدوّ الذي بدأ يتحوّل إلى صديق، وهما يضحكان بقهقهةٍ مفتعلةٍ حين كررّت أكثر من مرّة عن نفسها أنها (سيدة عجوز)، وحين نظر إليها (مندهشًا) قالت له ألم يكن ذلك وصفي الأثير عندك، فما كان من صاحب "الألف وجه" إلا أن ضحك بصوته المفضوح. المهم، وفي عودة إلى تفاصيل حربي الشمال والجنوب، فهذا ما حدث على صعيد جبهة الجنوب (جنوب فلسطين)، خيانات واندفاعةٌ غيرُ محسوبةٍ أدّت إلى ما أدّت إليه، وإلى مفاوضات (عبثية)، كانت نتيجتها بضغط من وزير خارجية أميركا (وهو منهم) توقيع هدنة (لعلها مذلّة) لم تسترجع مصر عبرها أرضًا، ولم تحقق نصرًا، باستثناء النصر الإعلاميّ المطبّل الذي لا يزال يُسمع قرعُ طبولِهِ حتى يومنا هذا.

الرئيس المصري الأسبق أنور السادات مع أركان حربه أثناء حرب أكتوبر 1973 (Getty) 

أمّا على صعيد جبهة شمالها (شمال فلسطين)، فهل كنّا نتوقّع من ديكتاتور أن يحرّر لنا فلسطين؟ وهو يرفض قبل ذلك تقديم أي تسهيلات للجيش العراقي الذي أراد أن يشارك مارًّا من الأراضي السورية من دون أن يقدم له (الأشقاء) شربة ماء، كما أخبرني بذلك الصديق الراحل الروائي والمفكر السوري خيري الذهبي! كما كان الصديق، وقد خدم أيامها كضابط اتصال بين الجيش السوري وقوات فصلٍ أُممية، شاهدًا على مجزرة دبابات سورية في أرض مفتوحة! عمومًا، وبحسب الباحثيْن تيسير مرعي، وأسامة حلبي، في بحثهما المعنوَن "الحياة تحت الاحتلال: مرتفعات الجولان" المنشور في "مجلة الدراسات الفلسطينية" عدد 13، شتاء 1993، فإن كل ما أنجزه الجيش السوري في عام 1973، المأمور من قيادةٍ تقتل شعبها، هو استعادة 100 كيلومتر مربعٍ من مجموع المساحة السورية التي احتلت في عام 1967، والبالغة 1250 كيلومترًا مربّعًا، ليصبح الجزء المحتل من الجولان، بعد عام 1973، هو 1150 كيلومترًا مربعًا من أصل 1750 مجموع مساحة الهضبة وما حولها من مناطق وقرى وحقول.
لستُ خبيرًا عسكريًا لأدحض بعض دعاوي الفيلم، أو أؤيدها، والفيلم يحتاج، صراحة، إلى هكذا خبير، فلا هو سيرة حياة، ولا هو فن وسينما تتّسم بأقلّ قدرٍ من حياد وإيصال وجهتيّ نظر المُتحاربين في ذلك الزمان الذي مضى عليه نصف قرن بالتمام والكمال، مع نقصٍ صغير في الخاصِرة، ألا وهو عدم ذكر فلسطين والفلسطينيينَ طيلة أحداث الفيلم، رغم أن فلسطين هي القاسم المشترك الأعظم بين جبهتيّ الشمال والجنوب، فَفلسطين هي التي تحدُّ سورية من الجنوب، وهي التي تحدُّ مصر من الشمال، وهي التي تخنقُ الزعيمة العنصرية التي قالت مرّة: "لا يوجد شيء اسمه فلسطينيون"، وحين كانت تسْتشعر لا جدوى جملتِها هذه ولا منطقيّتها، كانت تقول: "كل صباح أتمنّى أن أصحو فلا أجد طفلًا فلسطينيًا على قيد الحياة"! وفلسطين هي التي كانت ترعب طيورُها (المرأة الحديدية).




وبما أنني لست خبيرًا عسكريًا فلا أعرف بصدق من انتصر في تلك الحرب، وكل ما أعرفه أنه إن كانت انهزمت مصر فتلكَ هزيمة لِفلسطين، وإن كانت انهزمت سورية فتلكَ هزيمة لِفلسطين، وإن كانت انهزمت (غولدا) جزئيًا فتلكَ هزيمة لِفلسطين، لأن الهزيمة الجزئية استدعت هبّة وزير خارجية الدولة الكبرى (وهو منهم) داعمًا بجسرٍ عسكريٍّ جويٍّ وضغطٍ سياسيٍّ، وهذا كلّه أتى أكله في نهاية المطاف، فانتصار فلسطين سيتحقق عندما تحكم شعوبُنا بلادَنا، ولا غُفران لِمن خاض الحرب للتّحريك لا للتّحرير.

تطبيع الأسى...
الفيلم تطبيعيٌّ بامتياز؛ يريدنا أن نحفظ عدد السجائر التي تدخنها امرأة عدوّة لنا، مسكونة بهوسِ التميّز، وبعقدةِ النّقص من شكلها، فهي التي قالت مرّة، بعد قصتها مع ألبير فرعون: "كوني لست جميلة كان نعمة حقيقية، لقد دفعني هذا لتطوير قدراتي الداخلية". ويريدنا أن نعرف نوع دخانها، واسم مساعدتها، وكيفية قضائها أيامها خلال الحرب. يريد أن يجعل تناول شخصية تكرهنا، كفكرة وهوية وتاريخ ووجود، أمرًا طبيعيًا نشاهده، ونسقط (ولن أفعل أنا) بذكر اسم تلك الحرب في أرشيفهم، وتكرار اسم الجهة التي حاربها الجيشان المصري والسوري، فأي شخص سيتناول الفيلم لن يستطيع إلا أن يذكر كل ذلك، ويبدأ التعاطف مع المرأة المصابة بسرطان، الرافضة إعلان مرضها كي لا يضعف جماعتها من عصابة لصوص فلسطين، ويكاد يبكي مع صرخات الجنود المهزومين، وقد ينجرف بموجة إعجاب من حُسن تدبيرها، ومن إصرارها على استعادة الأسرى أجمعين، ومن ضرورة إسقاط السادات لِعبارة "الكيان الصهيونيّ" كي تمنحه شرف التفاوض معها!
لا موسيقى يمكن الحديث عنها في الفيلم، سوى اقتباس في آخِر الفيلم من موسيقانا، مع بعض مسروقِهم الموسيقيّ الآتي من تركيا، ومن إيران، ومن الشعوب السلافية، ولا مؤثّرات سوى غرفة الحرب المعْقودة، تقريبًا، طيلة أحداث الفيلم ودقائقهِ البالغةُ 100 دقيقة. ولا دراما باستثناء دراما حربٍ، كان التوثيق أوْلى بالتعامل معها، بعد 50 عامًا على قيامها، ولا دقّة اختيار مُمثلي تقمّصِ شخصياتٍ سياسية وعسكرية نعرف معظم تفاصيل أشكالهم. لا شيء سوى (الهمْبكة) الضجيجية حول فيلم يريدوننا أن نكتب عنه لِنشهره أكثر، وها نحن نفعل، ولكن لمزيدٍ من كشف عوراتِه، ولينْشهر، بالتالي، كما هو في الحقيقة، وليس كما يُسوّق له.

وجودٌ هشّ...
مع غياب المكان طيلة أحداث الفيلم، باستثناء خرائط الحرب، ينزوي الفيلم بوصفه وثيقةً تعاين حرب وجود بالنسبة لغولدا ومن معها، فأي وجود هشّ الذي قد تبيده حربٌ ما؟ ألم تُسْتَعمر باريس سنوات، ومع ذلك بقيت باريس وبقيت فرنسا، لم يلغِ الاحتلال النازيّ وجودها؟ ألم تخرج فرنسا، في المقابل، مهزومة من دول كثيرة استعمرتها، فهل مُسِحت فرنسا عن الخارطة؟ بقيت فرنسا وَزال احتلالها من دول أفريقية وعربية حاربت الاحتلال الفرنسي وهزمته في كثير من المعارك الكبرى، ولكن فرنسا وتاريخُها لا تقصِف ظهرَه هزيمة واثنتان وثلاثة وعشرات الهزائم حتّى. هل انْعدم وجود إيطاليا بمجرّد خروجها من ليبيا؟ هل غرقت بريطانيا في التّيه بمجرّد خروجها من الهند؟ فأي وجود هشٍّ هذا الذي كاد ينمحي بمجرّد عبورِ مصر خطًّا دفاعيًا، وتدمير سورية مرصدًا فوق جبل؟
في حالة فيلمهم، أوصلت (غولدا) رسالة إلى وزير خارجية مأسورٍ لها وَبِها أن وجودها، ووجودَه، وبالتالي وجودَهم جميعهم، في مهبّ الريح، إن انتصرت مصر ومن خلفها سورية!
وعندما هدّد وزير حربهم بالنووي، على الأقل داخليًّا بينه وبين باقي أفراد العصابة، بعد أن عاد محطّمًا وقد شاهد بأمّ عينهِ الوحيدة خسائرهم في جبهة شمال فلسطين، صمتت رئيسة الوزراء، فهل نفهم أن لا سلاح نووي حقيقةً يُمكن أن يُهدَّد بِه؟ هذا موضوع بحثٍ آخر، أما موضوع بحثِنا فهو أنْ لا سينما في الفيلم، ولا أرض صلبة تحت أقدام الغُزاة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.