}

تيسير بركات: المتوسط "مقبرة المستضعفين"

أسعد عرابي 4 ديسمبر 2023
تشكيل تيسير بركات: المتوسط "مقبرة المستضعفين"
تيسير بركات
يراودني (في غمرة خضم فظائع غزّة) أن أستعيد الدراسة الجمالية السابقة للرائد تيسير بركات، تأكيدًا على أصالة لوحاته المتواترة مؤخرًا على المستوى الكمي والنوعي. وهي لوحاته التي فرّخت مثل القصف العشوائي إثر هجرته من مدينة تفتحه الأول غزة (المولود فيها عام 1959م، مخيم جباليا) في اتجاه استقراره في رام الله.

شاطئ المتوسط (أكريليك على قماش 123× 163 سم) 


تؤكد الدراسة المبكرة سابقًا والرؤيوية (منذ السبعينيات) على حميمية أجواء وشروط ومناخات وسرديات جدته وجده (أي جيل 1948م الممنوع بقانون الاحتلال من العودة إلى داره أو ممتلكاته). توصل في حينها إلى إنشاءات خشبية (من رمزية أخشاب الزيتون)، وحرق المنافذ، تعبيرًا عن حضرية كثافة سكان غزة، أغلبهم قضى في البحر المتوسط هروبًا من مذابح التطهير العنصري ما قبل 1948م.
كان في تلك الفترة يتقاسم ريادة الفن الفلسطيني المقاوم مع عبقري التصوير مثله سليمان منصور، الذي عرف في ما بعد بنحته المتشقق، مثل جفاف التربة. وتتظاهر عبرها ملامح حمامة السلام (مع مشروع حل الدولتين الذي لم تقبله إسرائيل وما زالت)، إضافة إلى حضور مصطفى الحلاج، وكمال بلاطة، وفيرا تماري، وغيرهم. لذلك كانت تمنع ظهور العلم الفلسطيني، فلجأ الفلسطينيون إلى تحايل نبيل يرويه لأول مرة سليمان منصور، بالاستعاضة عنه بشرائح ثمرة البطيخ التي تعانق ألوانها الأخضر والأبيض والأحمر والأسود.
لعله من الجدير بالذكر أن الثلاثي تيسير بركات، وسليمان منصور، ونبيل عناني (إضافة إلى مصممة السيراميك فيرا تماري) بادروا في تأسيس جماعة "الرؤية الجديدة" تيمنًا بالتسمية العراقية نفسها (لضياء العزاوي، وعلي طالب، وآخرين). ثم أقاموا معرضهم الجماعي الأول: معرض الاجتياح عام 2019 م تحت الاسم نفسه. ثم أسسوا رابطة الفنون في فلسطين، وأصبح المذكورون من الرواد أعضاء فيها، خاصة تيسير بركات منذ ذلك الوقت.

مخيم الشاطئ (أكريليك على قماش 100 × 80 سم) 


ومن الجدير بالذكر أيضًا أن ماضي مرحلة غزة يعانق سفر فناننا في شبابه إلى الإسكندرية، ودراسة التصوير في كلية فنونها حتى عام 1973. نلاحظ في أسلوبه حتى اليوم بصمات هذه المدرسة البليغة التأثير، كما هو الجانب الغرافيكي مع رباب النمر (بما فيه قطتها الشهيرة) وسعيد العدوي، وحامد عويس، وغيرهم.




يعتمد أسلوبه على مجموعات شبه سردية متجانسة ومتسلسلة، مثل مجموعة "بحر بلا شطآن"، أو "مسار الروح" في معرض 2020 م.
أما آخر معرض فكان في "صالة زوايا" في دبي عام 2021.

شواطئ غزة (أكريليك على قماش 45× 60 سم) 


لعل أبرز مشاركاته في المعروضات التي يستقر فيها الموضوع الشمولي الرئيسي، المرتبط بالنزوح المخاطر عبر البحر الأبيض المتوسط، والذي تنشد شخوصه الخلاص من نير الاجتياح الاحتلالي والتطهير العرقي، وكل ما يخالف الشرعية الدولية، بما فيه الإمعان في قتل الأطفال، أو أسرهم مع النساء والعجزة المستضعفين، واغتيال المقاومة بشتى أنواعها، بما فيها المسالمة غير المسلحة، هي مشاركته في "سمبوزيوم بعلبك الدولي الأول" عام 2018 م.
كما أن متحف دارة الفنون (مؤسسة عبد الحميد شومان) في عمان يشتمل على مقتنيات بارزة لهذا الفنان المناضل، ناهيك عن أن محترفاتها كانت بالنسبة له فرصة اختيارية للتجريب بأنواع الألوان المائية والطباعية، وأوراقها المبللة بدموع المحنة الفلسطينية. يريم على جماهيره المتدافعة الخوف والضياع والقلق، وتسيطر المعاناة الإنسانية على ساكني مدينة طفولته غزّة، ومدينة هجرته رام الله، حيث مجموعة الحب والحرب.
تتجمع في لوحاته جماهير ملتاعة مذعورة تنفجر ديموغرافيتها إلى خارج خارطة فلسطين بسبب القصف والعدوان الإستيطاني، فتبدو هذه المجاميع المكتّلة بشكل بواخر نزوح متوسطية، نصف غارقة في اليم، مشرذمة أشبه بسيلويتات عرائس مسرح الظل على الطريقة الإسكندرانية (سعيد العدوي)، وإن شيطنة سواحل وأمواج البحر الأبيض المتوسط (رمز النقاهة والاستجمام) يقود إلى اعتباره "مقبرة المستضعفين".
أقول، أخيرًا، إن تيسير من أبرز رموز الالتصاق والتوحد في جسد المأساة والمحنة الفلسطينية، لذا فهو يصر على إحياء ذكرى صبّار المؤسس المرحوم عاصم أبو شقرة في عدد من لوحاته الأخيرة. ويمثل صباره رمزًا لمذابح "الهاغاناه" الأولى عام 1948 م لفلاحي فلسطين، فكان الصبار ينمو ويفضح مواقع هذه المجازر المستمرة حتى اليوم.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.