بات ما لا شك فيه، أن أكبر أكذوبةٍ اتّكأ عليها المشروع الصهيوني، هي: "أرضٌ بِلا شعب لشعبٍ بِلا أرض".
وبما أن لعبة "شعب بلا أرض" غدت مكشوفة إلى حدٍّ فاضح، فتجميع عناصر من مختلف شعوب العالم، ومن أبعد أصقاع الأرض، لا يكوّن في نهاية هذا التجميع الخليطيّ الغريب والعجيب، حتمًا، شعبًا، فإن هدم هذه المنظومة الاستعمارية الاستيطانية القبيحة يصبح منوطًا، بهرمسةِ مدخلها: "أرض بلا شعب".
هامش 1
(مستفيدين من لعبة "شعب بلا أرض"، ركب موجات الهجرة اليهودية إلى فلسطين مسيحيون روس، ومسلمون إثيوبيون، وما خفي حول هذه الفضيحة أعظم).
يتقاطع السؤال التأسيسيّ المُلحّ المتمثّل بـ: كيف نصدّق أن اليهوديّ القادم من بولندا (بولونيا)، أو ألمانيا، أو أوكرانيا، أو أميركا، أو بلغاريا، أو بريطانيا، أو رومانيا، أو روسيا، أو هنغاريا (المجر)، أو النمسا، أو إيطاليا، أو حتى من العراق والمغرب واليمن ومصر وسورية، وغيرها، كان بلا أرض؟ مع سؤال تأسيسيّ آخر، هو: كيف نصدّق أن الناصرة وعكا ويافا وحيفا وطبريا وصفد والقدس والنقب وبئر السبع والمثلث ومرج ابن عامر واللد والرملة والجليل وحتى رأس الناقورة، وغيرها، كانت بلا شعب؟
تسهم أنشطة إنسانية عديدة بتأكيد عمران مختلف مدن فلسطين، وتعزيز حقيقةِ وجودٍ مستمرٍ متواصلٍ فوقها، يسلّم جيلٌ أسبابَ الوجود خلاله إلى الجيل الذي يليه. ومن بين هذه الأنشطة والتجلّيات، يسطع التوثيق، وتطلع وثائق الزواج والطلاق، والولادة والموت، وكذا وثائق الملكية وطابوهات الأرض (الكوشان العثماني على سبيل المثال)، وربما في حالات بعينها وثائق الالتحاق بمدرسة من مدارس فلسطين قبل عام 1948، ووثائق الأندية الرياضية، والجمعيات الخيرية.
في هذا السياق، تعدُّ الصور الفوتوغرافية (الشمسية/ الضوئية) من الوثائق الراسخة التي تؤكد وجود شعب في فلسطين صنع حضارة فارقة قبل الاحتلال بقرون مديدة سبقت سرقة الأرض، ومحاولة اغتيال الذاكرة.
مصورو فلسطين
على ما تقدَّم، تأتي السلسلة التي عرضتها "الجزيرة الوثائقية" تحت عنوان: "مصورو فلسطين" من إخراج صانعة الأفلام مروة جبارة طيبي، لتتجلى بوصفها وثيقة دامغة على هذا الوجود الذي نتحدّث عنه، ممهورًا بالنبوغ، محضونًا بالإبداع، ومكللًا بِفعلٍ حضاريٍّ لافت.
الرواد الأوائل
يتسابق، وفق السلسلة المشار إليها أعلاه، عدد من مصوريّ فلسطين نهايات القرن التاسع عشر، ومطالع القرن العشرين، على نيل لقب الريادة، وفي حين تُجمع معظم الوثائق والصور الباقية على أن المصور الناصريّ ناصر منصور سابا (1861 ـ 1906) هو رائد التصوير الشمسي (الفوتوغرافي) الفلسطيني، إذ يعود تاريخ بعض صوره إلى حوالي عام 1885، فإن هذا لا ينقص من دور ابنه فضيل من بعده، ولا من دور مشاركه في الريادة (حتى لا نقول منافسه)، ألا وهو المصور خليل رعد (1854 ـ 1957) الملقّب بـ"عميد مصوري فلسطين"، المثابر المعمّر الجامع في هويّته هوى لبنان مع عشق فلسطين.
هامش 2
(حول معلومة أن خليل رعد امتد به العمر وزاد على مئة عام، وأنه من مواليد 1854، فإن تفاوتًا كبيرًا في المعلومات يتبيّن هنا، إذ تورد الحلقة الخاصة بخليل ضمن سلسلة "مصورو فلسطين" أنه من مواليد عام 1867، وبين عام 1854، سنة ولادته بحسب (ويكيبيديا)، وبين عام 1867، سنة ولادته بحسب الفيلم عنه، فارق كبير، لا ندري كيف يمكن ردْمه وتقديم معلومة أكثر دقة، وإنْ كنتُ في هكذا حالات أميلُ نحو الانحياز لدقّة الفيلم الوثائقي، فمراحل الإعداد لا تخلو من توثيق دقيق، ومن تواصلٍ مع أقارب، أو معنيين مباشرين).
خليل رعد... العميد
حظيت مدن فلسطين التاريخية جميعها بالتفاتة عدسة خليل رعد الحرة المنتبهة: يافا وجامع بحرها وقطف برتقالها، طبرية وبحيرتها، بيت لحم وقدسيّتها، سناسل القرى، حقول القمح، مسيرة حبة الزيتون حتى قطعة الصابون، كنيسة القيامة، سوق القطّانين، عموم القدس وأبوابها، قانا الخليل، حياة البدو في أريحا، وصولًا للصورة العائلية السنوية لأسرة المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد (1935 ـ 2003)، حين كان يتوجّه رعد لبيت العائلة في القدس، ويسهم في صناعة تفاصيل تلك الصورة المحمّلة دلالات تتْرى.
سعيد كان أشار في كتاب مذكراته "في المكان الخطأ"، ترجمة د. خالد غادري، إلى صور رعد، وإلى قيمته وقيمة صوره في توثيق الذاكرة الفلسطينية: "ما من أحد كان يتنبأ أن صور رعد ستتحوّل في المستقبل إلى أرشيف ضخم عن حياة الفلسطينيين حتى نكبة عام 1948".
هامش 3
(التباس آخر بين محتويات السلسلة، وبين المعلومات من مصادر ومظانّ أخرى، فالمعروف أن كتاب مذكرات إدوارد سعيد يحمل عنوان "خارج المكان" صدرت طبعته الأولى عن دار الآداب البيروتية في عام 2000، من ترجمة اللبناني فواز طرابلسي، ويبدو أن الكتاب الذي تشير إليه حلقة خليل رعد ضمن سلسلة "مصورو فلسطين" هو نفسه "خارج المكان"، ولكن باسم آخر "في المكان الخطأ" ومن ترجمة أخرى غير ترجمة طرابلسي. وبحسب النسخة الأكثر انتشارًا من كتاب مذكرات إدوارد سعيد، فإن الاقتباس المشار إليه في السلسلة الوثائقية يصبح على النحو الآتي: "فكأنّ كاميرا أبي السينمائية أرادت بذلك أن تبزّ، في تطلّبها، آلة التصوير الفوتوغرافية، المنقّبة والمنصوبة على سِيبة، وأن تبزّ على وجه التخصيص خليل رعد الذي تستدعيه عمتي وأبناؤها دومًا في كل مناسبة عائلية مهمة. وكان رعدُ النحيلُ الأبيضُ الشّعر يستغرقُ وقتًا طويلًا جدًّا في تنظيم المجموعة العائلية الكبيرة، ومعها الضيوف، في ترتيبٍ مقبول، وخلال تلك اللحظات التي يمطّها إلى ما لا نهاية، بطريقته النيّقة، واستهتاره بالذين يصوّرهم، تكوّن إجماعٌ على أن الصمْدةَ أمام آلة التصوير محنةٌ ضروريةٌ من الضرورات التي تفرضها المناسبات العائلية الرسمية. ولم يخطر في بال أحدٍ آنذاك أن صور رعد الفوتوغرافية قد تصير أغنى موردٍ أرشيفيٍّ لِحيوات الفلسطينيين إلى عام 1948، أيْ قبلَ "شتاتهم" بحسب تعبير وليد الخالدي. والحال أن اهتمام أبي بالحركة، ولعلّ ذلك جاء ردًّا على نفاد صبره من (رعد)، يشكّل، ربما عن غير قصد، جزءًا آخر من ذلك الأرشيف غير الرسميّ" (كتاب "خارج المكان" بترجمة فواز طرابلسي، صفحة 109)).
"حمّال ينقل خزانة" هو عنوان صورة التقطها خليل رعد في القدس عام 1925، ولعلها مع صور عديدة تشبهها التقطها رعد (ومنها صورة عتّاليْن يحملان آلة بيانو)، تكون شكّلت، بحسب الفنانة التشكيلية الفلسطينية فيرا تماري، ملهمًا للفنان التشكيلي الفلسطيني سليمان منصور وهو عاكف على لوحته "جمل المحامل".
رعد، بحسب هالة زين عابدين، أمينة مكتبة مؤسسة الدراسات الفلسطينية، صوّر مختلف مناحي الحياة الفلسطينية، مانحًا القدس اهتمامًا خاصًا: الفلاح في أرضه، الطفل في مذودتِه، أبناء الطبقة الوسطى، وكذا أغنياء الطبقة الفلسطينية الثرية. كما صوّر الموالد والمواسم والأعياد. وحظي (العثماني) بعشرات الصور التي التقطها خليل رعد وكانت تلوّنها شقيقته له يدويًّا بألوان مائية.
كريمة عبود... العاشقة
ريادة التصوير الفلسطيني لا تكتمل من دون تدوين اسم كريمة عبود (1893 ـ 1940) بأحرف من امتنان، لما قدّمته لعيون الذاكرة الفلسطينية من أثر باقٍ ما بقيت فلسطين، وما بقي حق المطالبة بعودتها لأصحابها وصنّاع وجودها الحديث والقديم.
مبكرًا، أدركت "عاشقة الضوء"، كما جرى التعريف بها في الجزء الخاص بها من سلسلة "مصورو فلسطين"، أن "لكل صورة شمسها الخاصة"، وكان "يفرحها أن كل من صورتهم كانوا فرحين بصورهم". قادت كريمة سيارة في عام 1922، عندما كان ذلك نادر الحدوث جدًا حتى لرجال فلسطين، فما بالك بنسائها. وكانت تتجوّل بسيارتها هذه في عموم فلسطين، تزور بيوت الناس، تلتقط الصور.
لفت انتباه المؤرّخ الفلسطيني د. جوني منصور أن كريمة عبود كانت تكتب معرّفة عن نفسها في الإعلانات التي كانت تنشرها في الصحف الفلسطينية، مثل صحيفة "الكرمل" الحيفاوية، و"فلسطين" اليافية: "كريمة عبود... مصوّرة شمس وطنية"، رائيًا أن إصرارها على إضافة مفردة "وطنية" بعد "مصوّرة شمس" لهو دليل على وعيها للدور الذي تلعبه صورها في مواجهة الاحتلالية الصهيونية الاستعمارية الكولونيالية المدعومة أيامها من بريطانيا، والقائمة على كذبة "أرض بلا شعب". جوني يكشف في محاضرة ألقاها في "نادي الثقافة" التابع للمجلس الملّي الأورثوذكسي الوطني في حيفا أن العصابات الصهيونية دمّرت استوديو كريمة عبود بمجرّد ما استتب لهم الأمر في عام 1948، واحتفظت بصورها، بعد مصادرتها، في أقبية الأرشيف الإسرائيلي.
أما قريبها الموسيقي دعيبس عبّود فيصفها بأنها "امرأة ثورية شجاعة مثقفة لديها بعد نظر وأفق رؤية واسع".
الروائي الفلسطيني الأردني إبراهيم نصر الله صاحب رواية "سيرة عين" التي يتناول فيها مسيرة كريمة عبود، يرى أن "التصوير الفوتوغرافي الأجنبي قائم على فكرة المحو، فهو كان يحرص، حين يصوّر المدن الفلسطينية، أن يصوّرها خالية من الناس، فجاءت كريمة لتصوّر المدن حافلة بالناس، ممتلئة بالبيوت، زاخرة بالحضارة، عابقة بجماليات الملبس والمأكل والحضور الإنسانيّ الصادح، وحيوات الفلسطينيين اليومية، ما جعل صورها نضالًا فعليًّا لافت الوضوح".
نصر الله قرأ من روايته يحاكي كريمة: "بعض الوجوه يجعلك تحسّين أنك تنحتين، بعضُها أنك ترسمين، بعضُها أنك في مأتم، بعضُها أنك في عرس، بعضُها يدعوك لأن تحتضنيه، بعضُها أنك تألفينه ولا تريدين مغادرة البيت الذي هو فيه، بعضُها يجعلك في حالة من انعدام الوزن،... بعضُها يجعلك تشعرين أنه كان في انتظارك من زمن طويل،... بعضُها تداوينَه،... بعضها جدّكِ الذي مات شابًّا، بعضُها جدّتكِ، بعضُها حبيب في حلمكِ، وبعضُها طفلٌ صغيرٌ لم تنجبيه" (نصر الله، رواية "سيرة عين" صفحة 47).
والملاحظة العابرة حول هذا الجزء من الرواية هو قول نصر الله "وبعضُها طفلٌ صغيرٌ لم تنجبيه"، حيث إن كان المقصود هنا أنها لم تنجب، ففي الحلقة نفسها من السلسلة يتطرّق القس د. متري الراهب، مدير "دار الكلمة"، إلى صور ابنها سمير الذي أنجبته في أثناء إقامتها القصيرة في البرازيل، وكانت متعلّقة كثيرًا به، وكان "كل حياتها". ويورد الراهب أن ألبوماتها تحفل بصور كثيرة لابنها سمير!
متري الرّاهب يرى أن صور كريمة قدّمت فكرة توثيقية عن البيت الفلسطيني من الداخل، قائلًا: "في النكبة، نحن لم نخسر الأرض فقط، بل خسرنا أيضًا معرفتنا عن أنفسنا، وبالتالي فإن صور كريمة تستعيد تاريخ فلسطين وهويتها بطريقة أخّاذة". وبحسب خالد عوض، مدير جمعية "سيباط"، فإن عبّود طوّرت أدواتها، وواكبت تطوّر التصوير الفوتوغرافي، متطرقًا إلى إصدارها من صورها بطاقات بريدية، قائلًا: "حتى عام 1925، تمكّنت كريمة عبود من إصدار 112 بطاقة بريدية لمعالم تاريخية، وأماكن مقدسة، ووجوه فلسطينية".
المصوّر رمزي حيدر، مؤسس "دار المصوّر"، يتحدث عن تكنيكها العالي الذي لا يقدر عليه مصورون محترفون حتى "في أيامنا هذه مع كل التطوّر الذي تحقّق في علوم الصورة"، ويشير إلى الإضاءة النوعية التي كانت تستخدمها.
المصوّرة ليندا خوري ركّزت في مداخلتها على التنوّع الخصب الذي كانت كريمة عبود تتميّز به.
على وجه العموم، تبقى كريمة عبّود، ويبقى ما أنجزته في حقل الصورة والتصوير كنزًا فلسطينيًّا يحتاج إلى مزيد من النبش والتنقيب والاستعادة.
الأب والابن
لعل من شأن العودة إلى كتاب "بين فلسطين والمهجر.... المصور فضيل ناصر سابا" الذي قدّم هاني حوراني عرضًا له في ملحق "ضفة ثالثة" بتاريخ الخامس من أغسطس/ آب 2021، أن تسهم أكثر، بالتعريف بالمصوّر الفلسطيني فضيل سابا، الذي بدأ التصوير وهو بالكاد في السابعة عشرة من عمره. حوراني يصف الكتاب بالقول إنه "كتاب فريد صدر مؤخرًا عن مؤسسة التراث العربي لهزاع محمد أبو ربيع. وقصد منه تسليط الضوء على واحد من المصورين الفوتوغرافيين الفلسطينيين الذين باشروا هذه المهنة مبكرًا، منذ عام 1918، وليواصلها لنحو أربعين عامًا، في فلسطين ودول الإقليم، قبل أن ينتقل إلى الولايات المتحدة ويختفي ذكره، كما اختفى معظم إرثه الفوتوغرافي".
في الحلقة التي حملت عنوان "الأب والابن"، ضمن سلسلة "مصورو فلسطين"، جرى التركيز على الابن على حساب الأب للفارق الزمني في عمر إنجاز كل منهما، ولاقتراب الابن أكثر من قضية شعبه الفلسطينيّ، بعدما انكشفت المخططات الصهيونية التي سبقت صور الأب ناصر تأسيسها كحركة استعمارية كولونيالية.
وعليه، أظهر الفيلم منجزات فضيل، الذي واصل ما بدأه والده ناصر في نهايات القرن التاسع عشر، وكيف أنه لم يكتف بالتصوير داخل فلسطين، بل أصبح، في وقت قصير، سفير فلسطين للصورة الفوتوغرافية، التي كانت في ذلك الوقت غير متاحة للجميع، ولا منتشرة في كل مكان. دُعي إلى مصر بهدف التصوير، وإلى أنطاكيا، ومدن وبلدان أخرى عديدة، وصلها حاملًا كاميرته وخبرته التي استقى بداياتها من والده الذي رحل مبكرًا (رحل ناصر سابا الأب عن 45 عامًا)، وخصوصًا خبرته في تصوير بعض المعادن والحجارة، مثل الفسيفساء، على سبيل المثال.
كيغام غزة
واحدة من حلقات السلسلة تسافر نحو غزّة وبحرها، مكرّسة كل دقائقها للمصوّر الغزّي الفلسطينيّ الأرمنيّ الأصل كيغام جغليان، الذي انتقل من القدس إلى غزة في عام 1940، وافتتح هناك أول استوديو تصوير، ونقل الصورة في غزة من قصور الحكم وثكنات الجنود البريطانيين إلى الساحات العامة، وبسطاء الناس، ومختلف طبقات أهل غزة.
ومن خلال شهود الحلقة وأرشيفه المتنوّع، نكتشف تفاصيل عن غزة لم يكن في الإمكان تخيّلها لولا صور كيغام وعدسته الحرّة.
من شهود الحلقة حفيده كيغام أفاديس جغليان، الذي يظهر واضحًا اعتداده بجدّه ومنجزه. يقول كيغام الحفيد: "حكاية جدّي حكاية مبهرة لا تخلو من كفاح من طراز خاص رفيع؛ إنسان أرمني أصبح فلسطينيًا، وحفر طريقه في غزة، وأدخل إليها عالم الصورة، وسأحاول جاهدًا إكمال ما بدأه".
يوسف ناتيل (مصور وصانع أفلام) يؤكد في شهادته أن كيغام أظهر غزة الحاملة "مختلف مقومات المدينة القادرة على التواصل مع العالم عكس أيامنا هذه".
ناصر عليوة (كاتب ومخرج سينمائي): "كيغام هو الأب الروحي للصورة في غزة. علّمنا كيف تكون. أحدث ثورة وحوّل الصورة إلى حالة شعبية. لا أتصوّر كيف كانت ستكون ذاكرة غزّة لو لم يكن كيغام هنا".
مروان ترزي: "صوّر أشياء لم تعد موجودة: مبنى السرايا الذي هدم. قصر الحاكم المصري الذي هدم. صرح الجندي المجهول".
زياد الشوّا (مصوّر): "نقل العدسة من طبقة معينة وفتحها للجميع. المرأة أخذت حصة من الصور. تغيير الصورة النمطية حول غزة من ثكنة عسكرية إلى مدينة تعج بالحياة والروح والناس. الجامع الكبير. أشجار النخيل. بائع التمر هندي. افتتاح السنترال. شارع عمر المختار. سكة قطار غزة، ومطارها، وحي زيتونها، وبحرها، وناسها".
صور كيغام وثّقت الهجرة الفلسطينية إلى غزة (شاحنات تحمل الناس وتلقي بهم وسط غزة). كما وثّقت أول الخيام، والانسحاب الإسرائيلي من غزة عام 1956 بعد احتلالها لحوالي ستة أشهر. ووثقت مذبحة خان يونس في عام 1956.
ابنه أفاديس يوضح كيف تمكّن من التصوير إبّان احتلال غزة لمدة ستة أشهر، حيث اشترى بطانيات، وأحدث فيها ثقوبًا ليتسنى له التصوير من تلك الثقوب، وهو ما حدث فعلًا.
ابن كيغام الجد يخبر في الحلقة كيغام الحفيد كيف كانت غزة مختلفة؛ بحر وسباحة مختلطة وفرق أوركسترا تزورها من مختلف جهات الأرض، وكل هذا موثق بصور جدّه. كما وثّقت صوره زيارات الملك فاروق إلى غزة، وعبد الناصر وضيوفه، من تيتو، لنهرو، لتشي غيفارا، لجان بول سارتر، وكذلك زيارات الفنانات والفنانين: صباح، وعبد الحليم حافظ، ومحمد عبد المطلب، وشادية، ونجاة الصغيرة، وغيرهم.
صوره وثّقت، إلى ذلك، بدايات نشوء جيش التحرير الفلسطيني الذي شكّله أحمد الشقيري.
الخبيرة في صناعة الصورة زينيا نيكولوسكايا تحدثت في الحلقة عن أهمية التوثيق السياسي والمديني ويوميات الناس الذي أنجزه كيغام وكان بالنسبة لغزة رائدًا فيه.
عين البلد
يُخصص جزء آخر من السلسلة لسيرة المصور أسامة السلوادي، الذي أطلقت عليه الحلقة لقب "عين البلد".
تتابع الحلقة في مطلعها عمل أسامة في التصوير الفوتوغرافي الإخباري إلى أن يصبح هو نفسه خبرًا بتعرّضه إلى إصابة مباشرة مميتة ينجو منها بأعجوبة، ويستعيد وعيه بعد مدة طويلة وقد فقد القدرة على الحركة، وأصبح الكرسي المتحرك ملازمًا له.
الإعاقة الحركية تشكّل تحوّلًا مفصليًا في مسيرة أسامة السلوادي، ويتوّجه للتركيز على التصوير الوثائقي، ويبدأ رحلة توثيق لأزهار فلسطين وموروثها وأثوابها التقليدية الجميلة. كما يؤسس أول وكالة تصوير فلسطينية مستقلة. ويصدر، بحسب الحلقة وضيوفها عددًا من الكتب منها: "أرض الورد" و"ملكات الحرير" وغيرهما، حيث لم يمنعه "قيد الكرسي من حرية اختيار بؤر الجمال ومشهدياته"، كما يقول في الحلقة.
المهندس الزراعي ناصر قدوس يقول حول منجز السلوادي: "على أهمية الإبداع الذي تجلّى خلال توثيقه أزهار فلسطين منذ القرن الثامن عشر، إلا أن القيمة الأهم لِما قام به أسامة السلوادي هو توثيق الموروث البيئي الفلسطيني لينضاف إلى توثيق الموروث الغنائي والأزيائي والعمراني وتراث الأمثلة والمأكولات، وما إلى ذلك، مؤكدًا أن كل ما هو فوق أرض فلسطين فلسطيني، وأن لدينا تاريخ طبيعي، مثلما لدينا تاريخ حضاري وعمراني ووجداني".
"جمال بالتصوير يحمّس العين" يقول أحد شهود الحلقة، فيما هاوية جمع التراث مها أبو شوشة تقول: "أسامة السلوادي صوّر بعين الفلسطيني ابن قرية سلواد، الذي يعي تفاصيل ما يلتقطه ويحياه، وليس بعين المستشرق". من شهود حلقة السلوادي: المصوران الفلسطينيان: عباس المومني، وجمال كيوان.
يقول السلوادي في ختام حلقته: "في بداية عصر التصوير، بدأت تتوافد على فلسطين بعثات تصوير أوروبية، معظمها كانت مموّلة من الصندوق القومي اليهودي، كما تأسست مدرسة للتصوير في القدس عام 1858، أي بعد اختراع التصوير بأقل من عشرين سنة، كل هذا (المدرسة والبعثات) جُنّد لخدمة المشروع الصهيوني، وما قام به مصورو فلسطين هو أنهم حولوا الصورة من خدمة المشروع الصهيوني إلى خدمة الحق الفلسطيني".
المشهد الأخير
تخصص واحدة من الحلقات الست موضوعها لحكاية مصوريْن فلسطينيين صديقيْن هما: نائل شيوخي، ومازن دعنا، اللذان عملا في وكالة "رويترز" بالتناوب، كاميرا واحدة ومصوّران، ولكن بمصيريْن مختلفيْن، كلاهما تعرّض للضرب المبرح من المستوطنين، واستُهدف من جنود الاحتلال الإسرائيلي.
وفي حين يتعرّض نائل في عام 1998، لإصابةٍ حرجة بثلاث رصاصات مطاطية إحداها في الرأس، منتقلًا إلى رحلة علاج تضمّنت السفر إلى لندن، قبل أن يعود إلى مزاولة عمله، فإن نصيب مازن يكون الاستشهاد، ولكن ليس في فلسطين، بل في بغداد، قرب سجن أبو غريب في عام 2003، وبرصاص جنديٍّ أميركيٍّ يمتطي دبابة احتلال، ويمطر الصحافيين بوابلٍ من الرصاص، واحدة منها تستقر في صدر مازن دعنا.
في الحلقة شهود كثر، منهم: المصوّر بلال الجنيدي. المصوّر وائل الشيوخي (شقيق نائل الذي يرى أن سبب عنف جنود الاحتلال مع المصورين الفلسطينيين هو أن الكاميرا هي عين العالم على فلسطين). المصوّر حازم بدر. سوزان دعنا، زوجة مازن. حمزة دعنا ابنه. بيسان دعنا ابنته. المصوّر مأمون وَزوَز. حجازي الشيوخي، والد نائل، الذي قدّم شهادة مؤثرة وصادقة رائيًا أن الإعلامي جندي في المعركة. شهادة رجاء الشيوخي زوجته.
خلال تكريمه من الجائزة الدولية لحرية الصحافة في عام 2001، يقول الشهيد دعنا: "الكلمة أمانة، والصورة حق، وسأواصل عملي رغم كل المصاعب حتى لو كلّفني ذلك حياتي".
أول حدث وثّقه نائل بكاميرته مجزرة الحرم الإبراهيمي في عام 1994. ومما وثقه حصار كنيسة المهد في بيت لحم عام 2002.
في محاضرة ألقاها نائل الشيوخي في الكلية العصرية الجامعية في رام الله، يسأل طلبة الكلية ممن توافدوا إلى محاضرته "على الصحافي أو المصور الصحافي أن يسأل نفسه هل هناك ما يستحق أن يضحي بحياته من أجله؟ هل يقبل أن يموت من أجل صورة؟" وإذا بالإجابات جميعها لا، وطالبة تعلق قائلة (فش أغلى من الروح)! وأسأل هل مَرَّ هذا المشهد على المخرجة وكاتبة السيناريو من دون أن تنتبه له؟ هل قصدته فعلًا؟ المحيّر أن الاحتماليْن أفضلهما سيء، ولكن، بالتأكيد، فإن احتمالية قصدية المشهد أسوأ بكثير من احتمالية انزلاقه من بين يديها، وبين يدي (مونتير) الحلقة علي الصبيح، أو مفرغة المقابلات والمشاهد وجيهة الأبيض، من دون قصد منهم أجمعين!
ذاكرة الأرض والإنسان
المصوّرة الفلسطينية صفاء الخطيب، خريجة أكاديمية الفنون والتصميم في القدس التي تأسست في عام 1906 لتعزيز المآرب الصهيونية ولتكون خادمة لها، تكشف في حلقة "الأب والابن" أن تلك الأكاديمية لا تدرّس في مناهجها منجز المصورين الفلسطينيين الأوائل، أمثال خليل رعد، وكريمة عبود، وسابا الأب والابن، ولا غيرهم من المصورين الفلسطينيين. وفي رأيي أن ما فعلته الأكاديمية منطقيٌّ بالقياس إلى دورها الاستعماريّ الذي كان يسعى إلى تكريس أكذوبة "أرض بلا شعب"، فإذا بمصوّرين (قرود) ينبثقون لهم من العدم الذي افترضوه وتوهّموه، ويخلّدون كل تنهيدة امرأة، وكل خطوة رجل نحو حقله، أو مكتبه، أو متجره. يلتقطون إشراقة الصبح على البحر المحتشد بالناس والمراكب والصيادين. يُمسّون على بحيرة طبريا. يخشعون في حضرة المصلّين في كنيسة القيامة والمسجد الأقصى، مصورين عرّوا خداعهم، وهرمسوا أكاذيبهم، وتجلّوا بوصفهم ذاكرةَ الأرض والإنسان، ووثيقة الحق الذي لا ينتهي بالتقادم.