}

حيُّ الشيخ عِجْلين: ربْوَةُ الشُّموخ تتنفّسُ نسيمَ البحر

محمد جميل خضر محمد جميل خضر 24 أغسطس 2024
أمكنة حيُّ الشيخ عِجْلين: ربْوَةُ الشُّموخ تتنفّسُ نسيمَ البحر
"مفترق العشاق"
فوقَ ربوةٍ عاليةُ النّدى جنوب غربي غزّة البلد، يتربّعُ حيُّ الشيخ عِجْلين منذُ عهودِ المماليك، منذ آمادِ الصحابة الكرامِ ومجدِ كنعان. يشهقُ مياهًا عذبةً، ويزفُرُ عنبًا وتِينا. يجعلُ من مفترقةِ عند بحرِ غزّة ملتقى للعشّاقِ جميعِهم؛ عشّاق فواكهَ الموسم، ومشاويرِ البحر، ومختلفِ موجباتِ الحياة.
عصيٌّ، رغمَ صِغَر مساحته، الحيّ، يرفضُ أن تُكْمِلَ حدودُهُ مخططَ المحورِ المعتدي على غزّة وأهلِها (ما يسمّى بمحورِ نتساريم). أبيٌّ هوَ، يحضن أبناءً كرامًا من آل شملخ وغيرَهم ممّن سكنه بعضهم منذ مئات السنين.
ليسَ بعيدًا عن حيِّ "تلّ الهوى"، يشكّل الحيّان نقطتيْن ساخنتيْن للكَمائن والمفاخرِ والصّمود. يرعبان العدوّ الجَبان. وفي كلِّ مرّة يهزآنِ بِهِ، ويلاحقانِ فِرارَه بالعِبارةِ السرمديّة الماجِدة: "إن عُدتم عُدنا". ومنذُ كمين الثامن من تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، وحتّى يومنا هذا، لم تتوقّف الكمائن، ولا تسامحَ أبطال المقاومة مع كل صيدٍ يقع تحت نارِ غضبِهم، وياسينِ قذائِفهم، وقنّاص غولِهم.

مفترق الشيخ عجلين

مع حلول موسميّ الصيف والشتاء، يتحوّل مفترق الشيخ عجلين إلى بازارٍ دائمٍ لِبيع ما تنتجه الأراضي الزراعية المُحيطة به، فيما يستغله أهالي الحيّ لِعرض بضائعِهم، والتّنافس فيما بينَهم. إذ تشتهر مُنتجات حي الشيخ عجلين بالجودةِ العالية، لتوفّرِ مختلف مقوّمات الزراعة الطبيعية.
مفترق الحيّ يقع غرب الحي، في الفضاء الأقرب للبحر الذي يقيم معه أهل غزّة والقطاع قصة عشق بدأت منذ أيام كنعان، فهو البحر الذي فتح لهم آفاق التواصل مع مختلف الحضارات التي انتشرت حول ضفاف البحر الأبيض المتوسط، شرقَه وغربَه.
قربه دوّار النابلسي (كان يسمّى دوّار شملخ، لكنه أخذ اسم دوّار النابلسي بعد افتتاح أسيريْن محرريْن من صفقة "وفاء الأحرار" أحدهما من نابلس والآخر من الخليل، محل كنافة نابلسية قرب الدوار في عام 2013). ومَن لم يكُن يعرف دوار النابلسي، فحتمًا بات يعرفه بعد "مجزرة الطحين" أو "مجزرة دوّار النابلسي" عندما استهدف العدوّ الصهيونيّ في 29 شباط/ فبراير الماضي 2023، (أي بعد 146 يومًا من بدء العدوان على غزّة)، المتراكضين نحو أكياس الطحين فور سماعهم وجود شاحنات مساعدات قرب الدوّار تحمل الأبيض منه الذي فُقِد من القطاع (خصوصًا شماله) مع بدايات العدوان على غزّة، ما أدّى إلى استشهاد 112 فلسطينيًا وجرح زهاء 800، اختلط دمهم جميعهم (الشهداء والجرحى) بالطحين الذي ماتوا دونه. استشهدوا نَحيلين، وَصعدوا خِفافًا أثيريين إلى جِنان الصبر واليقين.
يتميّز مفترق الشيخ عجلين، الذي يتمرْكز على دوار رئيسيٍّ يفصل بين الجنوب الغربي لِمدينة غزة، وبداية الطريق الساحلي المؤدي إلى المناطق الوسطى والجنوبية للقطاع، ببضائعهِ المختلفة، التي يتركّز فيها بيع الفواكه أو الخضار الموسمية للفصليْن الرئيسييْن.
هناك، وقبلَ كل هذا الدّمار، وصمتِ مختلف معطياتِ الحياة، كان صوت البائع شاهر شملخ في الناحية الغربية لِمفترق "الشيخ عجلين"، يصعد بالنّداء على أصناف الفواكه الصيفية، التي يكون بالكادِ حصدها وبدأ ببيعِها مع حلول الموسم الصيفي في شهر يوليو/ تموز من كل عام.
بيع العنب والتين بالنسبة لِشاهر هو أمرٌ توارثه عن أبيه، وتوارثه أبوه عن جدّه. البسطة هي ذاتها، ومظلّة الحماية من حرّ تموز وآب هي نفسها؛ كلّ ما في الأمر، أن شاهرَ لوّنها بألوان الأمل، ومنحها روحًا شبابيّة قاصدًا بذلك زبائن بعيْنهم.
يقول شملخ ذات تقرير صحافي: "إن الأراضي الزراعية في حي الشيخ عجلين، تتميّز بعذوبة المياه فيها وخلوّها من نِسب الأملاح المائية العالية، وهو ما يحتاجه العنب والتين تمامًا، إضافة إلى درجات الحرارة المرتفعة، كي تنضج ثمارهما".

ملامح الحي من الداخل 

على وجهِ العُموم، تتنوّع (كانت تتنوّع) أصناف الفواكه الموسمية المعروضة على جنبات المفترق، ما بين العنب بأنواعِه، والتين بألوانِه، إلى جانب فواكهِ الصبر، والمانجا، والموز، والخوخ، والبلح الأصفر، علاوةً على بيع قُرون الفلفل الأحمر، والفلفل الأحمر المطحون (لِعيون الدقّة الغزّاويّة).




فأينَهم اليوم باعة مفترق الشيخ عجلين؟ ويا هل ترى ما هي أخبار عبد الرحمن الريفي الذي بدأ البيع في المفترق منذ عشرة أعوام ماضية، رائيًا أنّ "ما يحكم العمل في سوق الشيخ عجلين هو طبيعة الموسم، وأصناف الفاكهة المتوفّرة".
زمان، قبل العدوان، كان المصطافون يتسابقون على شراء الفواكه الموسمية المعروضة على مفترق الشيخ عجلين، الواقع في منطقة ساحلية تحيط بها العديد من الاستراحات والمطاعم، حيث كان يتواصل العمل فيه طيلة أيام الأسبوع، فيما يشتدّ مع حلول يوميّ الخميس والجمعة.
أيامها كان البائع محمد علي وجاره البائع عادل شملخ يجهّزان بسطاتِهما منذ الصباحِ الباكرِ، وليسَ بعيدًا عنهما كان يفاخرُ البائع عبد الله أبو عفش بفواكه المفترق، وبركات الحيّ، ومسرّات الأيام البسيطة المُفعمة بالرّضى.

سِمات

يتجلّى الحي فوق الربوة التي يعتليها كما لو أنه فجوةٌ مفتوحةٌ باتجاه جنوب القطاع... مساحته الصغيرة (تبلغ مساحته حوالي 2227 دونمًا)، وعدد سكانه القليل (تعداد سكانه أقل بقليل من 20 ألف نسمة)، أتاحا له أن يعلن عن نفسه بوصفه أسرةً صغيرةً عامرةً بالمحبة، مشهورةً بالكرم، معروفًا عنها الفزعة، موصوفةً بالإِباء، شأنُ الحيِّ في ذلك شأن أهل غزّة أجمعين.
في الحيِّ أرضيةٌ من الفسيفساء تقع فوق تلّة "بطْشان" في الجهةِ الشمالية من الحيّ، اُكتشفت مصادفةً في صيف عام 1966، وهي أرضيةٌ لكنيسةٍ بيزنطيةٍ مزدانةٍ بالعديدِ من الحيوانات والأُسود والنّمور والزّرافات وغير ذلك. في قلب الأرضية ما يشبه الميداليّة مكتوب عليها: "نحن تاجرا الأخشاب مناموس وإيزورس أبناء إيزيس المباركة أهدينا هذه الفسيفساء قربانًا لأقدس مكان عن شهر لوس من عام 569".

مسجد خليل الوزير في حي الشيخ عجلين 

يقال إن اسم الحيّ هو نسبة لشيخٍ سكنه في الفترة المملوكية اسمه عجْلين ابن (أبو عرقوب) ابن الشيخ علي بن عليل، وأنه يعود بنسبه لِعمر بن الخطّاب. وهي المعلومات التي لم يتسنَ لي التحقق منها، خصوصًا أن اسمه كاملًا لا يوحي بالدقّة ولا التناغم مع الأسماء التي كانت دارجة في الزمن المملوكيّ والله أعلم. كما يقال إن الشيخ عجلين هو شقيق الشيخ رضوان الذي يحمل حيٌّ آخر من أحياء غزّة اسمه.
حول موضوع أسماء أحياء وشوارع غزّة، يُبيّن المؤرخ سليم المبيّض في كتابه "غزّة وقطاعها" أن الناس كانت تعتاد إطلاق بعض التسْميات على المناطق وفقًا لندرتِها، وإشارةً لتمييزِها عن غيرها من الأماكن، أي لِمجرد سكن شخص مصري أو مغربي في شارع معين، كان يُسمَّى الشارع أو الحي باسمهم: "شارع المصري"، أو "حي المغربي".




كما أنه، وبعد عام 1948، أخذت الأحياء القديمة بالتوسّع والانْتشار، إلى جانب تكوّن أحياء جديدة أخرى، نظرًا للزيادة السكانية، وانْتشار الناس في معظم أنحاء قطاع غزّة، كما يُبين المؤرخ الفلسطيني ورئيس قسم التاريخ والآثار في الجامعة الإسلامية بغزة غسان وشاح، الذي يقول لِموقع "ألترا فلسطين" إن الفلسطيني لم يكن يُطلق قديمًا الأسماء، إنما الأسماء هي التي تغلب على الأماكن، فيتمّ تداولها بين الناس والتعارف عليها، عكس ما يحدث اليوم من إطلاق الناس والحكومات لأسماءٍ معينة على الأحياء والمناطق المختلفة.
على كل حال دمّرت طائرات العدوان الصهيوني في عدوان عام 2014، المسجد الذي يحمل اسم الشيخ عجلين.

كهرمان يا عجلين...

عنب الشيخ عجلين مشهور بمذاقهِ الحلو، وهو ما تؤكده الأوصاف التي يرددها الناس هناك: (عنب الشيخ عجلين امصيّت بحلاته... امصيّت بلونه الأصفر مثل الكهرمان)، ويقولون أيضًا: "كهرمان يا شيخ عجلين".
على امتداد كورنيش بحر غزّة لا تنتهي كروم عنب الشيخ عجلين، ولا تنتهي مُتع تأمّل العناقيد المدلّاة مثلَ إشراقاتِ الذّهب...
وبحسب مدير عام التسويق في وزارة الزراعة تحسين السقا فإن الأراضي التي كانت مزروعة بالعنب في قطاع غزة تبلغ 7000 دونم، 5500 منها مزروعة في حيّ الشيخ عجلين وتحمل اسمه: "عنب الشيخ عجلين".
ورغم الطعم الحلو الذي يتميّز به "عنب الشيخ عجلين"، فإن كثيرًا من أهالي الحي يجفّفونه ويحوّلونه إلى زبيب. وكذلك الأمر مع تين الشيخ عجلين الذي يحوّله بعضهم إلى قُطّين.
من الأمثال الفلسطينية مثلٌ يقول: "عنب الخليل للعنّابية، وعنب غزّة للأكل"، في إشارة إلى أن العنب المفضّل لصناعة المُربّى هو عنب الخليل، فيما عنب غزّة، والشيخ عجلين على وجه الخصوص، هو المفضَّل لِلأكل.

الحيّ المقاوِم

بعد سحب العدوّ الأميركي الرصيف العائم الذي صنعوه لِغاية في نفوسِهم قُبالة حي الشيخ عجلين، زادت حاجة العدو الصهيوني لمزيدٍ من الاقتحامات للحيِّ والأحياء المجاورة له من أجل تأمين الحماية لِمحور نتساريم الذي جعله العدو خنجرًا يقسم ظهر القطاع ويفصل جنوبه عن شماله. وهي الاقتحامات التي تُواجَه، في كلِّ مرّة، ببطولاتٍ غير مسبوقة لا في التاريخ القديم ولا الحديث. بطولاتٌ يتسابق عليها مقاومو حي الشيخ عجلين، مع مقاومي حي تل الهوى، وحي الزيتون، وباقي الأحياء القريبة من المحورِ العدوانيّ المقيت.
كمائنُ مركّبة... دوريات... اقتحامات للمحورِ ودخوله غير مرّة من عدّة جهات... قنْص... تحايلٌ على أنشطة العدو الاستخبارية... استفادةٌ من تدنّي الروح المعنوية لدى مرتزقة العدو... هذا وغيره حوّل الحيّ والأحياء الأخرى إلى نماذجَ مقاومةٍ تدرّس، ومعجزات صمودٍ مستحيل.

مجازر متواصلة

المجازر التي يتعرّض لها حي الشيخ عجلين هذه الأيام ليست جديدة على الحي، فقد تعرّض في 28 آب/ أغسطس 2002، إلى مجزرة راح ضحيتها أفراد من أسرة الهَجين؛ إذ استشهد كل من رويدا الهجين (55 عامًا) وابْناها أشرف (22 عامًا) ونهاد (17 عامًا) وابن عمهما سمير (17 عامًا)، بعد أن قصفت دبابات العدو الصهيوني منزلهم في الحي. وأفادت مصادر فلسطينية وقتها، أن القوات الإسرائيلية منعت سيارات الإسعاف من الوصول إلى ضحايا المجزرة لعدّة ساعات.
وأوضح مصدر أمني فلسطيني وقتها أن "قوات الاحتلال مستعينةً بدبابات وآليات عسكرية توغّلت مئات الأمتار في حي الشيخ عجلين وسط إطلاق قذائف مدفعية ونيران الرشاشات الثقيلة تجاه المنازل من دون سبب"! وأشار إلى أن المنزل دُمّر بالكامل نتيجة القصف المدفعي الإسرائيلي الذي ألحق دمارًا بِمنازل أخرى في المنطقة.
وأضافت المصادر الطبية أن خمسة آخرين من أفراد العائلة نفسها أصيبوا بجروح إصابة أحدهم خطيرة جدًا.
ويعود المنزل إلى عثمان محمود حسين الهجين وعائلته المكونة من ثمانية أفراد، وجميعهم من سكان حي بئر النعجة في جباليا.
وهو مكون من جزأين: الأول من الصفيح مساحته نحو 25 مترًا مربعًا، والثاني معرش من الجَريد (سعْف النخيل) ويبعد نحو 20 مترًا عن الأوّل.
وقد دأبت العائلة على القدوم إلى المنطقة منذ بداية فصل الصيف من كل عام لرعايةِ أرضهم المزروعة بالعنبِ والتينِ وقطفِ محصولِهما.
مركز "الميزان لحقوق الإنسان" استنكر أيامها هذه الجريمة التي تضاف إلى سجل الجرائم التي ترتكبها قوات العدو الصهيوني بحق الفلسطينيين وممتلكاتهم في الأراضي الفلسطينية. وأكد المركز أن قوات الاحتلال ماضيةٌ في تصعيد جرائمها بحق الفلسطينيين، في ظل عجز دوليٍّ عن وضْعِ حدٍّ لتلك الجرائم (ما أشبه اليوم بالبارحة).
ليس بعيدًا عن حي الشيخ عجلين، وتحديدًا في حي النصر غرب غزّة والرّمال، هناك استشهد الشاعر والأديب الفلسطيني سليم النفّار (1963-2023)، استشهد ومعه أسرته جميعها بعد أن قصف العدو الجبان منزله المدني المسالم. جاب النفّار الدنيا وتنقّل بين لبنان وسورية، ليعود عام 1994 إلى غزّته، مستفيدًا من (بشائر) أوسلو! ليقضي فوق تراب غزّة (حيث وُلِدَ) شهيدًا، إلا أن استشهاده لم يمنع صدى كلماته من أن يظل يتردّد في المدى الذي لا يُحد:
"انتظرتك يا صبح... طويلًا
عُمْر الفجيعة والتردّي
لكنّي.
ما شحذتُ النورَ من قمرٍ
قدمتُ لك الوردَ
من مشاتلِ الدم
قدمتُ
وما انتظرتُ
أما الآن
فإنّي واثقٌ
سأزفّ نورَكَ
فوقَ منكبيّ الوطن".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.