}

"القصّة لن تموت": عن فنّانين سوريين في المنفى الأوروبي

يوسف الشايب 29 مارس 2023
سينما "القصّة لن تموت": عن فنّانين سوريين في المنفى الأوروبي
الفسيفساء السورية على مائدة العشاء الأخير (من الفيلم)

يسلط المخرج والمنتج الكندي، ديفيد هنري غيرسون، في فيلمه "القصة لن تموت"، عبر فنّانين سوريّين تشتتوا في أنحاء أوروبا، ما بعد عام 2011، الضوء على المأساة السورية المتواصلة ما بين كثير من الألم، وشيء من الأمل، جسدته حيوات مبدعات ومبدعين، على الرغم من أن "الحرب تستمر في سورية في ظل حكم بشار الأسد الذي لا يزال رئيسًا للبلاد"، إلا أنهم "لا يزالون يبدعون من دون رقابة".
الفيلم عرض في قاعة مؤسسة عبد المحسن القطان في مدينة رام الله، أخيرًا.
وعبر حكايات مغني الراب "أبو حجر"، الشخصية المحورية في الفيلم الوثائقي الذي أنتجته أوديسا راي نافالني، الحائزة على جائزة مهرجان صندانس العالمي، وبالإضافة إلى شخصيات إبداعية أخرى اشتهرت خلال الثورة السورية، كموسيقي الروك، أنس مغربي، وعضويتي فرقة الروك النسوية السورية الأولى، بهيلة حجازي، ولين مايا، وراقص البريك دانس "إم. أتش. دي صبورة" (الظل)، ومصمم الرقص، مدحت الدعبال، والفنانين التشكيليين: تمام عزام، وعمر إمام، وديالا برصلي، يعيش المشاهد رحلة تتواصل على مدار عشرة أعوام، منذ اندلاع الثورة السورية وحتى إنتاج الفيلم في عام 2021.
في هذا الفيلم، تحديدًا، على عكس عدد من أفلامه السابقة، ورغم براعته التي اشتهر بها في أسلوب قصّه المغناطيسي، نرى غيرسون يمنح هذا الدور طواعية للفنانين، فكان فيلمًا إنسانيًّا بامتياز، يُظهر قوّة الفن في مواجهة الدكتاتورية والقمع، وأي نوع من أنواع الاضطهاد، بل ونجح، بقرارٍ واعٍ على المستويين الشكلي والموضوعي، في الابتعاد عن نمطيّة الطرح، وبالتالي لم يكن الفنانون محض مؤشرات، أو قائمة في جدول بيانات للوصول إلى وصف ما ليس للأزمة السورية المتواصلة فحسب، بل لأزمة اللاجئين منهم في الغرب، وتحديدًا في أوروبا، بما عاشوه وما يعايشونه، بحثًا عن أمل كادوا يفقدونه، أو فقدوه لسنوات قبل العودة للارتماء في أحضان إبداعاتهم، إثر ما يمكن وصفه بـ "فشل الثورة"، عبر اقتحامها من عناصر "شوهت طهارتها"، وبسبب استمرار "الدكتاتور" في حكم بلادهم وأهليهم، برغم كل ما فعله ويفعله هو ورجالاته.




مغني الراب، والراقصة، والمغنية، وفرقة الروك النسائية، وفنان الأداء، ومصور الفيديو، والرسّام، والنحّات، يَظهرون ويُظهرون عبر أعمالهم وحكاياتهم كم هم مذهولون، وإن كانت هذه الأعمال الإبداعية التي باتت احترافية أكثر في القارة العجوز لم تبتعد، بطبيعة الحال، في أن تكون بمثابة تصوير مباشر لتجاربهم في اللجوء، وذلك ليس فقط ليقصوا حكاياتهم ويشاركونا حيواتهم ومشاعرهم المتقلبة على مدار سنيّ المنفى المستمرة، بل لينقلوا إلى العالم مأساة اللاجئين السوريين، الذي يشكلون نصف تعداد الشعب السوري، أو أكثر، وخاصة المبدعين منهم، ومأساة بلادهم التي لا تزال تعيش تحت القصف، والنار، والعنف، والدكتاتورية.
نراهم يروون للكاميرا، أو لنا، قصصًا مروّعة، من خطف وتعذيب وقتل لأصدقاء وأقارب، وتجنيد إجباري في الجيش السوري، بل ووصمهم بـ"الخونة" لشرعنة كل الانتهاكات التي من الممكن أن تطالهم، وهو ما دفعهم للهجرة، التي كانت في جلّها أشبه برحلة مجهول نحو موتٍ متوقع في الطريق إلى اليابسة، أو عليها، لكنّه قد يكون أقل وطأة من موتٍ مُنتظر يبدو حتميًا في الوطن.

الرابر السوري محمد أبو حجر، الشخصية المحورية في الفيلم


ورغم أن عشرات الأفلام أعدّت خلال سنوات جائحة كورونا حول المأساة السورية، ما بين وثائقية وروائية، طويلة وقصيرة، لكن ما ميّز هذا الفيلم، علاوة على ما ذكر آنفًا، أنه في حدّ ذاته كان تعبيرًا فنيًّا، من خلال أولئك الفنانين الذين يتواصلون، أو يحاولون، مع عالم أكبر منهم بكثير، عبر ما يملكونه من إبداعات، ومن أحاسيس، فنجدهم شخصيات ساحرة بمشاعرها، وحكاياتها، بالإضافة إلى فنونها.

لقطة من الفيلم 


وكانت لمواكبتنا لهؤلاء الفنانين، وهم يحاولون إيجاد أرضية مستقرة للوقوف عليها، والنزيف الفني الذي يندلق منهم في المخيّمات الأوروبية، لمن لا يزال يقبع فيها، أو في المدن، لمن حالفه الحظ بالحصول على إقامة أو جنسية، الأثر الكبير ليس فقط علينا، بل لربما على كل من شاهد الفيلم الذي عرض في كثير من المهرجانات العالمية، وحاز جوائز سينمائية بارزة، فلا يمكن أن يمّر "القصة لن تموت" مرور الكرام، أو ألّا يترك أثرًا ملموسًا ومحسوسًا لفترات زمنية متفاوتة، لكنه بكل تأكيد سيذوب بعدها في اللاوعي، ليشكل وعيًا مغايرًا عمّا سبق مشاهدته، والتماهي معه كمُنتَج فنّي أخذ شكل فيلم سينمائي وثائقي، ولكنه أيضًا كان أشبه بمهرجان جمع هؤلاء المبدعين المهاجرين من سورية، ولو أمام عدسة ذات المصورين والمخرج، أو كما في المشهد ما قبل الختامي، حيث الحفل الجماعي، والأهم أنه نجح، ولو قليلًا، في تعريف الجمهور عامة، والغربي خاصة، ولا سيما الأوروبيّين، أو تذكير من يعرف منهم، بمعاناة اللاجئين السوريين خاصة، واللاجئين عامة من الباحثين عن حياة يبدو فيها الموت أبعد قليلًا عمّا هو في بلادهم، وتبدو فيها الحرّيات أكبر بنسب متفاوتة، لكنها بكثير عمّا كان في "بلاد الدكتاتور"، كما يصفونها.




وممّا يميّز الفيلم، أيضًا، هو ذلك التأثير الذي لطالما تحدثت عنه، فبعد إثارة نوع من التعاطف، ينتقل الفيلم بموضوعاته حدّ التحوّل شبه الكلّي لجهة التركيز على الإلهام، والتحدي، وقوّة الخصوصيّة، كما خصوصيّة القوّة لدى الفنانين، فلو نجح في شقّ طريقه إلى دواخل شخص واحد، أو أكثر، من أصحاب الصورة النمطية السلبية حول المهاجرين عامة في أوروبا، فإنه يكون بذلك قد فتح بابًا أغلق كثيرًا وطويلًا، ولو لمساحة ضيّقة زمكانيًّا، كفيلة أن تتسع مع الوقت، وحينها، وهو ما أعتقد أنه حدث، فإنه سيكون أكثر من مجرد عمل سينمائي متميّز، أو سلسلة أعمال فنيّة وحكايات وحيوات داخل مساحة بصرية أدارها غيرسون باقتدار على مدار 83 دقيقة.
حكايات كثيرة لافتة في الفيلم الذي في كلّ مرّة تشاهده تكتشف جديدًا على الصعيد الفنّي، أو على مستوى المضمون، من بينها تلك الحكاية التي يرويها واحد من أعضاء فرقة جماعية، كانوا يستقلون القارب نفسه، ويحملون معهم طبولهم من سورية، وكان اللافت أنهم، ليس فقط نجوا وطبولهم من الغرق، بل إنهم، وبعد أن غسلتهم المياه التي كادت تقتل بعضهم قبيل أن يطأوا أرض جزيرة "ليسبوس" اليونانية، فاجأوا السيّاح على الشاطئ، بتوزيع أسطوانة خاصة بهم؛ أو تلك الرواية على لسان فنان آخر بخصوص علاقة بدأت تربطه بفتاة كانت جدّتها قد هربت في الحرب العالمية الثانية بصحبة أخيها الذي مات في الطريق، في حين وصلت هي إلى بولندا، أي الجدّة التي فقدت شقيقها، قبل أن تحطّ بها الرحال في برلين، مثله، مع فارق عقود زمنية... أجلسته الجدّة في حجرها، وبدأت تحدثه الألمانية، وصديقته تترجم له بأن جدتها سعيدة لأنه على قيد الحياة، وبأن كلّ ما عليه فعله هو أن يثبت أن هذه الفرصة للحياة مجددًا لم ولن تذهب هباءً.
ويرصد الفيلم أيضًا عددًا من المشاريع الفنية لمبدعيه كل في مجاله، والتي تلتصق ببلادهم ومآسيها، وبأحلامهم الصغيرة أو الأكبر، فهم يعيشون الحياة ما استطاعوا إليها سبيلًا، ولكنهم، وكأنهم يرددون بصوت واحد، ولو في دواخلهم، ما يغنّيه أنس مغربي في نهاية الفيلم بأن "إلي وطن أنا إلي وطن، وراح أرجع لو طال الزمن".
وبينما بدأ بعضهم بدايات جديدة في بلد أوروبي، أو آخر، بقي بعض آخر عالقًا في مخيمات اللاجئين، على أمل الموافقة على طلبات الهجرة الخاصة بهم، بحيث يشعر الجميع أنه لم يكن أمامهم خيار سوى الهجرة، ومع ذلك يبقى القلق يتملكهم بشأن أحبائهم الذين تركوهم وراءهم في "الوطن" المثخن بالجراح.
جدير بالذكر أن اسم الفيلم مقتبس من مقطع لأغنية "أبو حجر" الأولى حول الثورة التي كان منخرطًا فيها غناءً في الميدان، وربّما أكثر من ذلك... "هيدي القصة مأساويّة لأكثر من شب وصبيّة، هاي قصة ناس ماتوا هيك بدون أي إنسانيّة... والقصّة ما عم بتموت، قصة وجع عم يتردد معك اليوم... عم بيفوت".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.