}

رنا بطراوي: حكايات عن الفن والحرب واللوحات الناجية بغزة

يوسف الشايب 28 أبريل 2024
هنا/الآن رنا بطراوي: حكايات عن الفن والحرب واللوحات الناجية بغزة
رنا بطراوي
أكدّت الفنانة البصرية الفلسطينية رنا بطراوي أن لوحاتها المعروضة في المتحف الفلسطيني في بلدة بير زيت، القريبة من رام الله، في إطار تظاهرة "هذا ليس معرضًا"، هي الوحيدة الناجية لها، بعد قصف منزلها ومرسمها، وتأكيد تدمير محترف شبابيك للفنون المُعاصرة في غزة المدينة، التي غادرتها لتنزح أكثر من مرة في القطاع المحاصر، وتعيش يوميّات الحرب كما غيرها، حتى تمكنت قبل قرابة الشهرين من التوجه إلى العاصمة المصرية القاهرة.
وكان ذلك خلال حوارية انتظمت معها في مقر المتحف، عبر الأقمار الاصطناعية، أشارت فيها إلى أنه إن لم يكن تم تدمير كامل لوحات وأعمال الفنانين في قطاع غزة، فإنه تم تدمير الجزء الأكبر منها، في حرب الإبادة الإسرائيلية التي تجاوزت المئتي يوم.
ولفتت بطراوي إلى أن واحدة من تلك اللوحات أنجزتها خلال إقامة فنيّة في مدينة رام الله، عبر مؤسسة عبد المحسن القطّان، قبل أقل من ثلاثة أشهر من اندلاع الحرب على قطاع غزة، أي في صيف العام الماضي، وهي "جزء من مشروع فنّي عن حاضر غزة الذي كنّا نعيشه ما قبل الحرب، وتاريخها الحضاري عبر المصادفات التي قادت إلى اكتشافات أثرية غاية في الأهمية، عبر حفريّات المزارعين، أو الراغبين في البناء، كلوحة فسيفساء بيزنطية، وبورتريه كنعاني يعود عمره إلى أربعة آلاف عام قبل الميلاد"، وهو ما أثار دهشتها، باعتبارها مهتمة في هذا الجانب، ولكون هذا المشروع يشكل جسرًا ما بين ماضٍ موغل في القدم، وحاضر كانت تراه وغيرها من سكّان القطاع المحاصر لسبعة عشر عامًا صعبة للغاية، وباتت كما الأكثر من مليونين ممّن يعيشون في تلك البقعة الأكثر اكتظاظًا في العالم، يتمنون عودته!



وكان لافتًا أن بطراوي استوحت مشروعها الفني من الطابع التاريخي للآثار المكتشفة، إلا أنها عمدت ونجحت في الخروج بأعمال فنيّة مُعاصرة، من دون أن يفارقها الهاجس الدائم بأن غزة على الدوام مُعرضة للحروب وللدمار، واختفاء كثير من طبقاتها. ولعلّ هذه الاكتشافات تؤكد أن تاريخ المدينة والقطاع بأكمله قائم على المحو، بشكل أو بآخر، لافتة إلى أن البورتريه الكنعاني كان معروضًا حتى ما قبل الحرب في قصر الباشا، الذي تعرّض إلى التدمير، وبالتالي يبقى مصيره كما القطع الأثرية الأخرى في القصر مجهولة المصير.

"المدينة الرماديّة"

أما عملها عن البحر، فاستخدمت فيه مواد تعبّر عن واقع غزة، كالأسلاك، والحديد، والإسمنت، حيث الحروب المتتالية جعلت القطاع في حالة هدم وبناء، والعكس، بشكل دائم، في العقدين الأخيرين على وجه الخصوص، لذا كان يمكن إطلاق لقب "المدينة الرمادية" على غزة، وهو ما انعكس في هذا العمل، وغيره من الأعمال الناجية وغير الناجية، لافتة إلى أن البحر الإسمنتي دلالة على الحصار، رغم امتداد زرقته، فالصيادون، ما قبل الحرب الأخيرة المتواصلة، والتي أدت إلى تدمير المرافئ، كما مراكبهم، لم يكن في إمكانهم تجاوز بضعة كيلومترات، تحت تهديد القتل من نيران يطلقها زورق يتبع جيش الاحتلال.



ووصفت بطراوي غزة بالجميلة والمتناقضة في آن، وبأن من بين ما يميّزها ناسها، وثقافتها المختلفة، حيث كوّنت شخصيّتها فيها، هي التي سكنتها منذ صباها، وتحديدًا حين كانت في عمر الثامنة عشرة، وعاشت فيها لاثنين وعشرين عامًا... و"متعب جدًا، وصعب على أيّ منا أن يستوعب ما باتت عليه غزّة الآن".
ومن ذات المجموعة، تحدثت بطراوي، التي تُبدع في النحت أيضًا، وكانت لها مشاركات متميزة في معارض محلية وعربية ودولية، عن لوحة بعنوان "فاكهة البحر"، واتكأت فيها على خامات زوّدها بها صيّادو غزة، مشددة على عشقها غير المحدود لبحر غزة، وحضوره الكبير في أعمالها، كما في يوميّاتها قبل الحرب الخامسة التي نجت منها، منذ إقامتها في القطاع.
وتركّز بطراوي في أعمالها، أكانت لوحات، أو أعمالًا بصرية، أو تركيبية، أو منحوتات، على فلسفة الرموز، فالسمكة هي ليست فقط "فاكهة البحر" فحسب، بل تراها رمزًا لكثير من الحضارات والديانات، ارتبطت لدى البعض بالخصوبة والحب، بل إن بعضهم كان يقدسها، أو يعبدها، أو يقدمها قرابين للآلهة، أو طعامًا للموتى، لافتة إلى أن مشهد الصيّادين وهم يعرضون محصولهم في "معسكر الشاطئ"، أو مخيم الشاطئ للاجئين قبل الحرب، لا يمكن أن يجد الناظر له مثيلًا في العالم، واصفة إياه بالطقس الرائع، والجزء الأصيل من يوميّات الغزيّين، مشيرة إلى أن المخيم تمت إبادته، أو إبادة أجزاء كثيرة منه، على أقل تقدير.
ووصفت بطراوي يوميّات الحرب التي عاشتها في غزة بالصعبة، مؤكدة أن تعبير "صعبة" أقل بكثير ممّا يحدث على أرض الواقع، مؤكدة أنها لم تتخلص بعد شهرين على مغادرة القطاع من ذلك الشعور، لكونها لا تزال تشعر أنها في غزة فعلًا، فلم تغادرها المشاعر التي عايشتها على مدار أكثر من أربعة أشهر من حرب الإبادة، ولا تعلم إن كانت ستغادرها يومًا، مشيرة إلى أنها كفنانة، وربّما غالبية الفنانات والفنانين في غزّة، لم يسألوا أنفسهم بعد ما الذي هم مُقدِمون عليه، وماهية مشاريعهم الفنيّة، أو أعمالهم الآتية، في مستقبل قريب أو بعيد، وإن كان بعضهم يقوم برسم "اسكتشات" خلال الحرب فهي عبارة عن تفريغ من جهة، وشعور بالبقاء على قيد الحياة من جهة أخرى، أو توثيق ما لما يعايشه، خاصة مع غياب كل مقوّمات الحياة في القطاع، ومع لا جدوى الوقت، بانتظار أي صاروخ قد ينهي حياته، أو حيوات من يحبهم ويحبّونه، مؤكدة أنها تنتظر أن يتوقف شلال الدم في غزة لتكون قادرة على التفكير في مشاريع فنيّة مستقبلية.
وأكدّت بطراوي على أن ثمة شكوكًا تسكنها، وربّما غيرها من المبدعين، بخصوص ما إذا كانوا قادرين عبر الفن على التعبير عمّا حدث ويحدث في غزة منذ اندلاع الحرب في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، خاصة مع اختلاف هذه الحرب عن سابقاتها، "حيث عشنا جميعنا أكثر من نزوح، وخسرنا منازلنا، وبعضًا أو كثيرًا من أحبّتنا"...



وختمت بطراوي، التي كانت أنجزت مشروعًا فنيًّا مُهمًا، رفقة الفنان شريف سرحان، عند وادي غزة، الذي دمّره الاحتلال بشكل كامل في هذه الحرب، بأن مسار أي مشاريع فنية مستقبلية لها ولفناني غزة، وإن كانت لا تعرف متى يمكن أن تكون، سيكون مغايرًا عمّا كان عليه قبل السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الفائت، فهي لن تخرج عن تجربة الحرب التي ستكبلها، وهي تجربة لربما أقسى كلمات اللغة العربية في قواميسها المختلفة لا تعبر عن فجاعتها وقسوتها وصعوبتها، فما يحدث ليس فقط صدمات متتالية، بل يستحيل استيعابه.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.