}

الاحتضار في السينما: الذهاب إلى الموت بألوان الحياة

محمد جميل خضر محمد جميل خضر 15 أبريل 2023
سينما الاحتضار في السينما: الذهاب إلى الموت بألوان الحياة
في فيلم "في الداخل" احتضارٌ يضمر أسئلة الحياة
كعادتِها، السينما العالمية، ما إن يفتح أحدهم باب ثيمةٍ جديدة، حتى يلحقه، أو يزامنه، أو يسبقه، كاتب، أو مخرج آخر، بطرق الموضوع نفسه/ الثيمة نفسها، ولكن، ربما، من زوايا أخرى، ووفق رؤى تحاول الإِتيان بِجديد.
فجأة، ومن دون سابق إنذار، أقع على عدد من الأفلام في سنوات إنتاج مختلفة، تدور جميعها في فَلك موضوعة الاحتضار، وتعاين طريقة تعامل أفراد (رجال ونساء) مع حقيقة اقتراب آجالهم.
ليس الاحتضار بمعناه الحرفيّ المُختصر داخل وعي الناس ولا وعيهم، بصورة تكاد تكون متكررة لأحدهم، أو إحداهن، يجلس/ تجلس على فراش الموت في اللحظات الأخيرة متقطعة الأنفاس، متباعدتها، يودّع/ تودّع حياة أصبحت وراء الظّهر.
فعلى سبيل المثال، في الفيلم الفرنسي "أكثر من أي وقت مضى/ More Than Ever" المُنتج عام 2022، من إخراج الفرنسية/ الإيرانية إميلي عاطف وتأليفها، بالاشتراك في التأليف مع لارس هابريتش، يتجلّى الاحتضار بوصفه دافعًا واندفاعًا نحو خيار تحديد لون حياة هيلين المصابة بالتليّف الرئويّ (أدت دورها الممثلة اللوكسمبورغية فيكي كريبس)، وطعم هذه الحياة وشكلها في أسابيعها، وربما أشهرها، الأخيرة، قبل تلويحة الوداع، قاطعةً آلاف الأميال نحو النرويج البعيدة عن ديارها، لتواجه، وحدها، من دون زوجها وشريكها وحبيبها ماثيو (الممثل الفرنسي غاسبارد أولييل 1984 ـ 2022)، تداعيات احتضارها، وآلام نوبات انقطاع الأنفاس، وحشْرجات نقص الأُكسجين الواصل شرايين جسدها الذي أضناه المرض العُضال. لا فِراش احتضارٍ هنا، ولا فقدان للقدرة على الكلام، أو التفكير، أو اتخاذ القرارات الحاسمة.

في فيلم "أكثر من أي وقت مضى" يتجلى الاحتضار بوصفه دافعًا


احتضارٌ نبيل
تصرّ هيلين على قرارها بالبقاء في الجزيرة المعزولة النائية، حتى بعدما لحق بها ماثيو محاولًا، باستماتةٍ، ثنيَها عن قرارها، والعودة معه للاحتضار هناك في الديار وحولها أهلها وَأصدقاؤها. لا تريد نظرات الشفقة، ولا مشاركة أحدٍ آلام الأصوات الموجعةِ الطالعةِ من رئتيْن معطّلتين، تمامًا، تقريبًا.
هيلين رفضت حتى التمسّك بالأمل الواهن المتعلّق بانتظار دورٍ طويلٍ لعلّها تحظى بمتبرّعٍ، أو متبرّعة، تحصل على رئتيهِ/ا كلتيهما، فلا تكفي في حالتها رئة واحدة.
الفيلم أوروبيّ النزعة شاركت دول أوروبية عدة في إنتاجه: فرنسا، لوكسمبورغ، ألمانيا والنرويج. وهو مشعٌّ بجماليات الدول الاسكندنافية هناك في المضيق النرويجيّ، وبما يملأ رئتيْن مشتاقتين للطبيعة والسكينة، حتى لو كانتا رئتيْن واهنتيْن.

احتضارٌ مِعطاء
الاحتضار المعطاء هو الرسالة الكبرى في الفيلم البولنديّ johnny (2022)، من إخراج دانيال جاروزيك، وتأليف ماتشي كراشوفسكي/ Maciej Kraszewski.
يان كاشكوفسكي رجل دين كاثوليكي (أدّى دوره بإقناع الممثل داويد أوغرودنيك)، يواجه الفصل الأخير من مآلات سرطان الدماغ، يبلغه الأطباء الزمن المتبقّي له قبل أن يكتب سطره الأخير حول جدلية الموت والحياة.
بشجاعة قلّ نظيرها، يقرر الكاهن الشاب (عمره في الفيلم 37 عامًا) تحويل الأشهر القليلة المتبقية له إلى باب عطاء مختلف؛ يؤسس جمعية ترعى شؤون المحتضرين، وتكون إلى جوارهم في لحظاتهم الأخيرة، فالكاهن النبيل الزاهد بمباهج الحياة يملك وجهة نظر مغايرة حول طريقة تعامل الناس مع المحتضِرين؛ هو يرى أن كلمات من شاكلة "تشجّع"، "لا بأس عليك"، "أنت قوي بما فيه الكفاية"، وما إلى ذلك، ليست ذات جدوى، وليست هي التي يحتاج المحتضر أن يسمعها في لحظاته الأخيرة؛ هو يحتاج أن يسمع عبارة عميقة صادقة من مثل: "أنا هنا قربك، لن أتركك تمضي وحدك، كن مطمئنًّا أنا معك"، وأن يترافق ذلك بأفعال على الأرض: مسْكُ يد المحتضِر، الاقتراب منه أكبر مسافة ممكنة من دون حسابات أنانية حول المرض وروائحه وفيروساته وفأله، عناقه إن اقتضى الأمر، وفعل كل شيء، وكل ما يلزم لجعل لحظاته الأخيرة مفعمة بالدفء والمعنى وطمأنينة الروح وسلامها الأخير.

الاحتضار المعطاء هو الرسالة الكبرى في الفيلم البولنديّ johnny


عطاء يان لم يتوقف عند هذا الحد، بل أحدثت شخصيته الفذّة فارقًا حياتيًا مفصليًا لدى باتريك (Piotr Trojan) الضال صاحب السّجل الجرميّ الطويل، ومنحته أوثق مرحلة تأهيل يمكن أن يحلم بها منبوذٌ له سوابق. رفيقة باتريك لِيان غيّرت مجرى حياته بعد أن كان يتنمّر على الكاهن الوديع، وعلى كل من يدّعي الفضيلة، أو يتحلّى بها.



حوّل يان احتضاره الشخصيّ إلى فكرةٍ رفضها، بدايةً، الفضاء العام للكاثوليكية في بلده، بل ونبذه الراهب الأكبر هناك، قبل أن ينحني الجميع له، ويقدّرون ما كرّس حياته له حتى لحظاته الأخيرة، التي واجهها بهدوءٍ وإيمانٍ ورضى.

احتضارٌ افتراضيّ
في الفيلم الأميركيّ "خَفْق/ Finch"، يأخذنا مخرج الفيلم ميغيل سابوشنيك، وكاتباه: كريغ لوك، وأيفور بويل، نحو بعدٍ افتراضيٍّ لاحتضارِ ليس فقط بطل الفيلم فينش (توم هانكس)، بل الكوكب الأرضيّ جميعه، بعد تعرّضه لِأعاصير وَبراكين وزلازِل وأوبئةٍ وَخراب ماحقٍ جعل الفَلوات خالية، والمدن مهجورة، والناس مسعورة، والموارد إما نافقة، أو مسروقة، أو محروقة.

يصنع فينش رجلًا آليًا لِيأتمنه على كلبه بعد رحيله

يصنع فينش رجلًا آليًا لِيأتمنه على كلبه بعد رحيله. تدبّ الحياة في أوصال هذا الروبوت، يبدآن معًا وثالثهما كلبهما رحلة بالشاحنة نحو سان فرانسيسكو، حيث كل شيء يحدث خلال الطريق التي يترجّل فينش قبل وصول محطتها الأخيرة: سان فرانسيسكو؛ تطوُّر العلاقة بين فينش والرجل الآلي الذي يصبح له اسم (جيف)، بعد مناقشة أسماء عدة أخرى، من بينها وليم شكسبير، ونابليون بونابرت (اقترحهما الروبوت). تطوُّر العلاقة بين جيف والكلب. ملاحظة احتضار فينش بشكلٍ يظلُّ يتزايد حتى يصل ذروته. براءة الكائنات الآلية من لؤْمِ البشر وشرورهِم. استرجاع الماضي ومعرفة سر توجّه فينش رغم (خراب مالطا) إلى سان فرانسيسكو، فثمّة صورة ما تزال ساكنة أعماق روحه تتعلّق بلحظة لقائه والده عند جسر سان فرانسيسكو، والده الذي غادر وفينش كان لا يزال فتى صغيرًا، أرسل له بعد انقطاع طويل مرير بطاقة بريدية لجسر "البوابة الذهبية"، وكتب له على وجهها الخلفيّ أنه يود لقاءه عند ذلك الجسر الذي لا نعلم ماذا بقي منه بعد دمار الأرض.
تستفحلُ آلام احتضار فينش، ويتراجع كلُّ خفْقٍ داخل جسده، مع تصاعد خفْق روحه وهو يرى تحسّن العلاقة بين الكلب والروبوت، لينام في نهاية المطاف نومته الأخيرة هادئ الرّوع مطمئنّ السريرة، وقد أيقن أن كلبه رفيق حياته أصبح في أيد مخلصة أمينة. يُحرق الجسدُ كما أوصى صاحبه، ويواصل (جيف) ومعه الكلب الوفيّ (غوديير) طريقهما نحو جسر "البوابة الذهبية"، وهناك يشعر (جيف) بأنفاس البشر الذين سبقوه للوقوف على الجسر، وانتظار أحبة لن يصلوا، قبل أن يكتفوا برسالة، أو صورة، أو عبارة ما يعلّقونها على أسلاك الجسر، ليواصلوا الهروب من الدمار الكبير. يفعل (جيف) ما فعله الجميع قبله، علّق فوق سياج الجسر البطاقة البريدية إياها، بعد أن رسم فوق الجسر فيها ثلاثتهم: هو وفينش وغوديير.
فيلم عن الإنسانية والصداقة والمعنى وآفاق الاحتضار، في زمنٍ افتراضيٍّ عندما فقدت الأرضُ كلَّ موجباتها، ولم يبقَ منها سوى القتل من أجل كأسِ ماء، أو حفنةِ حبوب، أو دفقةِ هواء.

احتضارٌ وجدانيٌّ
فيلم احتضار آخر: "رجل يدعى أوتو/ A Man Called Otto"، كان بطله توم هانكس. احتضارٌ وجدانيٌّ لرجل فقد زوجته الشابة وهي في أوج عطائها، وأوج حبّها له، وحبّه لها. لم يمهلها المرض العضال، ولم ينتظر كثيرًا بعدها ليصل إلى قناعةٍ أن لحوقه بها أوجب له، وأكثر معنى، بعد أن فقدت الحياة كل معنى. يبدأ أوتو سلسلة محاولات انتحار لا تنتهي، ولا يوقفها إلا التقاؤه بماريسول (الممثلة المكسيكية ماريانا تريفينيو)، الفتاة الطيبة المعطاءة الواضحة الصريحة، ذات الأصول المكسيكية. تمنحه الجارة الجديدة بصيص أمل، فهنالك مَن يمكن أن يقترب من صفات زوجته الراحلة سونيا (راشيل كيلر)، لكنه أملٌ جاء متأخرًا، فما أن يتراجع عن فكرة الانتحار، حتى يباغته المرض العضال، ويمضي بهدوء وسلام تاركًا بعض أملاكه وذكرياته الجميلة في عهدة ماريسول وأسرتها (أوْلادها وزوجها)، لتبدأ دورة حياة جديدة، بآفاقٍ جديدة، وأولادٍ جُدد.
نجا أوتو من الانتحار، لكنه لم ينجُ من الاحتضار.

احتضارٌ وجوديّ
بشكلٍ رمزيٍّ دلاليّ، تنطوي أحداث الفيلم اليونانيّ المشترك "في الداخل/ Inside"، المُنتج عام 2023، من إخراج فاسيليس كاتسوبيس، وتأليف بِن هوبكنز، على تجليّاتِ احتضارٍ وجوديٍّ يضمُر في أعماقه أسئلة حول الحياة والموت والمعنى والفن والإرادة والذات والأخلاقيات.
ليمو لص اللوحات المتخصص (أدى دوره ويليام دافوي) يجد نفسه، فجأة، عالقًا داخل مكان (لا ندري هل هو بيت مالك اللوحات، أم شركته، أم متاهته المدجّجة بتقنيات معقدة) يعجّ بأعمالٍ فنيةٍ لِكبار الرسامين. أُغلقت الأبواب، وانطلقت صافرات الإنذار، قبل تمكُّن اللص الذي يعشق اللوحات من المغادرة وهو يحمل معه مفردات سرقته الدسمة. تنتهي آماله بالخروج حيًّا فإذا بالشريط ينفتح على رؤاه الأعمق، وابتكاراته حول صراع البقاء. كل ما هو متوافر في الظروف الطبيعية، ومتاح للجميع مثل جرعة ماء، أو لُقيمة خبز، يتناقص من حول نيمو برتمٍ بطيء، ولكنه مركّزٌ وحتميّ. تتناقص مع الساعات والأيام طاقته، فإذا به (كما لو أنه يردد مقاطع أغنية قديمة)، يهتف قائلًا: "إني لا أملك طاقة... إني أحتضر... إني أحتضر...".
يخرج اللص الانتقائيّ من تجربة الاحتضار بفكرةٍ واحدة جوهرية: "إن الطاقة معين سعادة لا ينضب"، وهو يرى أن الروح لا تنفصل عن الجسد، وأن الحياة عبارة عن طاقة بأكملها وهي نابعة من الجسد.
ليهتف في لحظات الاحتضار الأخيرة مغنيًّا: "سأقصد الفردوس مبتهجًا... سأقصدُ الفردوس مبتهجًا".
في منفى احتضاره الوجوديّ، صادق ليمو حمامة بينه وبينها زجاج سميك... جلست على الجهة الأخرى من إحدى شرفات المكان بعدما فقدت القدرة على الطيران بسبب ضرر بليغ أصاب أحد جناحيها، ببطء، ولكن بثبات، ماتت الحمامة. ببطء، ولكن بثبات، انطفأت جذْوة الحياة داخل عروق ليمو، وتوقّفت محاولاته للخروج من متاهة الطريق إلى الموت.
بقي أن أقول إن حديثي عن ثيمة الاحتضار في الأفلام الواردة أعلاه ليس بالضرورة حكم قيمة عليها؛ فَفيلم "في الداخل"، على سبيل المثال، مُمل وينوءُ بتكرارٍ مزعج. كما أن فيلم "خَفْق" يفتقر للواقعية، وَيعوزه الإقناع، ويغيب عنه التركيز.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.