}

المسرح الرمضاني في الجزائر: ذروة انتعاش

سارة جقريف 10 مايو 2023
مسرح المسرح الرمضاني في الجزائر: ذروة انتعاش
من مسرحية "الحلقة"

تكاد تكون حركة المسرح في الجزائر خلال شهر رمضان الأقوى مقارنة بباقي أيام السنة، حيث تسجل المسارح، على مدار شهر كامل، إقبالًا جماهيريًا كبيرًا. وتمثل هذه الحركة، التي تحولت خلال السنوات الثلاث الأخيرة إلى ظاهرة ثقافية في البلاد، ذروة انتعاش الفن السادس الذي ظلّ إلى وقت قريب شبه مغيب.

ونجحت العديد من الأعمال المسرحية التي عرضت بشهر رمضان المنصرم، في استقطاب العائلات الجزائرية سواء في المدن الكبرى أو المدن الصغرى والقرى، في المسارح الجهوية وقاعات الثقافة أو في الفضاءات العمومية والهواء الطلق، على غرار مسرحية "تفضلي يا آنسة" التي حققت نجاحًا واسعًا منذ بداية عرضها وحصدت عدة جوائز، قبل أن تعود إلى سهرات رمضان الفنية، ومسرحية "الحقار والمكار والنية" المستلهمة من عمل مسرحي للكاتب العالمي موليير، إلى جانب الكوميديا الموسيقية "حراز أندلوزيرية" المستوحاة من أشهر قصائد التراث المغاربي، وعرض "الحلقة" تكريما للكاتب المسرحي المعروف عبد القادر علولة ومسرحية "أحلم" الموجهة للأطفال وغيرها من الأعمال المسرحية التي قدمت في سهرات رمضان.

شبكة برامجية خاصة

مع بداية الشهر الفضيل فتحت المسارح الكبرى وتلك التي كانت مغلقة، وتمت تهيئة قاعات العرض والمرافق الثقافية فضلًا عن الحدائق والفضاءات العمومية، لاحتضان الأعمال المسرحية المبرمجة. في الجزائر، وهران، قسنطينة، عنابة بسكرة، خنشلة، وغيرها من المدن، وضع المشرفون على الثقافة شبكة برامجية خاصة بشهر رمضان، تضم مسرحيات موجهة للكبار وأخرى موجهة للأطفال، منها المسرحيات الموسيقية والكوميدية بشكل خاص، قدمها فنانون وشباب مبدعون ينتمون إلى جمعيات محلية ووطنية وفرق فنية.

وتشمل القائمة عشرات العروض المسرحية التي قدمت ليلًا، من أجل الترفيه عن السكان ومرافقتهم في نشاطاتهم الثقافية والاجتماعية، خاصة في المناطق البعيدة عن المرافق الثقافية الكبرى، أو تلك التي تشهد مسارحها عمليات الترميم. ولم يمنع تأخر انتهاء أشغال ترميم بعض المسارح التي كان من المقرر احتضانها لسهرات مسرحية خلال شهر رمضان، عرض العديد من الأعمال الفنية، بعد تحويلها إلى قاعات ودور الثقافة.

ومن أمثلة ذلك تقديم العروض المسرحية التي كانت مبرمجة للعرض في مسرح مدينة سطيف (شرق الجزائر) في كل من دار الثقافة ودار الشباب والفضاءات العمومية ببعض المناطق المجاورة.  في المقابل برمج المسرح الجهوي بمدينة تيزي وزو (وسط الجزائر) خلال شهر رمضان أكثر من 44 عرضًا فنيًا في مختلف المناطق التابعة للمدينة لا سيما القرى الصغيرة والمعزولة، وذلك بالتعاون مع الجمعيات المحلية ولجان القرى على اختلافها.

من جهته نظم المسرح الجهوي لمدينة معسكر (غرب الجزائر) فعاليات تظاهرة ليالي المسرح والفن الخاصة بشهر رمضان. وتضمنت وصلات موسيقية في الطابع الأندلسي وعروضا فنية كوميدية، ومجموعة من العروض المسرحية من إنتاج جمعيات محلية. في حين قدم المسرح الجهوي بالبويرة برنامجا ثقافيا ثريا، تضمن 10 عروض مسرحية إلى جانب حفلات فنية في إطار تنشيط ليالي رمضان.

من مسرحية "أحلم" و"مسرحية "تفضلي يا آنسة"


مسرحية "تفضلي يا آنسة"

تعتبر مسرحية "تفضلي يا آنسة" من أبرز الأعمال الفنية التي قدمت خلال شهر رمضان في المسرح الوطني "محي الدين بشطارزي" بالجزائر العاصمة. وتفاعل الجمهور مع العرض الذي تناول ظاهرة الهجرة غير الشرعية في قالب هزلي باعتبارها واحدة من أهم الظواهر الاجتماعية في البلاد. 

تقوم المسرحية على حوار عميق بين شابة جزائرية تدعى الهوارية (تقوم بدورها الممثلة آية خرفي) ترغب في الهروب من البلاد وتحاول خوض مغامرة الهجرة غير الشرعية بحثًا عن المال وحياة الثراء السهلة كما تتوهمها في الغرب، والخميسي، مدبر عمليات الهجرة غير الشرعية (يقوم بدوره الممثل بلال كراش) الذي يرفض مساعدة الفتاة الجميلة في الخروج من الوطن خوفا عليها من خطر ومآسي الرحلة.

وبعد مدّ وجزر تتخلى الفتاة الهوارية عن فكرة الهجرة غير الشرعية وهاجسها اليومي في الحصول على المال بسهولة في الضفة الأخرى، ويقرر الشاب الخميسي التوقف عن ممارسة نشاط تهريب الشباب بطرق غير شرعية من البلاد، رغم ما يحققه له من أرباح كبيرة، باعتباره نشاطًا غير قانوني. 

يذكر أن مسرحية "تفضلي يا آنسة"، من إخراج العمري كعوان وإنتاج تعاونية أنيس الثقافية لمدينة سطيف، حصلت على جائزتي أحسن نص وأحسن إخراج في الدورة العاشرة من مهرجان ربيع الوفاء للمسرح العربي المنظمة في مدينة طبرقة، تونس.

وتميز العرض بتناغم الثنائي واحترافيته العالية في التمثيل، بالإضافة إلى اللغة البسيطة المشحونة بالدلالات والإيحاءات ومزج الفكاهة والمرارة، إلى جانب تناغم الإضاءة والموسيقى التي خدمت أجواء العرض وجعلتها من أقوى المسرحيات. 

لا يمكن الحديث عن المسرح في الجزائر، دون الحديث عن الكاتب الراحل عبد القادر علولة، الذي قدّم أعمالًا بارزة في هذا الفن. وتكريمًا للرجل الذي اغتيل خلال العشرية السوداء، قدّم مسرح مدينة وهران (غرب الجزائر) عرضًا بعنوان "الحلقة"


الكوميديا الموسيقية "حراز أندلوزيرية"

نجح العرض الكوميدي "حراز أندلوزيرية" في استقطاب عدد كبير من الجمهور الجزائري المتعطش للتراث والفن خلال عرضه في سهرات رمضان. ويقدم العرض قصة عشق من التراث المغاربي عن طريق المسرح، الموسيقى والرقص، مستمدة من قصيدة الحراز، التي غناها أشهر فناني الشعبي في الجزائر، على غرار الهاشمي قروابي وأعمر الزاهي.

وتروي المسرحية على مدار 90 دقيقة كاملة، قصة عشق بين الثنائي "عويشة" و"العشيق". تتعرض المحبوبة إلى الحجز في قصر شديد الحراسة من قبل الحراز الذي قدم من الحجاز. يغرق العشيق في الحزن ويحاول تحرير محبوبته مرات متتالية.

المسرحية مستوحاة من التراث الموسيقي، قدمت فيها مجموعة من الكوميديين والعازفين والراقصين قطعا من الغناء الشعبي والأندلسي، لا سيما أغنية "آه يا بلارج" الشهيرة وأغنية "سال على الزين". وجاء الديكور بسيطًا ومعبّرًا، يوحي بالفضاء المعماري لبيوت قصبة الجزائر العاصمة.

ورغم كون هذا العمل الأول من إنتاج جمعية "أهل الفن" غير أنها نجحت في تجسيد واحدة من أبرز القصائد الشعبية في المغرب العربي، لصاحبها المكي بن القرشي الأزموري. وتحكي القصيدة التي تحولت إلى عدة أعمال مسرحية، قصة "الحراز" الساحر الذي قدم من الحجاز، فانغرم بـ"عويشة" شابة جميلة، شعرها فاحم وعيناها شديدة السواد، فقام باختطافها وحجزها في قصره.

وهكذا يعزم "العشيق" وهو الراوي في القصيدة، على تحرير معشوقته والوصول إليها، فيبدأ في التنكر والتحايل على الحراز، مرة في صفة قاض ومرة أخرى في صفة المتصوف الزاهد، فتبوء جميع محاولاته بالفشل. في النهاية يأتي "العشيق" بصفة شاعر شامي. عندما تسمعه "عويشة" تعرف أنه حبيبها، فتشير على الحراز باستقباله، لتتمكن أخيرًا من لقاء معشوقها ودفع شر الحراز عنهما بتعويذة سحرية.

مشهدان من مسرحية "الحقار والمكار والنية"


"الحقار والمكار والنية"

تعد مسرحية "الحقار والمكار والنية" واحدة من أقوى المسرحيات التي تم تقديمها خلال شهر رمضان، بمدينة قالمة (شرق الجزائر). ويدور نصها حول دور الأولياء في تربية الأبناء، والتكفل بجيل المستقبل ومسؤولية الاستثمار في الإنسان. وكذا المسؤولية الجماعية للمجتمع في إعداد جيل الغد.

المسرحية، التي استغرق عرضها ساعة و15 دقيقة، عبارة عن اقتباس حر للنص الكوميدي الشهير "خدع سكابان" للمؤلف الفرنسي المعروف موليير. وتروي قصة رجلين برجوازيين من أصحاب سفن صيد، يسعيان وراء الربح وجمع الثورة ويتناسيان الأهم وهو الاستثمار في الأبناء. وجاء العرض في قالب فكاهي، من تقديم تسعة ممثلين، يهدف لإبراز ومعالجة المظاهر والسلوكيات الاجتماعية السلبية وسط الشباب مما يفرض على الجميع مراجعة الذات وتحمل المسؤولية تجاه جيل الغد.

يذكر أن العرض من تصميم الأستاذ بشير سلاطنية وتم اقتباس نصه من طرف الفنان الراحل ياسين زايدي ونبيلة إبراهيم. وتدور أحداث النص الأصلي "خدع سكابان" حول الشابين أوكتاف ولياندر، وهما ابنان لأغنى والدين في المدينة. يتزوج الأول من حبيبته التي لا حسب ولا نسب لها، ويثير بذلك غضب والده، ويحاول الثاني تحرير حبيبته المختطفة للزواج منها رغم معارضة والده. ولتحقيق ذلك، يلجأ الشابان إلى الخادم "سكابان" المعروف بحيله، فيتلاعب بالوالدين للحصول على المال.

في النهاية سيكتشف الأبوان أن الحبيبة الأولى ذات نسب وجاه، وأن الحبيبة الثانية ليست مجرد فتاة مختطفة، وسيتزوج كل شاب من حبيبته دون عراقيل. في هذا النص المسرحي يسخر موليير كعادته من الأرستقراطيين، فجعل الخادم يسخر من سيده الثري. 

"الحلقة" تركيب مسرحي لعلولة

لا يمكن الحديث عن المسرح في الجزائر، دون الحديث عن الكاتب الراحل عبد القادر علولة، الذي قدّم أعمالًا بارزة في هذا الفن. وتكريمًا للرجل الذي اغتيل خلال العشرية السوداء، قدّم مسرح مدينة وهران (غرب الجزائر) عرضًا بعنوان "الحلقة"، يجمع بطريقة مبدعة مشاهد من أشهر مسرحيات علولة، على غرار "لجواد"، "القوال"، "اللثام"، و"الخبزة".

قدّم العرض المسرحي 19 ممثلًا من هواة ومحترفين، بعثوا فيه مشاهد من خمس مسرحيات للكاتب الراحل، في ديكور بسيط يغلب عليه السواد، مصحوبًا بموسيقى وأغانٍ من تأليف عبد القادر علولة. ونجح العرض في دفع الجمهور للتجول عبر أعمال الفنان التي تعالج عدة جوانب من الحياة الاجتماعية والسياسية التي عايشها.

الجدير بالذكر أن عبد القادر علولة يعتبر من مؤسسي المسرح في الجزائر بعد الاستقلال، واشتهر بـ "مسرح الحلقة". وهي ظاهرة مسرحية تقوم على احتشاد الجمهور بشكل دائري، يتوسطه القوال أو الراوي، فيصبح الممثل ضمن حلقة من المتفرجين، يتقمص العديد من الشخصيات، يستعمل الحكي ويوظف التراث الشعبي.

وقال علولة في محاضرة ألقاها في برلين سنة 1987 إنه اكتشف مسرح "الحلقة" بالصدفة، عندما كان يتنقل بفرقته في جولات فنية لتقديم العروض خارج صالات العرض، أي على طلاب الثانويات والجامعات، وعلى عمال الورشات والمصانع، وعلى الفلاحين في الحقول. 

مسرحية "أحلم" للأطفال

كان للأطفال نصيب من الأعمال المسرحية التي قدمت في سهرات رمضان. ولعل من أبرز تلك الأعمال، مسرحية "أحلم" التي حققت تفاعلًا جماهيريًا ملفتًا، عند عرضها في مدينة خنشلة، من قبل جمعية "براعم الفن".

وتقوم المسرحية على نص قوي، يروي قصة أربعة أطفال فقراء، يحلمون بالثراء ويسعون إلى ذلك بكل الطرق الممكنة، بما في ذلك غير المشروعة. وبينما هم يشاهدون رسومهم المتحركة المفضلة، فجأة تكلمهم إحدى شخصياتها وتعدهم بتحقيق أحلامهم، وتنقلهم في مغامرة خيالية للعيش داخل قصر كبير يستمتعون فيه بحياة الثراء والبذخ.

ينتهي حلم الأطفال سريعًا ويعودون إلى واقعهم المرير، عندما تتعرض خزينة القصر للسرقة. ويقررون العمل على تحقيق حلمهم على أرض الواقع، وتحسين مستواهم الاجتماعي والحصول على حياة كريمة. وتحمل المسرحية رسائل نبيلة وتربوية لفئة الأطفال، وتنبيههم إلى ضرورة السعي لتحقيق أحلامهم بطرق مشروعة.

وتبقى هذه الأعمال المسرحية نماذج من عشرات الأعمال الأخرى التي عرضت في قاعات ومسارح وفضاءات مختلف مناطق الوطن خلال شهر رمضان، وحققت الفرجة للجمهور الجزائري، الذي أثبت أنه ذوّاق للفن المسرحي في رمضان ربما أكثر من أي فن آخر.

(الجزائر)

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.