}

في عالم الرواية: إخفاء الهوية طريق إلى القراء

سارة جقريف 26 فبراير 2023
آراء في عالم الرواية: إخفاء الهوية طريق إلى القراء
(GettyImages)
في الوقت الذي يحرص فيه أغلب كتاب الرواية على الظهور الإعلامي وتنظيم جلسات توقيع وندوات نقاش ولقاءات فكرية والمشاركة في المسابقات وحفلات توزيع الجوائز، بغرض الترويج لكتبهم، يختار القليل منهم إخفاء هويتهم وتجنب الأضواء لأسباب فرضتها الظروف المحيطة بهم أو لفلسفة تتماشى مع قناعاتهم، تحولهم إلى كُتّاب "أشباح" يتركون كتبهم تروّج لنفسها أو يوكلون المهمة لناشريهم.


شهرة عالمية واسعة بهوية مجهولة

بهوية مجهولة وأحيانًا مزيفة إذا صح التعبير، تمكن كُتاب من تحقيق شهرة عالمية واسعة، تخطت التوقعات. حصدوا جوائز مرموقة، وزعت أعمالهم في القارات الخمس، بيعت ملايين النسخ من كتبهم وترجمت مؤلفاتهم إلى عشرات اللغات. ونجد في مقدمة هؤلاء الكاتبة الإيطالية صاحبة رباعية "صديقتي المذهلة"، قلم مجهول، لا يعرف أحد عنه شيئًا -امرأة كانت أم رجل- يوقع رواياته باسم "إيلينا فيرانتي" يرد على أغلفة رواياتها هكذا مجردا، لا صورة ولا تفاصيل ترافقه.

منذ كتابها الأول "حب غير مريح" قبل ثلاثة عقود من الزمن، وإلى اليوم، اختارت الكاتبة الإيطالية إخفاء هويتها، وترك كتبها تروّج لنفسها عبر دار النشر التي تتعامل معها. لم تظهر إعلاميًا، واكتفت ببعض الحوارات عبر البريد الإلكتروني، ومع ذلك توالت نجاحاتها وازداد عدد قرائها في مختلف دول العالم، وتحولت كتاباتها إلى أعمال تلفزيونية وسينمائية، لا سيما منذ صدور روايتها "صديقتي المذهلة" سنة 2013، والأجزاء الثلاثة التي تلتها، لتدرجها مجلة "تايمز" الأميركية في قائمة الشخصيات الأكثر تأثيرًا لسنة 2016.

وإيلينا فيرانتي ليست الكاتبة الوحيدة التي حققت نجاحًا باهرًا بهوية مجهولة، وعدم الظهور الإعلامي، حيث نجد أن الكاتب الألماني باتريك زوسكيند - وإن كان يكتب باسمه الحقيقي- قد حقق شهرة واسعة وانتشارًا مذهلًا باعتباره صاحب أكبر مبيعات في تاريخ الأدب الألماني، رغم اختفائه وتجنبه للأضواء ورفضه المطلق للظهور الإعلامي. لم يجر الكاتب أي لقاء تلفزيوني أو إذاعي، واكتفى في حياته كلها بثلاثة حوارات: سنة 1985 مع أسبوعية سويسرية ألمانية، سنة 1986 مع جريدة تابعة لثانوية ألمانية، والحوار الأخير في نفس السنة، مع صحيفة "نيويورك تايمز". 

وبحسب ما نقله المترجم والكاتب بوداود عمير، فإن أسبوعية فرنسية أرسلت صحافيًا يحاول اقتفاء أثره في ألمانيا، وعلم أنه يسكن في قرية صغيرة نائية، وبعدما قضى وقتًا طويلًا في ألمانيا يسأل عنه، باءت كل محاولاته في لقاء باتريك زوسكيند بالفشل. هكذا يجلس الكاتب الألماني في عزلته، يراقب من بعيد النجاح الباهر الذي حققته روايته "العطر" على المستوى الأدبي والسينمائي، بحجم مبيعات تجاوز 20 مليون نسخة، وترجمة إلى 48 لغة.

وفي الوطن العربي، يمكن أن نذكر في هذا السياق الكاتب ياسمينة خضرا، ضابط في الجيش الجزائري يخفي هويته الحقيقية وينشر رواياته باللغة الفرنسية موقعة باسم زوجته، قبل أن يكشف عن هويته الحقيقية لاحقًا واسمه "محمد مولسهول" ويتفرغ للكتابة الأدبية محتفظًا باسمه الأدبي "ياسمينة خضرا" إلى اليوم. ونجح الكُاتب فعلًا في تحقيق شهرة عالمية وانتشار واسع، حيث نُشرت رواياته في أكثر من 50 بلدًا وترجمت إلى عشرات اللغات، وبلغت مبيعاتها 40 مليون نسخة، وحُول عدد منها إلى أفلام سينمائية، على غرار عمله "فضل الليل على النهار" و"سنونوات كابل". 

بين دوافع "إيلينا فيرانتي" و"ياسمينة خضرا" في إخفاء الهوية والشهرة الواسعة التي حققتها رواياتهما، كنموذجين لكاتبين مجهولين، فإننا نحتاج أن نفهم كيف تروج الكتب لنفسها...


لماذا يختبئ الكُتاب؟

النجاح والشهرة والرواج الذي حققه الكُتاب المختبئون من الأضواء والإعلام أو خلف هويات مجهولة أو مزيفة أحيانًا، تدفعنا للتساؤل حول الأسباب الكامنة خلف هذا الاختفاء، هل يؤمنون فعلًا بقدرة الكتب على الترويج لنفسها والوصول إلى القراء دون الحاجة لأصحابها، أو يعتبرون "الهوية المجهولة" في حد ذاتها نوعًا من الترويج عبر إثارة فضول القراء، أم أنهم يضطرون لذلك بسبب ظروف معينة، فيظهرون بمجرد أن يحصلوا على فرصة للظهور؟!

في الحقيقة، يكشف البحث في أعمال وتصريحات هؤلاء الكُتاب أن جميع الافتراضات السابقة صحيحة. "إيلينا فيرانتي" مثلًا، تتبنى مقولة "الكتب بعد أن تُكتب ليست بحاجة إلى كتابها"، فأخفت هويتها وتركت كتبها تمضي في طريقها. وصرحت في حوار عبر البريد الإلكتروني أن السبب وراء إخفاء هويتها يعود إلى رغبتها في التحرر من جميع أشكال الضغط الاجتماعي أو الالتزام الذي يفرض عليها كشخصية عامة، وبالتالي سيمنحها الاختفاء الحرية الكاملة في التركيز حصرًا على عملية الكتابة، وسيكون الكشف عن هويتها وفقدان هذه الحرية مؤلمًا جدًا.

وربما لهذا صرح ناشرها ساندرو فيري أنها يمكن أن تتوقف عن الكتابة، إذا استمرت محاولات البحث عن هويتها الحقيقية. وعلى الأغلب فإن اختيار "إيلينا فيرانتي" أن تظل "شبحًا" نابع من قناعاتها وفلسفتها الخاصة وليس مجرد هالة لإثارة الفضول والترويج لرواياتها، بدليل تمسكها بهويتها المجهولة رغم الشهرة العالمية التي وصلت إليها.

وتعبر عن فلسفتها هذه في مقدمة روايتها "صديقتي المذهلة" التي عنونتها بــ"محو الأثر" وفيها تصف شخصية رافايلا شيرولو صديقة البطلة: "قالت لي مرارًا خلال أكثر من ثلاثين عامًا إنها تريد أن تختفي دون أن تترك أثرًا... لم يخطر في بالها أن تهرب أبدًا، ولا أن تغير هويتها، ولم تحلم بأن تبدأ حياة جديدة في مكان آخر. ولم تفكر في الانتحار إطلاقًا... كانت نيتها في أمر مختلف كليًا: كانت تريد أن تتبخر وأن تتلاشى كل خلاياها، حتى يستحيل أن يعثر أحد على أي شيء يخصها. وطالما أنني أعرفها جيدًا، أو أفترض ذلك على الأقل، لا أستغرب أنها وجدت سبيلًا كي لا تترك في هذا العالم شعرة واحدة منها، في أي مكان".

وإذا أردنا أن نسقط هذا الوصف على هوية الكاتبة "إيلينا فيرانتي" فإنه ينطبق عليها تمامًا، هكذا فشلت فعلًا كل محاولات العثور على أثر لها، وكأنها تبخرت، رغم المزاعم المتكررة بتحديد هويتها، على غرار الادعاء الذي أطلقه الروائي ماركوا سانتاقاتا، الذي يشغل منصب بروفيسور بجامعة بيزا، بداية سنة 2016، حين قال إن فيرانتي هي مارسيلا مامو أستاذة درست بجامعة بيزا، قبل أن تنفي الأستاذة تلك الإدعاءات بشدة. وهو ما حصل مجددًا مع نهاية نفس السنة، حين نشر المحقق كلاوديوا قاتي مقالًا يدعي فيه أن فيرانتي هي مترجمة إيطالية معروفة تدعى أنيتا رجا، مستندًا إلى السجلات العقارية، وقوبل بنقد لاذع باعتباره خرقًا للخصوصية. وهناك من ذهب إلى أن هوية فيرانتي ترجع لكاتب يدعى دومينيكوا ستارنوني وهو زوج أنيتا رجا. وانتشرت مؤخرًا إشاعة وفاتها في محاولة صحافية لاستفزاز الكاتبة للكشف عن هويتها التي ظلت تتمسك بإخفائها.

هل يؤمن الكتّاب المختبئون فعلًا بقدرة الكتب على الترويج لنفسها والوصول إلى القراء دون الحاجة لأصحابها، أو يعتبرون "الهوية المجهولة" في حد ذاتها نوعًا من الترويج عبر إثارة فضول القراء، أم أنهم يضطرون لذلك بسبب ظروف معينة؟

ومن خلال الإطلاع على أعمال هذه الكاتبة الإيطالية المجهولة، التي تؤمن بأن الكتب لا تحتاج إلى كاتبها، نلمس تناقضًا بارزًا، فبطلة رباعيتها الشهيرة "صديقتي المذهلة" كانت كاتبة شابة، تدعى "إيلينا غريكو" كانت تحضر الملتقيات وتشارك في الندوات وإلقاء المحاضرات من أجل الترويج لكتبها، وتسافر أحيانًا في سبيل ذلك، وتسرد كيف ساهمت العلاقات الاجتماعية لعائلة زوجها في نجاحها ورفع مبيعات كتبها.

وعلى خلاف الأسباب التي ارتبطت بإخفاء هوية "إيلينا فيرانتي"، نجد مثلًا الروائي الجزائري المشهور محمد مولسهول، اختار اسم "ياسمينة خضرا" مضطرًا، وبفعل الظروف التي كان يعمل ويكتب فيها. الكاتب هنا، لم يكن يبحث عن الحرية ولا عن الاختباء وإنما كان يتوق إلى الظهور الإعلامي، والتواصل مع القراء والمشاركة في الترويج لكتبه. وكان يشعر بالألم لعدم تمكنه من ذلك. وعبر عن شعوره بالغيرة من الحياة العادية التي يعيشها الكتّاب من سفر وكتابة وشهرة وتوقيع كتبهم للجمهور فيما يعجز هو عن تسلم جائزة نالها، فقط لأنه كاتب كان قدره التخفي.

ولهذا استغل أول فرصة بعد تقاعده من الجيش، ليعلن عن هويته الحقيقية ويكشف نفسه للقراء. وقد تحمل هذا الروائي الجزائري هجمة النقاد الفرنسيين بشكل خاص، وتطلب منه الأمر توضيحات كثيرة لا سيما أن كشف هويته كضابط سابق في الجيش تزامن مع تهم القتل التي ألصقت بالمؤسسة العسكرية الجزائرية خلال سنوات الإرهاب. ومع ذلك لم يتردد الكاتب في الخروج والظهور الإعلامي، وأصدر سيرته الذاتية "الكاتب" يتناول فيها تفاصيل حياته، ثم أصدر كتابًا آخر بعنوان "مكر الكلمات" يروي فيه أحداثًا من مسيرته المهنية كضابط. وأثبت محمد مولسهول، الذي ينشر كتبه باسم "ياسمينة خضرا"، أنه كاتب مبدع، وما زالت كتبه تحقق نسب مبيعات عالية في فرنسا وخارجها، وجمهور قرائه يتوسع أكثر فأكثر. وهو يتبنى مقولة: "أنا بدويّ وقبيلتي الواقفة على أبواب الصحراء الجزائريّة كانت قبيلة الشعراء".

كيف تروج الكتب لنفسها؟

بين دوافع "إيلينا فيرانتي" و"ياسمينة خضرا" في إخفاء الهوية والشهرة الواسعة التي حققتها روايات كل واحد منهما، كنموذجين لكاتبين مجهولين، فإننا نحتاج أن نفهم كيف تروج الكتب لنفسها.

عادة يشير الكُتاب في مقدمات رواياتهم إلى أن الشخصيات والأحداث في أعمالهم الأدبية من نسج الخيال، وأن أي تشابه أو تطابق مع الأحداث الواقعية هو محض صدفة وغير مقصود. وهي بمثابة تأكيد للقارئ أن النص منفصل عن الكاتب وحياته الخاصة.

من هذا المنطلق، تُبنى نظرية "الكاتب الشبح" أو "الكاتب الميت"، ويقصد بها أن القارئ عندما يتلقى النص سيصبح الكاتب "شبحًا" سواء كان هذا الكاتب مكشوف الهوية أو بهوية مجهولة.  وقد عبّر الكاتب العربي الطاهر بنجلون عن نظرية الشبح بأن المؤلف وإنْ كان حاضرًا، فهو غائب عن النص، أي تنتفي سلطتُه، فيصبح القارئُ هو الكاتبُ، فعلًا. ويصبح حُكْمُه على النص هو السلطةُ القائمةُ! ويقرر رولان بارت أنَّ "وفاةَ الكاتب" تتزامن مع "ولادة القارئ" فبعد أنْ كان الأول خالقًا لعالمه وشخصياته الورقية ويُمارس سلطتَهُ عليها، وهي في حالة ضعفها، لا تـقدر على معارضته، يتولى المتلقي، بقراءته الواعية، تعديلَ العالم وتسويةَ الشخصيات معًا أو إعطاءَهُما وَضْعًا آخرَ، أرقى أو أحَطَّ، على قَدْر فَهْمِهِ واستيعابه للنص! وهو رأي الروائي جوستاف فلوبير، صاحب الرواية الخالدة "مدام بوفاري" الذي يؤكد على ضرورة الفصل بين الكاتب والنص، ما يعني أنَّ كل ما يرد فيه من قضايا وشخصيات، لا صلةَ له بنفسه. وبتعبير جاك دريدا فإن الكاتبَ "ميِّتٌ منذ البداية".

هكذا إذًا تنجح النصوص الجيدة في الترويج لنفسها، وإن كان الكاتب لا يظهر للقارئ ولكنه يبهره بقدرته على السرد والتجول به في عوالم مبهرة وغير مألوفة، تحقق له قدرًا وافرًا من متعة القراءة ولذتها.
(الجزائر)

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.