}

"دروس بلاغا": في تحوّل أخلاقيات قيّمة أمام "قيم" السوق

سينما "دروس بلاغا": في تحوّل أخلاقيات قيّمة أمام "قيم" السوق
نالت الممثلة إيلي سكورشيفا جائزة التمثيل في المهرجان
ظلّ الفيلم البلغاريّ في الذاكرة كما لا تفعل أفلام أخرى.
حرّكت شخصيّة فيلم "بطلُ هذا الزمان" (2022)، في طرافتها وعمقها ونظرتها إلى الحياة، مشاعر لا تُنسى. فهذا الفيلم الوثائقيّ الذي حققته البلغارية زفتلا تسوتسوركوفا بالاشتراك مع زفتوسلاف أُفشاروف ببساطة ومن دون ادعاء، يحثّ على إعادة نظر في معاني الوطن والإنسان والهجرة والتخلي... تلتقي شخصية جورجي الفلاح البلغاري، بطل هذا الزمان الذي يسترشد بالأخلاق والضمير في حياته، ويعتمد على الذّات والعمل المنتج في مواجهة واقع صعب، بشخصية بلاغا المعلمة في "دروس بلاغا" (2023) للمخرج البلغاري ستيفان كومانداريف. لكن، إلى حدّ معين، ففي الفيلم الثاني يتعذر الحفاظ على المبادئ في مجتمع يواجه أزمة أخلاقية حادة ويُدفع أفراده نحو حافة الهلاك.
يقول بعضٌ إن الفيلم البلغاريّ حين يكون جيدًا فهو بالفعل جيدٌ في جوانبه واشتغالاته كافة. إنه قولٌ تأكّد من جديد، في زحمة أفلام معروضة وخيارات لا بدّ منها تتناسب مع أهداف كل قادمٍ إلى مهرجان كارلوفي فاري السينمائي الدولي (تشيكيا) في دورته الـ 57 (30 يونيو/ حزيران ـ 8 يوليو/ تموز 2023)، كان قرار مشاهدة "دروس بلاغا"، قد اُتّخذ على الرغم من ضيق الوقت. سرت أقاويل من زملاء نقاد بأنه سيكون الفيلم الفائز لجودته وتفوقه على ما عرض من أفلام مسابقة الكرة البلورية، وهي المسابقة الأولى في المهرجان. لكن، هل يمكن أن يفوز فيلم رائع، يجانب بعض الشيء الصوابية الاجتماعية/ السياسية، وتحظى بطلة تجسّد بأداء بارع شخصيةً تواجه محنة تحوّل أخلاقياتها القيّمة أمام "قيم" السوق المهينة، بجائزة التمثيل؟ هكذا، تجاذبتُ أطراف الحديث مع زميلة ناقدة. خيّبت الجوائز، ويا للسعادة، سلبيّة تساؤلاتنا.  فاز "دروس بلاغا" بالجائزة الكبرى، ونالت الممثلة إيلي سكورشيفا جائزة التمثيل. هذا يمنح أحيانًا بارقة أمل في خضمّ عالم قاتم.



في الفيلم كثير من طرافة ذكية في سخريتها العميقة والمرّة من تحوّلات مجتمع. طرافة غير مفتعلة تنساب ببساطة في سياق حديث عادي فتبعث على الابتسام، وأحيانًا الضحك. هيأت المشاهد الأولى لما هو قادم، وكانت أفضل استهلال للتعبير عن هذه الروح الساخرة التي ستسود الفيلم، عن عالم انتهى، وآخر لا مكان فيه للموتى وللأحياء إلا بشروط. بلاغا تذهب بحماس للتفاوض مع "مصمم" قبور لتهيئة واحد لزوجها الراحل مؤخرًا. المعلمة المتقاعدة امرأة مسنّة على استعداد لمنح كل مدخراتها لبناء قبر يليق بمكانة رجلها العزيز. في حوارٍ ساخر بينها وبين البائع الُمسْتَغِلّ والمحتال، ترتسم فكرة أوليّة عن سمات شخصية تمثّل قيم عصر ذهب بلا رجعة، فيما تجسد أخرى كل "قيم" عصر حالي استبدلت فيه الحياة الكريمة بعيشٍ خاضع لنظام السوق. بلاغا مستقيمة مخلصة ذات مبادىء راسخة، تحلم لزوجها الراحل بقبر واسع رخاميّ، وبالتأكيد ليس إسمنتيًّا. تردّ ساخرة على اقتراح البائع وضع صليب على قبر رجل كان طوال عمره يُقدّر رموز الشيوعية، فمن الأحرى أن يمثّله لينين أكثر من المسيح. بينما يعتذر عن تلبية اقتراحها وضع ما يناسب معتقدات الراحل، فـ"النجمة الحمراء"، وكل شعارات الشيوعية باتت ممنوعة في الزمن الجديد.
تمثل بلاغا جيل الآباء (في بلغاريا، ويصلح لأن يكون في أيّ مكان)، هذا الذي عانى من انهيار عالمه، ولديه صعوبة في التواجد والتأقلم مع العالم الجديد، الجيل الذي عمل بشرف وأمانة طوال حياته، وعند التقاعد يجد مجتمعًا آخر قد حلّ مع "قيمه" المتمثلة في اعتبار النصب أمرًا عاديًا، في عدم تأدية العمل كما يجب، في الحلم بالهجرة والكسب السريع السهل، مع التجاهل التامّ لأيّ قوانين، أو أنظمة، أو قيم. أزمة أخلاقية كاملة تكتسح هذا المجتمع، حيث تسود روح فساد ونزعة استهلاكية باعتبارها "القيمة" الوحيدة، بدعمٍ من سلطة متواطئة، وإعلام لا همّ له سوى مضايقة الأفراد والتدخل في حياتهم وفضحها. عالم لا يتقن أهله لغتهم الأمّ حتّى. أولغا تصحح باستمرار الأخطاء اللغوية لمحدثيها، وفي كل وثيقة تستلمها، هم حتّى يستغربون منها هذا. تفاوت بين عالمين يبينه الفيلم باشتغاله على حوار ذكي مكثّف لا تمنع مباشرته أحيانًا من تذوقه، واعتماده على أداء معبر تمامًا لكل فريق العمل، وإخراج التقط كل تفاصيل شخصيات هؤلاء الذين عاشوا المرحلة الانتقالية من الشيوعية.
فقدت بلاغا كلّ مدخراتها حين وقعت فريسة عملية احتيال عبر الهاتف، فلا رادع من سرقة شخص مسنّ يتكفل بالكاد بنفقاته. وهي لم تفقد ثمن القبر فحسب، وإنّما  كرامتها وعزتها. بات الكل، بسبب إعلام فضائحي، على علم بما جرى لهذه المعلمة. تنقلب حياتها رأسًا على عقب حين تدرك أن لا وسيلة قانونية فعّالة لاستعادة أموالها... في هذه المرحلة التي تتبع النصب، تبدأ تحوّلات الشخصية ببطء وثبات. لقد أجبرت بلاغا على التخلي عن مبادئها، لتباشر انحدارًا تدريجيًا هدفه الأولي الانتقام واستعادة المسروقات باستخدام الطريقة نفسها التي استخدمت معها. ذلك لن يتحقق بسهولة. أن يخطو الإنسان خطوة كتلك فهذا ينمّ عن تغير في العمق، أنه لم يعدْ هو. فاستعادة المال بطرق غير مشروعة ليست مجرد عملية فحسب، إنه حلقة مفرغة سيظل يدور فيها، ولن يتمكن، حتى لو أراد بعد وصوله لهدفه، التوقف.

المخرج البلغاري ستيفان كومانداريف وهو يتسلم جائزة مهرجان كارلوفي فاري السينمائي الدولي


بلاغا كانت تشعر بآلام الآخرين، وهي تعطي لاجئة (سورية؟) دروسًا في اللغة البلغارية التي تخصصت فيها، كما أنها بين حين وآخر تصرّ على حضور حفل للموسيقى الكلاسيكية، حيث تتواجد مع أفراد قلائل... هذا عالمها الذي نشأت عليه: الأخلاق، التعليم، الموسيقى، الثقافة. لكنه انهار. هذا الانهيار التدريجي لشخصية كانت متمسكة بالمبادئ كان مقنعًا على مبالغته، لقد فقدت قدرتها على التمتع والاستمرار بما كانت عليه. ولم تكن محاولاتها في احتيال لا إنساني هي الأكثر تعبيرًا، كان ما يمور في داخلها من تغيرات ينعكس في مسار حياة الشخصية اليومي، حين لم تعد تطيق سماع الموسيقى الكلاسيكية وتنسحب وللمرة الأولى من الصالة، وحين لم تعد تحتمل النقاش مع ابنها المهاجر الذي يلومها فتغلق الشاشة، وحين تسأل اللاجئة عن رغبتها بجنسية بلد لا يهتم بأبنائه ولا أحد يقرأ فيه، هي التي كانت تصر على تعليمها دقائق اللغة. لقد انزاحت القيم، أكثر سماتها قيمةً!





ستيفان كومانداريف صاحب "الاتجاهات" (2017) الذي عرض حينها في قسم نظرة ما في مهرجان كان، يقول إن هذا الفيلم هو الأخير في ثلاثية. لقد انتقدت أفلامه السابقة بشكل منهجي الوضع الاجتماعي السيء في بلغاريا ما بعد الشيوعية. وفي هذا الفيلم، الذي تميز بأداء بارع للبطلة، يوجه عدسته نحو كبار السن في الوقت الحاضر، ليبرز جوانب مؤلمة للمجتمع البلغاري لهؤلاء المتقاعدين البلغاريين، الآباء والأمهات. وبعد أن عملوا طوال حياتهم، أصبح عيشهم اليوم ذليلًا بائسًا، وتمّ استبدال أحلام الحياة الكريمة بالنضال من أجل البقاء اليومي منذ فترة طويلة، مع معاشات تقاعدية هزيلة لا يمكن معها الحصول على "امتيازات" القرن الحادي والعشرين الأساسية، مثل الطعام العادي، والعلاج المناسب، والرعاية الطبية، والتدفئة في المنزل... وهم أيضًا يعيشون عزلة، فمعظمهم مفصول عن الأبناء والأحفاد. فهؤلاء يبحثون عن لقمة العيش في العاصمة، أو في البلدان البعيدة.
المتقاعدون هم أيضًا الأساس والهدف والضحايا المعتادة للظاهرة البلغارية المعروفة باسم "الهاتف الحيلة". يقول المخرج في لقائه بجمهور كارلوفي فاري إنه تابع تحقيقات، والتقى عددًا ممن وقعوا ضحية الاحتيال عبر الهاتف كما حصل لبطلته، كما تمكّن من الاجتماع مع بعض المساهمين في العمليات ليشرحوا له بدقة طريقة عملهم. وأشار إلى أن كثيرًا من المتقاعدين البلغار يحتفظون على جنب بمبلغ 1000 ليف (ما يعادل 500 يورو) من أجل بناء القبر.
أهدى المخرج في خطابه الجائزة إلى جيل والديه "فهم الأبطال الحقيقيون لفيلمنا. لقد وقعوا ضحايا لاقتصاد السوق في بلغاريا، والتي غالبًا ما كانت تسرق معظم ممتلكاتهم". وهو يؤمن بأن فهم الواقع هو الشرط الأول لتغييره، والشرط الوحيد للعمل المثمر.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.