}

مهرجان كارلوفي فاري: بين أحلام طفولة وجنون مبدعين إيرانيين

سينما مهرجان كارلوفي فاري: بين أحلام طفولة وجنون مبدعين إيرانيين
الكرة البلورية للجائزة الكبرى للمهرجان
المدينة جميلة نظيفة وهادئة إلا في ليلها ونهارها، رددتُ على سائلتي المهتمّة برأيي في مدينتها. لكن، من الظلم الحديث عن مدينة لم تزرها حقًا، وكل ما يمكن الإدلاء به نوعية صالاتها السينمائية ومسارحها، وما شاهدته فيها من أفلام. مدينةٌ تعبرها فقط حين التنقل بين صالة وأخرى، وإن اجتمع كلُّ ما تريد من أفلام في مكان واحد هو المركز الرئيسي لمهرجان كارلوفي فاري، فإن حظوظ التمتع بجمالها ضئيلة. لحسن الحظ، لم يكن هذا خياري. هكذا أتيحت لي فرصة التمشي قليلًا في دروب صاعدة، أو على طرفي نهر يقطع مركزها، وشقّ طريقي بصعوبة بين زحام سائرين، أنيقين في معظمهم، يستمعتون بالشمس والمثلجات. ليسوا كلهم من الأجانب لحسن لحظ كذلك. عديدٌ من سكان جمهورية التشيك، يأتون خصيصًا وقت المهرجان للتمتع بالمياة المعدنية الطبيعية للمدينة ونوافيرها المنتشرة في أماكن عدة، ولكن قبل كل شيء بمهرجانها السينمائي. هذه المرأة التشيكية التي كانت تقلّب بانغماسٍ تام برنامج مهرجان كارلوفي فاري، وهي تنتظر كحالي موعد فيلم إيراني، بدت مشرقة بابتسامة طيّبة وهي تحادثني، المهرجان حلمها منذ الشباب وربما الطفولة، منذ وعتْ كانت أمنيتها القدوم إلى هنا. ربما يتجاوز عمرها عمر المهرجان بقليل. ها هي المرة الأولى لها فيه. تحقق الحلم أخيرًا بفضل ابنة شابة وبارة أيضًا، دعتها للقدوم معها، ثلاثة أيام أعدتا لها برنامجًا مكثفًا وتعودان بعدها إلى بلدتهما. أعدتني سعادتها وأخرجتني كلماتها من توترٍ ناجم عن استغراق تامٍ في تنظيم برنامجي اليومي في جداول المهرجان الغنيّة إنّما المعقّدة بأسلوب إعدادها.
هذا مع أن أهدافي واضحة ومحددة منذ قبل القدوم؛ كلُّ الأفلام الإيرانية المعروضة في الدورة 57 من مهرجان كارلوفي فاري السينمائي الدولي (من 30 يونيو/ حزيران إلى 8 يوليو/ تموز 2023)، سواء في تظاهرة خصصت لها هذا السنة، أو في المسابقتين الرسميتين، أو غيرها من أقسام أخرى. لا بأس كذلك ببعض أفلام من بلدان شرق أوروبا يتيح هذا المهرجان بالذات التعرف على عدد منها. ففي مسابقتيه "الكرة البلورية"، و"بروكسيما"، أتت سبعة أفلام من أصل 23 من تشيكيا، وسلوفاكيا، وجورجيا، وبولونيا، وبلغاريا، ورومانيا. وفي "عروض خاصة"، كان هنالك 6 من أصل 8 من شرق أوروبا. لكن ما كان محطّ الاهتمام هو تظاهرة "ولادة أخرى، السينما الإيرانية هنا والآن"، التي احتوت تسعة أفلام مُنتجة في السنوات الأربع الأخيرة في إيران.
لماذا الاهتمام بهذه السينما؟ بالنسبة للمهرجان، لأن الفيلم الإيراني يشهد ولادة جديدة مستمرة. يولد مرارًا وتكرارًا، لأنه لا يهتم فقط بالمحتوى والموضوعات والقضايا الاجتماعية، وما إلى ذلك، ولكن بشكل أساسي بمنظور المخرج، وجوهر الفيلم، الذي لا يخضع لضغوط الأحداث اليومية. إنه سعيٌّ من المهرجان لتقديم قصة ثوران بركاني، وجلب إلى العلن الأصوات الأكثر حميمية والأكثر إلحاحًا، أصوات أولئك الذين يمثّل الانفتاح على الاختلاف والآخر الأساسيات. تتضمن هذه المجموعة، يقول المنظّمون، الأفلام التي يعد جنون مبدعيها مصدرًا مطلقًا للإبداع.
"جنون" وسينما إيرانية؟ هذا مبعثٌ لفضولٍ كبير، تضاف إليه صعوبات تواجه المهتمين بالسينما الإيرانية، الاطّلاع على ما يجري فيها حاليًا خارج إطار فيلم، أو فيلمين، في المهرجانات الدولية، لأسباب سياسية تتعلق بالوضع في إيران، وعدم التمكن حقًا من معرفة ما يجري سينمائيًا فيه.
ماذا يحدث، إذًا، في إيران المعاصرة؟ "سينمائيًا" بالطبع.




يعد الحجاب في السينما الإيرانية مكوّنًا رئيسيًّا، وهو مثار اعتراض ممثلات، وعدم تقبل جمهور، لكن تلك السينما تمكّنت من فرض نفسها على الرغم من تواجده الثقيل. كانت مخرجات وممثلات، سواء كنّ شهيرات أو لا، يحتفظن به أمام عدسات المصورين، وخلال اللقاءات مع الجمهور في المهرجانات الدولية كي لا يواجهن المشاكل حين عودتهن. ثمة سبب آخر يتركز في اهتمامهن بعدم مقاطعة صورهن "العالمية" من قبل الصحافة الإيرانية إن بَدوْنَ من دون حجاب. في كارلوفي فاري، وفي أثناء تقديم "شبكات خالية" (2023)، الفيلم الأول للمخرج الإيراني الألماني بهروز كريمي زاده المشارك في مسابقة "الكرة البلورية"، والفائز بجائزة لجنة التحكيم الخاصة، ظهرت بطلته الشابة صدف عسكري من دون حجاب على المسرح، كما في صور المهرجان، خلافًا لما حدث في الفيلم. في قصة تجري أحداثها في إيران، يحاول المخرج بأسلوب تقليدي محبوك بمهارة إثارة صراع الشباب الإيراني للعثور على عمل، وتجاوز عقبات الزواج المشروط بالمال. قصة حبّ مستحيلة بين فتاة وشاب من بيئتين مختلفتين اجتماعيًا واقتصاديًا؛ "إنها عينة معاصرة من إيران، قصة الشباب الذي يعاني وعانى وسيعاني، فالوضع لا يبدو في سبيله إلى التغير في المستقبل القريب"، كما أعلن المخرج للحضور.

"شبكات خالية" هو الفيلم الأول للمخرج الإيراني الألماني بهروز كريمي


في "مادة مظلمة" (2023) للشاب كريم لاكزاده (1986)، المشارك في مسابقة "بروكسيما"، ظهرت البطلة مهديس مهديار من دون حجاب، وأحيانًا بقبعة حسب ضرورات المشهد. لكن من الظلم حصر هذا الفيلم (المجنون) المُبتكر إيرانيًا بشأنٍ كهذا. فيلم ذاتيّ يذكّر بأسلوب غودار والموجة الفرنسية الجديدة، كتبه وصوّره وأخرجه لاكزاده عن ممثل وممثلة يلتقيان في أثناء اختيار ممثلين لفيلمٍ تجاري. حين لا يحصلان على الدورين يقرران صنع عملهما الخاص، سيكون فيلمًا يتحدى قواعد الرقابة، ولن يعيق صنّاعه أي شيء، أو أي شخص. مع مصور مخرج يصادفانه، سيبدأ ثلاثتهم مغامرة ساحرة للبحث عن تمويل، إنما ليس من دون عواقب مظلمة.
أفلام أخرى، مثله تحتفل بالسينما وبالأبيض والأسود، "نهر أبيض أسود" هو الفيلم الثاني لفرزين محمدي (1990) المعروض في تظاهرة الأفلام الإيرانية، سردٌ بالأبيض والأسود لأزمة فنية يواجهها مخرج شاب. في قرية نائية على ضفة نهر، وبتواصله مع سكانها، ستنجح محاولاته أخيرًا لاستعادة النفس والموهبة والوقت الضائع، وسيتمكن في ايجاد مادة لفيلمه الجديد، وليعلن في النهاية مادًا لسانه (لمن؟): "أنا هنا". فيلم رائع بصريًا، لكن هذا لا يكفي. السينما أيضًا ومتاعب أهل المهنة مع "جراد" (2021) لفايزة عزيز خاني، و"زاباتا"(2022) لدانِش إقبشاوي، الذي جاء منعشًا في أجواء فيلمية إيرانية عامة سادتها قتامة وسوداوية، فأثار بعض الضحكات بسخريته السوداء وطرافته. عملٌ حول السينما والحياة، وما يواجهه صنّاع السينما في إيران عبر قصة طريفة مجنونة صوّرت بالهاتف النقال لمخرج يريد عمل فيلم وليس لديه المال، فيقرر خطف أغنياء للاستفادة من الفدية في تمويل فيلمه. نوعٍ جديد في السينما الإيرانية الهزلية، بوسائله التقنية وجاذبية شخصياته (محمد رضا مسعودي).
هنالك فيلم حرب كذلك، مثل الوثائقي الوحيد في هذه الباقة "بوابة الأحلام" (2023) للمخرجة نگين أحمدي، التي انطلقت من طهران لمتابعة المقاتلات الكرديات في شمال سورية.

"K9" للمخرج وحيد وكيلي فار هو فيلم خيال علمي يشير إلى قوة النور


وأفلام خيال علمي مثل "سفر إلى القمر"(2020) لمحمد رضا شايان نجاد، حيث يخطط بطله لبناء جهاز يمكّنه من تسجيل حركة أثيرية غير مرئية، ليتفكك معه الواقع إلى شظايا صغيرة، ولتبدأ أصوات من الماضي والمستقبل في الظهور. كما تواجدت أكثر من غيرها في المهرجان، أفلام تمتلئ برموز وإيحاءات في أساليب مبتكرة شكلًا وسردًا تلجأ إليها السينما الإيرانية المعاصرة والمستقلة في بعض الأحيان تخلصًا من الرقابة. في فيلم "إبداع بين سطحين" (2019) الفيلم الثاني لحسين رجبيان (1984)، الذي كان كاتبه ومصوره ومخرجه ومنتجه.... يستلهم إنغمار بيرغمان في فيلم كابوس نفسي يكون تحوّل البطل فيه إلى حيوان محاولة للخروج من أزمات وتحرير النفس من عبء الحاضر والماضي.
أما العمل الأكثر اشتغالًا بصريًا ورمزيًا فهو "K9" (2022) الثالث لصاحبه وحيد وكيلي فار (1981). فيلم خيال علمي يشير إلى قوة النور، بنى فيه المخرج هرمًا زجاجيًا يقبع فيه حاكم في بلد تخلت فيه الشمس عن الأرض، ودفع كسوفها الناس إلى حافة الجنون. رجل أضاع التحكم بعقله وقلبه، وأوضاع من سيء إلى أسوأ تجعل التنبؤ بالقادم في علم الغيب. فيلم مليء بالرموز عن حاكم قزم ومواطنين بلباس موحد ورجال في أقفاص، وحراس ينفذون أوامر، وبلد تسوده الظلمة... ألا يحيلُ هذا إلى شيءٍ ما؟ لكن المخرج كان حريصًا على التنبيه قبل الفيلم "الجمهور يبحث عن الرموز والمعنى، وهذا ليس دائمًا في فكر صانع الفيلم، فالمهم هو ما تخلقون أنتم، ولو كان مخالفًا لما خلقتُ". ولقد خلقنا!




هذا لم يمنع أن أفلامًا أكثر التصاقًا بالواقع، شكليًّا على الأقل، عبّرت هي الأخرى عن مصاعب اليومي المعاش، كما في الفيلم المحكم الإخراج والممتع على الرغم من قساوته " بلا نهاية" (2021) لنادر ساعي ور، الذي يشير، بواقعية مذهلة، إلى الطرق الاستخباراتية في الأنظمة الاستبدادية لجرّ مواطنين بسطاء للتعامل معها عبر الإهانة والترعيب. فيلم مؤثر بسرده وأداء بطله الرائع... كما فيلم "حدود لا نهائية" (2022) لعباس أميني عن معاناة المهاجرين الأفغان على الحدود مع إيران، معاناة تلتقي مع مشاعر أهل البلد.
أفلام حزينة في معظمها، سواء كانت أفلام حرب، خيال علمي، الحبّ، أفلام داخل الأفلام، الهجرة....صاغها هؤلاء المخرجون الشباب الإيرانيون في لغة سينمائية خاصة، لغة مبتكرة وفريدة من نوعها وتتحدث بحرارة كبيرة عن الحياة والسينما والمعاناة، وعن القليلِ القليلِ من الأمل.

في كارلوفي فاري تميّز... من نوع آخر
ثمة ما لا تصادفه إلا هنا. أفلام قصيرة جدًا تُعرضُ مباشرة قبل الفيلم الرئيسي، أبطالها ممثلون شهيرون فازوا يومًا بالجائزة الكبرى: التمثال البلوري. كلّ فيلم يحتوي قصة طريفة وممتعة، كأن يذهب فنان لبيع التمثال الكريستالي في محل الحاجيات المستعملة، فترفضه البائعة، لأن غيره سبقه ولديه الآن كثير منه، أو أن يجد له ميلوش فورمان (المخرج الأميركي من أصول تشيكوسلوفاكية) استعمالًا وحيدًا مفيدًا، فيطحن به حبوب الدواء الكثيرة... كان الفيلم المصوّر مع جوني ديب هذه السنة الأكثر تداولًا ومصدر فخر المهرجان. جوني ديب يزوّر ويكتب اسمه على التمثال هو الذي لم يفز به مرة!

شارك المخرج كريم لاكزاده من خلال فيلم "مادة مظلمة" (2023)


في هذا المهرجان أيضًا، عليك أن تأتي مبكرًا إلى الصالة الكبرى، حيث تعرض أفلام المسابقتين الرئيسيتين، وإلا ستخسر مكانك حتى ولو البطاقة في جيبك، فخمس دقائق قبل بدء العرض يُقرع جرس تُفتح بعده الأبواب للصفوف الطويلة المنتظرة، والتي لم يتسن لأصحابها شراء بطاقة لنفادها بالكامل، يندفع كثيرون بعجلة ولهفة لاحتلال أي مكان فارغ لم يصل صاحبه بعد! ثمّ، حين ينتهي تقديم الفيلم للجمهور مع فريق العمل، يصعد إلى المسرح رجل عجوز، ليسحب الميكروفونات من أمام الشاشة قبل فتح الستارة. تلتهب القاعة بتصفيق للرجل يفوق في حماسته ما يناله كل النجوم. سنة بعد سنة يبقى هو العلامة المميزة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.