اختتمت مساء 9 سبتمبر/ أيلول فعاليات الدورة الـ80 في عمر "مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي"، والتي بدأت عروضها في 30 أغسطس/ آب الماضي. وذلك بتوزيع جوائز "المُسابقة الرئيسية"، التي أعلنها رئيس لجنة التحكيم المُخرج الأميركي الشاب داميان شازيل (39 عامًا). وعضوية كل من: الممثل الفلسطيني صالح بكري، والمخرجة النيوزيلاندية جين كامبيون، والمخرجة الفرنسية ميا هانسن لوف، والمخرج الإيطالي جابرييل مينيتي، وكاتب السيناريو والمخرج الأيرلندي مارتن ماكدوناه، والمخرجة الأميركية لاورا بويتراس، والمخرج الأرجنتيني سانتياجو ميتري، والممثلة الصينية شو كي. الجوائز الممنوحة يمكن القول إنها عادلة، وذهبت إجمالًا إلى مُستحقينها، في ضوء المستوى الفني والفكري والجمالي غير المُبهر للأفلام المعروضة، ربما باستثناء جائزتي التمثيل النسائي والسيناريو.
جوائز المُسابقة الرئيسية
بعد ثالث مُشاركة له في "المُسابقة الرئيسية" استطاع اليوناني يُورجوس لانتيموس (50 عامًا) اقتناص جائزة المهرجان الكبرى، "الأسد الذهبي"، عن فيلمه "أشياء فقيرة" Poor Things. وذلك بعد فوزه من قبل في فينيسيا عام 2018 بجائزة "لجنة التحكيم الخاصة" عن فيلم "المُفضلة"، وأفضل سيناريو عن فيلم "ألب" (2011). في القسم الأول من فيلم "أشياء فقيرة"، وهو باللونين الأبيض والأسود، نتعرف على شخصية الدكتور باكستر (وليام ديفو) غريب الأطوار، بوجهه البشع المُخيف من كثرة الجراحات التي خضع لها، وهو المُكافئ لفرانكشتاين. ومن خلاله نتبين أنه يجري تجارب خارقة على البشر والحيوانات والطيور. كان آخرها قيامه بإحياء امرأة شابة من الموت تُدعى بيلا (إيما ستون) وإعادة الحياة لها، وذلك عبر زراعته لمخ جنينها في مخها. ومن ثم، نتابع في هذا الجزء رحلة نضوج بيلا التدريجي. وفي الجزء الثاني، بالألوان، ويسبح أكثر في جو من الغرابة والفانتازيا والكوميديا والسوداوية، نُعاين بيلا وقد نضجت وتركت منزل دكتور باكستر في رحلة تطوف فيها العالم، خاصة أوروبا، وتتعرف فيها على العالم الخارجي المجهول كلية بالنسبة لها، وعلى البشر، وعلى ذاتها بالأساس.
جائزة "الأسد الفضي" أو "جائزة لجنة التحكيم الكبرى" للياباني ريوسوكي هاماجتشي، وجائزة "لجنة التحكيم الخاصة" للبولندية أجنيشكا هولاند |
الياباني الموهوب ريوسوكي هاماجتشي (44 عامًا) المُنطلق بسرعة الصاروخ خلال السنوات الثلاث الماضية، أضاف إلى جوائزه العديدة الحاصل عليها من "برلين" و"كان" و"أوسكار"، جائزة "الأسد الفضي" أو "جائزة لجنة التحكيم الكبرى" عن فيلمه "الشر غير موجود". تدور الأحداث عن الخطر البيئي الذي يُهدّد سكان قرية يابانية هادئة ونظيفة بعد قرار شركة عملاقة من طوكيو تنفيذ مشروع لها على حدود القرية. ما يُهدد سلامة المياه والغابة في المنطقة، ويدفع بطل الفيلم تاكومي للتصدي للأمر مع سكان القرية. يتميز الفيلم بتركيزه وإيجازه. وسينمائيته الشديدة. وانطلاقه المباشر صوب الموضوع، رغم هدوء أو حتى بطء الإيقاع، والخاتمة المُحيرة للغاية والمُلغزة بشدة.
ذهبت جائزة "لجنة التحكيم الخاصة" للبولندية المُخضرمة أجنيشكا هولاند (74 عامًا)، عن فيلم "حدود خضراء". الحدود التي تحكي عنها في فيلمها ليست خضراء بالمرة، بل حمراء قانية، نظرًا لما تشهده من عنف وتعسف وتنكيل وإهدار آدمية، وقتل. يتناول الفيلم أزمة فتح الحدود بين بولندا وبيلاروسيا، عام 2021، أمام الراغبين في العبور إلى الغرب، عبر بولندا. يرصد الفيلم، باللونين الأبيض والأسود، الأزمة الإنسانية على الحدود، عبر عائلة من اللاجئين السوريين، وأخرى أفريقية، ومغربي، وإيرانية، وشخصيات أخرى كثيرة. وكيف، بعد تعرضهم للخداع على أيدي المُهربين، يدفع بهم حرس حدود البلدين إلى الطرف الآخر ليتخلص منهم. كأنهم كرة يتقاذفونها أو لعبة يلهون بها. ما يُعرض حياة العديد منهم للخطر والهلاك.
بعد المُشاركة الخامسة له في مُسابقة فينيسيا، وعلى نحو غير مفهوم بعض الشيء، وغير مُستحق أيضًا، استطاع التشيلي بابلو لارين (47 عامًا) الحصول على جائزة "أفضل سيناريو" عن فيلمه "الكونت". ويتناول فيه شخصية الديكتاتور الفاشي أوغوستو بينوشيه الذي صوره كمصاص دماء. يطير ويُحلق ليلا فوق سماء البلاد ليختار ضحاياه ممن يقتلهم، ويمتص دماءهم، ويلتهم قلوبهم، ما جعله يعيش لأكثر من قرنين. إذ يبدأ الفيلم بالثورة الفرنسية، وينتهي في الوقت الراهن. برؤية جديدة إلى حد ما، وباللونين الأبيض والأسود، يُحاول مخرج الفيلم أن يجمع بين أسلوبية أفلام "الفامباير" والتاريخ والسياسة والاجتماع، إلا أن "الكونت" جاء دون المستوى، حتى مُقارنة بأفلام بابلو لارين السابقة.
من بين الجوائز المُستحقة، وإن كانت مُثيرة للجدال، جائزة "أفضل مُمثل أو كأس فولبي" والتي ذهبت إلى الأميركي بيتر سارسجارد (52 عامًا) عن شخصية "سول" في فيلم "ذاكرة" للمخرج المكسيكي ميشال فرانكو. إذ كان هناك أكثر من ممثل يستحق الجائزة، وعن جدارة فعلا. مثلا كايلب لاندري دونز في "رجل الكلاب" أو برادلي كوبر في "مايسترو" أو حتى آدم درايفر في "فيراري". ليس معنى هذا أن أداء سارسجارد لشخصية سول، الخمسيني الذي يُعاني من فقدان للذاكرة والوحدة وتسلط شقيقه عليه، لم يكن مُقعنًا أو يستحق الجائزة، العكس تمامًا. استطاع سارسجارد إقناعنا بالشخصية والتعاطف معها ومشاكلها، بمنتهى السهولة والصدق، ودون أي افتعال. من هنا، يمكن القول إن هذه الجائزة جاءت كتتويج للفيلم كله، المُكتمل الجوانب على نحو رائع ومؤثر فعلا.
جائزة أخرى غير مفهومة أو مُبررة بالمرة، وذهبت إلى من لا تستحقها، هي "أفضل مُمثلة" للأميركية كايلي سبايني، عن تجسيدها لشخصية "بريسيلا" في فيلم "بريسيلا" لصوفيا كوبولا. وفيها أدت شخصية بريسيلا المُراهقة، التي أوقعت في غرامها المُغني العالمي الشهير إلفيس بريسلي. ويسرد الفيلم قصة حبهما وزواجهما وإنجابهما، والمراحل المُتقلبة التي مرت بها حياتهما معًا. أداء كايلي لشخصية بريسيلا ليس استثنائيًا أبدًا، لكن ربما لأن فيلم "أشياء فقيرة" فاز بـ"الأسد الذهبي" فلم يكن مُمكنًا منح جائزة "أحسن مُمثلة" لإيما ستون عن شخصية "بيلا". ولكن الغريب جدًا عدم فوز البولندية جوانا كوليج بجائزة التمثيل في فيلم "امرأة من..." لموجوﭽاتا شموفسكا وميهاو إنجليرت. إذ كانت هي الوحيدة التي تستحقها عن جدارة فعلًا، نظرًا لأدائها اللافت جدًا، والبارع والمُقنع والصادق للغاية في تجسيدها لشخصية آدم. تلك الشخصية الصعبة والمُركبة للغاية، التي تتزوج وتُنجب وهي تدرك أنها امرأة مُكتملة الأنوثة، وليست ذكرًا.
أما جائزة "مارشيلو ماستروياني لأفضل مُمثل صاعد" فنالها السنغالي سيدو سار عن أدائه لشخصية "سيدو" في فيلم "أنا القبطان" للإيطالي ماتيو جاروني (54 عامًا). الجائزة مُستحقة فعلا نظرًا لأداء سيدو المُقنع لشخصية المُراهق الذي يتوق لمُغادرة بلده، والذهاب للعيش والعمل في أوروبا، مهما كانت الصعاب. ومن ناحية أخرى، لم يبرز ولم يتواجد أيضًا في أفلام المُسابقة من يستحق هذه الجائزة التي تُمنح للشباب والمُمثلين الصاعدين تحديدًا.
جائزة غير مفهومة أو مُبررة ذهبت إلى من لا تستحقها، هي "أفضل مُمثلة" للأميركية كايلي سبايني، عن تجسيدها لشخصية "بريسيلا" في فيلم "بريسيلا" لصوفيا كوبولا |
فيلم الختام
عقب توزيع الجوائز عُرض فيلم الختام وهو بعنوان "مُجتمع الثلج" للإسباني خوان أنطونيو جارسيا بايونا (48 عامًا). الفيلم من إنتاج شبكة "نيتفليكس"، ومأخوذ عن واقعة حقيقية جرت أحداثها في سبعينيات القرن الماضي، تحديدًا 1972. حيث تحطمت طائرة مدنية فوق جبال الإنديز بشباب فريق الأوروغواي للرجبي، بينما كانوا في طريقهم إلى تشيلي. يرصد الفيلم مُعاناة أكثر من نصف الفريق ومُغالبتهم للظروف والصعاب والعواصف الثلجية والصقيع ونقص الطعام، وأيضًا توقف البحث عنهم، وغيرها الكثير، للتمسك بالحياة. وأخيرًا، نجاح بعضهم في العودة إلى بلده، بعد أكثر من شهرين وسط الجبال.
محطات لافتة
بانتهاء عرض "مُجتمع الثلج" أُسدل الستار على دورة كانت واعدة فعلا، نظرًا للأسماء الكبيرة واللامعة المشاركة فيها، ولكنها انتهت عكس المتوقع تمامًا. إذ غلب على الأفلام المُتنافسة تقلب المُستوى الفني، وتكرار الأفكار والموضوعات، وسطحية التناول والمُعالجة. بجانب هذا، يُمكن جدًا وصف هذه الدورة بالباهتة، نسبيًا. السبب، إضرابات هوليوود التي أثرت كثيرًا على البريق المُعتاد للمهرجان، وسجادته الحمراء التي عادة ما كانت تزخر يوميًا بالنجوم والنجمات، خاصة من هوليوود. إذ تسبب الإضراب هذا العام في عدم حضور الكثير من النجوم المُنتظرين للترويج لأفلامهم الجديدة، وحضور عروضها الأولى، والسجادة الحمراء، والمُؤتمرات الصحافية. مثلا، إيما ستون بطلة "أشياء فقيرة" لليوناني يورجوس لانتيموس. وتيلدا سوينتون المُشاركة في "قاتل" للأميركي ديفيد فينشر. وبينلوب كروز بطلة فيلم "فيراري" لمايكل مان. والأميركي برادلي كوبر بطل ومخرج فيلم "مايسترو"، وغيرهم. ناهيك بالاضطراب الحادث قبل انطلاق المهرجان وأدى إلى سحب فيلم الافتتاح الأميركي "المُتحدون" بطولة زندايا وإخراج لوكا جوادانينو.
على غير العادة، شاركت إيطاليا بـ6 أفلام في مُسابقة هذا العام. ورغم غزارة الإنتاج الإيطالي المُلحوظة هذا العام سواء في مهرجان "كان" أو في مهرجان "فينيسيا"، إلا أن العبرة ليست بغزارة الإنتاج ولا كثرة الأفلام المُشاركة، مع الأسف الشديد. إذ من بين الأفلام الإيطالية المُتنافسة في المسابقة هذا العام، جاء أكثر من نصفها دون المستوى تمامًا، برز فقط "أنا القبطان" لماتيو جاروني، و"لوبو" لجورجيو ديريتي.
لقطة من فيلم "كواليس" لعفاف بن محمود وخليل بن كيران، ولقطة من فيلم "خلف الجبال" للتونسي محمد بن عطية |
بنفس عدد الأفلام أيضًا، كان التواجد الأميركي في مُسابقة هذا العام. نصفها من إنتاج شبكة "نيتفليكس"، التي تُشارك منذ سنوات في فعاليات المهرجان، داخل أو خارج المُسابقة. يُمكن القول إن الأفلام المُنتجة من جانب الشبكة كانت دون المُستوى هذا العام. على الأقل، مُقارنة بمشاركات السنوات الماضية. فهل مستوى إنتاج الشبكة آخذ في الانحدار أو أن المهرجان بات يقبل بأي إنتاجات تُقدمها الشبكة ما دامت تحمل أسماء مُخرجين كبار ومُكرسين؟ سؤال فرضته الأفلام المُشاركة في هذه الدورة وبقوة، سواء داخل أو خارج المسابقة. فهل سيُعيد المهرجان حساباته بخصوص مُشاركة أفلام الشبكة أو على الأقل حجم المُشاركات؟
أيضًا، كان من اللافت جدًا المُشاركة العربية الهزيلة للغاية في مُختلف أقسام المهرجان هذا العام، مُقارنة بالسنوات الماضية، من ناحية. من ناحية أخرى، ثمة الكثير من الأسئلة التي يتعين طرحها حول مستوى الفيلمين العربيين المُشاركين في فينيسيا هذا العام، سواء المُستوى الفني أو الجمالي أو الفكري أو حتى الأداء. وقد يؤديان إلى مشاكل في التواصل مع الجمهور عندما تنطلق عروضهما التجارية الجماهيرية. ليس معنى هذا أن "وراء الجبال" للتونسي محمد بن عطية، و"كواليس" للتونسية عفاف بن محمود والمغربي خليل بن كيران، دون المُستوى. بالعكس، ثمة على الأقل جدة بعض الشيء في الأفكار والطرح والمُعالجة والتصوير، ولكن ينقصهما الكثير على مُستوى السيناريو تحديدًا. وبالأخص الحبكة وتطور وتصاعد الأحداث. كذلك مدى عمق وتطور وإقناع الشخصيات في الفيلمين.