}

"تأتون من بعيد": عن الروسية ابنة نجاتي صدقي!

يوسف الشايب 28 يناير 2024
سينما "تأتون من بعيد": عن الروسية ابنة نجاتي صدقي!
لقطة من الفيلم
في فيلمها الوثائقي "تأتون من بعيد" (2018)، تأخذنا المخرجة أمل رمسيس، على مدار ساعتين، إلى عوالم مجهولة من تاريخ القاص والمناضل السياسي الفلسطيني نجاتي صدقي، خاصة ما يتعلق بجانب من حياته الشخصية غير المعروفة، إضافة إلى تاريخه النضالي، لا سيما في صفوف الشيوعية الأممية، بحيث كان واحدًا من أربعة فلسطينيين ممن قاتلوا مع "الجمهورية" ضد فرانكو وقواته في إسبانيا، بل كان ممن أدلوا بآرائهم بشأن "الكومنترن"، حتى تم طرده من الحزب، إثر انتقاده للاتفاقية الألمانية السوفياتية، وكتابته سلسلة مقالات حول "النازية والإسلام"، موضحًا تعارضهما، هو الذي ينحدر من عائلة مسلمة مقدسية.
يسجن نجاتي صدقي وزوجته الأوكرانية لوتكا، لنشاطهما من القدس، في إطار الشيوعية الأممية ضد الاحتلال البريطاني لفلسطين، وحينها تقرر الشيوعية الأممية (الكومنترن) إرسال ابنتهما الوحيدة، وقتذاك، "دولت"، إلى ملجأ قرب موسكو، ضمّها رفقة أطفال من الصين وإندونيسيا والهند، وبقيت فيه وحدها من دون أي من أفراد عائلتها.
في عام 1936، غادر إلى فرنسا، حيث انتصرت الجبهة الشعبية هناك، ومنها إلى إسبانيا، في إطار التطوع مع "الجمهورية" في مواجهة "فاشية فرانكو" وأنصاره من المتطوعين المغاربة، وكانت بداية رحلته، إبّان الحرب الأهلية الإسبانية، من برشلونة، ومنها إلى مدريد، حيث عمل على كتابة البيانات الموجهة إلى الجنود المغاربة، لعلهم يعودون "إلى رشدهم، وديارهم"، إضافة إلى مقالاته الصحافية بالإسبانية، وبالعربية أيضًا تحت اسم "مصطفى بن جالا"، لكون الاسم يحمل قربًا ما من الأسماء المغربية.

"تأتون من بعيد": حياة عائلة فلسطينية مزقتها الحروب

وفي الطريق من فرنسا إلى إسبانيا عام 1936، مرّ صدقي بموسكو، للقاء ابنته التي باتت تحمل اسم "دوليا"، وكنيتها "دوليا سعدي"، كون أن الاسم الحركي لوالدها حين تم تهجيرها من القدس، حيث ولدت، إلى موسكو، كان "سعدي"... لم تكن تعرفه حين توجهت إلى غرفة في الملجأ فيها رجلان، وعندما أشارت مصادفة إليه بعد سؤالها عن والدها، فرح كثيرًا، ولكنه سرعان ما تركها، قبل أن تحضر والدتها بعده بأشهر إليها، وتعيش معها ثلاث سنوات حتى عام 1939 في فندق بموسكو. وكانت عند تصوير الفيلم، وهي تسير رفقة حفيدتها وحفيدها الشابيّن، تتذكره بشكل جيد، بحيث أشارت إليه، وتحدثت عن غرفتها ووالدتها رقم (161)، بينما الفندق كان برسم الهدم قبل خمس سنوات، أو أكثر قليلًا.
في السنوات الثلاث تلك كان نجاتي صدقي من بين المتطوعين الذين دافعوا عن مدريد لثلاثة أعوام، بعد أن هجرتها قيادات "الجمهورية" إثر قصف قوات فرانكو لها، متجهين إلى فالنسيا، ولكونه كان مقتنعًا بضرورة مخاطبة المغاربة، كونهم عربًا مثله، توجه إلى بعضهم حيث هم، وتحدث إليهم بمكبر الصوت مطالبًا إياهم بترك قوات فرانكو الذي يضللهم، والتوجه إلى "الجمهورية" التي سوف تحتضنهم وتعيدهم إلى عائلاتهم في المغرب، ما رأى فيه "الجمهوريون" تجاوزًا للخطوط الحمراء، لكونهم كانوا يعتبرون المغاربة المتطوعين في جيش فرانكو أعداء لا يمكن مخاطبتهم بهذه الطريقة، فطرد من إسبانيا عائدًا إلى فرنسا مجددًا، ليبقى وحيدًا هناك.
تُقرّر زوجته ترك ابنتهما مجددًا والالتحاق به، واعدة إياها بالعودة قريبًا رفقة والدها، ما يتضح لاحقًا أنه حرصًا على حياتها، كونهما كانا مطارديْن لأكثر من جهة.
تتذكر "دولت"، أو "دوليا"، ملجأها الجديد، وكيف أن مديرة النشاط الرياضي فيه ماريا اتفقت مع والدتها على أن تقوم إحدى المقيمات هناك باصطحابها في جولة في المكان، لتعود بحثًا عن والدتها التي كانت قد غادرت واختفت، ما دفعها إلى القول، وهي مسنة في موسكو، باكية: لم أسامح أمي لفترة طويلة، لأنها لم تقل الحقيقة، ولأنها اختفت من دون أن تودعني... كانت ضربة قاصمة لي.




وتظهر في الفيلم شقيقتها "هند" من أثينا، والتي تكمل السرد رفقتها بالعربية التي لا تجيدها "دولت" بتاتًا، لتشير إلى أن والدتها تركت أختها في موسكو، وعادت إلى فلسطين هي ووالدهما، مع أنها كانت أخبرتها أنها ستعود إليها.
تسرد "دوليا" حكايات صعبة خلال سنوات الحرب العالمية الثانية، وأخرى جعلت منها ذات شخصية ريادية وقوية داخل الملجأ الذي كان مدرسة أكثر منها ملجأ، بحيث تعلمت هناك الرسم وأجادته، كما الغناء، والرقص، والحياكة، وغير ذلك، هي التي درست في وقت لاحق الهندسة في الجامعة، وتزوجت من رجل نصفه أرمني ونصفه الآخر مجري، وانفصلا بعد وقت قصير من ولادتها لابنها الوحيد.
في عام 1946، حاول والدها أن يعيدها إلى فلسطين، حيث تعيش عائلتها التي اتسعت لتضم شقيقيها سعيد صدقي، وشقيقتها هند صدقي، وكانت وقتها في عمر السادسة عشرة، إلا أن روسيا رفضت، وكأنها "تعاقبه" على مواقفه لكونه شخصية حرّة، وفق تعبيرها، ومن وقتها بدأوا يرسلون لها الصور والرسائل، أولها لسعيد، ثم للأم وسعيد وهند، وبعدها صورة لوالدها، وهنا كما قالت بدأت تشعر أن لديها عائلة.
ومع نكبة فلسطين عام 1948، تهاجر العائلة إلى بيروت، ومع العلاقات المتطورة بين لبنان والاتحاد السوفياتي، تتمكن "دوليا" من زيارة عائلتها هناك لأول مرة في عام 1956، الزيارة التي وثقتها رسمًا، ولم تكن قد تزوجت بعد، ليتضح لاحقًا أنها زارت بيروت أربع مرّات، منها واحدة رفقة ابنها، هي التي كانت تتواصل مع والديها بالروسية، وكان من الصعب تواصلها مع شقيقيها لكونهما يتحدثان العربية التي لا تجيدها بالمطلق، في حين تعلّم "سعيد" شيئًا من الروسية، وبات يطلق عليها لقب "العربية الحمراء".
ومع شعورها بالغربة في بيروت، قررت "دوليا" ألا تبقى فيها، وتوجهت إلى موسكو مجددًا، ومع ذلك كانت تشعر بشوق إلى العائلة، كما إلى "الشرق"، لذا زارتهم هناك أكثر من مرة.
ما بعد الحرب الأهلية اللبنانية، تعيّن على الأسرة مغادرة بيروت، فرافقوا ابنتهم "هند" إلى حيث انتقلت بمساعدة المؤسسة التي كانت تعمل فيها إلى أثينا، حيث توفي نجاتي صدقي هناك عام 1979، كما زوجته من بعده.



وكان لافتًا أن هند نجاتي صدقي كشفت وهي تستعرض صور العائلة أن والدتها أبلغتها ذات يوم وهي تشير إلى صورة تجمعها بشاب أنه شقيقها، وأنهم يهود، من دون أن تقدم الابنة تفاصيل أخرى. لكنْ من السياق الذي بتر يتضح أنه بات إسرائيليًا، وهو حال كثير من العائلات الشيوعية ما بعد احتلال فلسطين عام 1948، بحيث تمنح الجنسية الإسرائيلية لأبناء اليهوديات، فيما لم تكن ثمة جنسيات فلسطينية لتمنح لهم تبعًا لآبائهم، هم أبناء الفلسطينيين العرب، وأحيانًا المسلمين، أو المسيحيين، واليهوديات من الشيوعيين، قبل النكبة أو بعدها، إلا أن زوجة نجاتي الأوكرانية، وبحكم نضالاتها ضد الاحتلال البريطاني والصهيونية، غادرت رفقته ما باتت بلاد شقيقها الذي غاب تمامًا عن سرد الفيلم، إلا من هذه الحكاية التي لا تخلو من دلالات أيضًا عن انشقاقات الدول، وانقساماتها، فالاتحاد السوفياتي هو من منح الجنسية لدولت نجاتي صدقي تحت اسم "دوليا سعدي"، ومن ثم باتت روسية الجنسية بعد تفتت السوفيات، في حين أن أمها التي كانت سوفياتية ستكون أوكرانية لو قدر لها العيش إلى ما بعد عام 1990، لتصبحا الآن دولتين متحاربتين.
أما "كارلوس" الذي تخاطبه المخرجة بالإسبانية، بينما تقصف القوات الأميركية بغداد في عام 2003، فيبدو أنه مواطن إسبانيّ قرر النضال ضد الاحتلال الأميركي للعراق، في استعادة مضادة لحكاية نجاتي صدقي ورفاقه في بلاده، قبل أن يغادرنا كما السرد الفيلمي أيضًا، وإن كان مفتتحه.
بعد عامين من التصوير الأول، الذي كانت ناصية السرد فيه لكل من "دوليا" و"هند"، يلتقي أبناء نجاتي صدقي في موسكو: سعيد الذي يعيش في البرازيل منذ عقود، وبات يتحدث الإسبانية بشكل أساسي، إضافة إلى العربية والإنكليزية، وهند التي تتحدث العربية في الأساس، مع إجادتها لليونانية والإنكليزية، ويحمل كلاهما كنية صدقي، مع شقيقتها "دولت"، أو "دوليا"، وحفيدها الروسي، ولا يجيدان إلا الروسية، والقليل القليل من الإنكليزية، وتحمل كنية "سعدي" الاسم المستعار للشيوعي الفلسطيني نجاتي صدقي، هناك في موسكو، حيث يأتون إليها من بعيد، كما فعل صدقي ورفاقه من المتطوعين في الحرب الأهلية الإسبانية مع الأممية الشيوعية متمثلة بـ"الجمهورية" في مواجهة فرانكو، في حكاية مؤثرة اصطادتها ونفذتها ككاتبة ومخرجة أمل رمسيس باقتدار يجعل المشاهد يتعرف على حكاية فلسطينية قد تبدو فانتازية، لمن باتت الروسية "دوليا"، وإن أوصت حفيدها بنثر رمادها بعد وفاتها في القدس، وطنها الأم، كي ترتاح، مع أنها ترى في روسيا وطنها.
تعكس حكايات "تأتون من بعيد" حالة الشتات الفلسطينية المتواصلة، حيث النكبة تلو الأخرى، والهجرة تلو الهجرة، والنزوح ما بعد النزوح، وهي الحالة التي يعيشها اليوم الفلسطينيون في غزة، جراء حرب الإبادة الإسرائيلية المتواصلة منذ أكثر من 110 أيام على القطاع المُحاصر.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.