}

الصور التي هي عارنا

بلال خبيز 18 مارس 2024
تشكيل الصور التي هي عارنا
آني كوركيدجيان
[إلى آني كوركيدجيان]

 

كم لحظة يدوم مشهد انفجار الجسم جراء قذيفة؟ ثوان قليلة. كم لحظة يدوم تفتح سحر جسد شاب لناظر عابر؟ ثوان أيضًا، ربما أكثر قليلًا. كم لحظة يدوم الدم المسفوك في لوحة غيرنيكا؟ الأرجح أنه يدوم أطول. لكنه ليس الدم نفسه، ولا حتى صورته، أو رسمه. إنه الإيحاء به، الدلالة عليه، لكنه ليس هو نفسه.
من قال إن الفن يجب أن يصنع الأصلي، كأن يكون الدم المرسوم دمًا حقيقيًا، أو يكون الوجه المرسوم وجهًا خالدًا لا يشيخ ولا تغيره النوائب؟ الفن نسخة عن أصل ما. لطالما كان كذلك وسيبقى. مع ذلك، يجدر بنا أن نسأل سؤالين إضافيين. هل ما زال الدم المسفوك في لوحة غيرنيكا حارًا حين يراه مشاهد اليوم؟ وهل كان بيكاسو يريد أن تبرد دماء لوحته وتتجمد بعد مرور زمن على رسمها؟ لا أحد يعرف إذا كان أي من السؤالين قد دار في ذهن الفنان. لكن غيرنيكا عاشت بدون شك على دم الأسبان ردحًا، ثم تسنى لها أن تعيش خلودها في المتاحف. أي في المنطقة التي تخرج من اليومي وتعود إلى التاريخ. لقد أصبح الدم المسفوك فيها دمًا باردًا منذ أن تم عرضها، ذلك أنه تحول إلى جزء من تاريخنا. نحن نتسامح مع فظائع الإسكندر المقدوني، لأنها حدثت منذ زمن سحيق. ضحايا طموحه آنذاك كانوا يعانون في اللحظة والتو. لكنهم ضحايا بعيدون، ولم تعد تربطنا بهم صلات. ما يربطنا بهم ليس أكثر من إنجازات قاتلهم أو إخفاقاته. مفهوم، كل الذين قتلوا من العمال والمزارعين على أسوار القسطنطينية أثناء محاولة فتحها، ليسوا أكثر من خبر قد نتذكره وقد لا نفعل. ما نتذكره ونصر على استذكاره هو فتح القسطنطينية كحدث تاريخي كبير. لقد حصلت هذه المذبحة لكي نتذكر أن فاتحًا عاش في تلك الحقبة، إنما وفي الأساس لكي ننسى أن موتًا كثيرًا تناثر على أسوارها من الجانبين، وعذابات لا تحصى لحقت بنساء وأطفال وشيوخ وجنود، كانوا يعرفون وهم يحتضرون أن الذاكرة البشرية لن تتسع لهم، وأن الفن لن يبقي دماءهم حارة وذكراهم حاضرة.

(آني كوركيدجيان)




على النحو نفسه سننظر إلى الموناليزا، أو حتى إلى صورة مارلين مونرو. مارلين مونرو كانت في صورها وحضورها قادرة على إثارة طيف هائل من المشاعر المرتبطة بالمتعة واللذائذ والبهجة. كانت على نحو ما أيقونة البهجة في حياة الأميركيين الشديدة الجفاف. لقد أكلوها حية، ذلك أنهم كانوا، يومذاك، لا يملكون مصدرًا آخر للبهجة في حيواتهم. ولأنهم كذلك فقد أماتوها قبل انتحارها. هذا لا يجعلهم قتلة وقساة، لكنه يجعل المرأة التي، بسبب تضافر ملايين المصادفات وتزاحمها في زمن واحد، صورة بحت. ولأنها صورة فلا يجدر بها أن تغادر صورتها، تمامًا كصورة الموناليزا في اللوحة. تعلن وتوحي الإعلان والإيحاء نفسيهما طوال الوقت. أين ذهبت الموناليزا بعد أن تمت لوحتها؟ لا أحد يعرف. هل شاخت ومرضت وتألمت؟ لا أحد يهتم بالإجابة. وجه هذه المرأة أريد له أن يكون تعريفًا للوجه، مثلما كان جسم مارلين تعريفًا للجسم. لكن النساء في العالم لا يشبهن مارلين، وإن تشبهوا بها في لحظات ما، فهي ليست إلا لحظات قصيرة لا يمكن أن تدوم أكثر من الثواني التي يحتاجها صاروخ لتدمير مبنى على رؤوس سكانه. مع ذلك، دعتنا الفنون التصويرية إلى حشر النساء في صورة مارلين، وهذا ينطبق على غيرها من النجمات والنجوم، ومنعتهن، أي الفنون، من أن يكن ما هن عليه حقًا.

(آني كوركيدجيان)


وعلى الصورة نفسها، نحن نحشر كل الضحايا، المليارات منهم، في خانة الإنجازات الحربية التاريخية. عشرات ألوف الجنود الفرنسيين كان يمكن إنقاذ أرواحهم لو أن نابليون بونابرت لم يكن في تلك اللحظة الحرجة من تاريخ المعارك والحروب التي خاضها، يقضي ليله مع عشيقته. هؤلاء الضحايا جميعًا لم يكونوا قبل الإنجاز، ولم ينجحوا في جعل موتهم منظورًا لأحد، إلا في لحظات خاطفة من التاريخ، تلك اللحظات التي ترافق حدوث المجزرة. بعد ذلك يدخلون إلى المتاحف بوصفهم مجدنا التاريخي، وكان الأجدر أن يدخلوها بوصفهم عارنا.
والحال، الفنون تريد منا أن نصدق أن العالم بهيج، وأن الانتصارات مفرحة، وأن الشبان والشابات جميلون وجميلات، ويعيشون ويعشن لتحقيق لذائذهم ورغباتنا على نحو متزامن. لا يعملون ولا يعملن، ذلك أن هذه الأجساد التي تتموضع ساعات طوال أمام الرسام في مرسمه، لا تستطيع أن تكون على صورتها التي ينتجها الرسام إلا للحظات معدودة. في الأثناء، قد تعاني الفتاة العارية المتموضعة أمام الرسام، من آلام في العنق، من تخشب في الأطراف، من جوع وعطش. لكن ذلك كله يجب ألا يظهر أبدًا لعين المشاهد. هذا الجسم الذي يثير فينا ما يثيره، وتصنع صورته بعضًا من قيمنا المتعلقة بالحب واللذة والمتعة والبهجة، هو صورته فقط. لحظة خاطفة من عمره، يراد منها أن تحتل تاريخه وحاضره ومستقبله.
لقد اختصر روبينز شخصية ميلان كونديرا في رواية "الخلود" كل النساء اللاتي عرفهن في حياته في بضع دقائق من ذكرياته. كل امرأة مرت في حياته لم يبق منها غير لمحة خاطفة، هي التي تريد الفنون منا أن نحتفظ بها، وهي التي نشيّد عليها قيمنا وأفكارنا وفلسفاتنا. ما تبقى من حالات أجسام تلك النساء لم يكن يملك من الأهمية لكي يصمد في الذاكرة. لقد عاشت تلك النساء كما تعيش الصور. ثابتة وجامدة وقادرة على العيش في متحف الذاكرة والفلسفات والقيم. أما حيواتهن الحقيقية فتركناها للعتمة التي نجيد افتعالها وصناعتها منذ ولادة الذاكرة البشرية وحتى اليوم.
والحق يكون المرء صورة في ذهن من يعاصرونه. وقد يتحول إلى صورة في أذهان البشر جميعًا، كما هي حال النجوم وسكان الصور، لكنه لا يكون كائنًا كاملًا إلا في عيون وقلوب الأقرب منه وإليه، أولئك أيضًا، لأن صور الذاكرة تعذبهم إلى هذا الحد باستعصائها على الحلول، يحتفظون بصورته على الجدار.

[هذه المقالة هي تحية للفنانة التشكيلية اللبنانية آني كوركيدجيان، وقد تولدت أفكارها بالنظر إلى أعمالها المميزة]...

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.