}

لاس فيغاس: متجر الليل

بلال خبيز 8 أبريل 2024
اجتماع لاس فيغاس: متجر الليل
انعكاس نافورة في منتجع وكازينو وين في لاس فيغاس(Getty)

الليل هو كل ما ليس متوجبًا علينا. كل ما نفعله خلاله إنما نفعله لأننا نريد أن نفعله، أو لأن انفعالاتنا ومشاعرنا تحثنا على إتيانه.
النهار، بالتعريف، هو ما يراد لنا أن نفعله.
هل احتل النهار حيزًا من الليل؟ أكيد. ذلك أن نومنا المعاصر هو نوم هادف وطبي: نُنصح بأن ننام لنستجمع قوانا ونقوى في الصباح على مواجهة ما ينتظرنا من إجهاد وتعب.
المجتمعات الحديثة، أي مجتمعات المدن، وجدت حلًا لمصادرة النوم. وجعلت الليل محصورًا فقط في الليلة التي تعقب أسبوع العمل. ليلة الخميس، أو السبت، بحسب المجتمعات. في هذه الليلة، نحيي الليل. نريده انفعاليًا ومشاعريًا، ونحاول أن نقوم به بكل ما مُنعنا من القيام به طوال ليالي الأسبوع.
لكننا غالبًا ما نفشل. ليالي السبت هي ليال منسقة سلفًا. تذهب إلى البار وفي ظنك أنك تريد إحياء الليل، والتقاط مصادفاته. لكن غيرك من الذاهبين إلى البار أيضًا يريدون الشيء نفسه. هكذا تلتقون وأنتم على أتم الاستعداد لتمثيل أدوراكم بوصفكم تريدون إحياء الليل. في حقيقة الأمر، نحن لا نحيي الليل، بل نحتال على النهار الذي يحتله. تمامًا كما تتخيل وجه حبيبتك وتسرح في خيالك وأنت تسلم طلبية الزبون. الفارق بين ليالي الأسبوع وليلة السبت يكمن في الوقت المتاح. أنت في ليلة السبت تملك وقتًا متصلًا. في أيام الأسبوع تقتنص الدقائق التي تستطيع اقتناصها للتخلص من سطوة النهار.
الأرجح أن الاحتيال على النهار هو ما تسعى مدينة لاس فيغاس لتحقيقه. في هذه المدينة يبدو الزمن ليلًا متصلًا بكل ما يعنيه الليل الحديث من معان ومسالك.




الأميركيون يحبون لاس فيغاس، العالم كله يعشق لاس فيغاس. هذه المدينة المنبثقة كوهم في صحراء، تَعِدُ زائريها بكل شيء لا يستطيعون فعله في تعايشهم اليومي مع أحوال المدن الحديثة. القاعدة الوحيدة التي يجدر بالزائر اتباعها في لاس فيغاس هي ضرورة الإنفاق. عدا ذلك كل شيء مباح. وهي بمعنى ما نقيض المدن كلها، وواجهتها الخلفية. في لاس فيغاس، ثمة عيش صاخب، لكن أساسياته مصطنعة. ثمة روما تختصر مباهجها وفسقها في فندق، وثمة باريس القرن التاسع عشر في بهو فندق آخر. كل المباهج موجودة في فيغاس، لكن المبتهجين فيها هم هؤلاء الذين قرروا أن يأخذوا عطلة من سعيهم ونضالهم، وأن ينفقوا أموالًا ووقتًا على تخيل أنفسهم غير ما هم عليه. كل نزيل في فندق من فنادق لاس فيغاس هو أوناسيس، ويوليوس قيصر، وكاليغولا، ومارلون براندو. بحسب ما يرغب ويشاء، وأحيانًا يكون هؤلاء كلهم في وقت واحد. لكن تمثل المرء بهؤلاء موقت ومحدود، إذ سرعان ما تنتهي العطلة، ويعود المرء إلى ما كان عليه من سعي والتزام بالقواعد. نجاح فيغاس هو بالتعريف فشل نيويورك وباريس. في فيغاس يفعل المرء ما لا يستطيع فعله في باريس، أو لندن، وفي فيغاس يتحول المرء عن نفسه، ويباشر العالم من أسفله، أي من حيث تنعدم القواعد وتسود المصادفات. فإذا كان العيش في نيويورك، أو لوس أنجلس، يفترض بالناس الانتباه الشديد على نحو يتضاعف يومًا بعد يوم، فإن العيش في فيغاس يفترض بالناس اعتماد الغفلة والاستغراق فيها. وعلى نحو ما فإن المرء يعيش في نيويورك، ولوس أنجلس، برأسه، لكنه يعيش في فيغاس ببطنه، البطن الذي من طبيعته أنه يمنع صاحبه من التحكم بحركته ومتطلباته. في حين أنه يجهد في المدن الحديثة، خارج فيغاس، إلى التحكم المر بالبطن، ومنعه من أن يكون بطنًا. فلا يعود تناول الطعام مسموحًا على الغارب، ولا تبقى مباشرة الجنس متاحة في كل وقت، ولا يعود النوم واليقظة غير محددين بأوقات دقيقة. معظم سكان المدينة الحديثة يتناولون حبوبًا منومة في المساء ليتسنى لهم النوم جيدًا، والاستيقاظ في ساعة الذهاب إلى العمل المحددة، وما إن ينهض الواحد منهم من فراشه حتى يبادر إلى تناول حبوب منشطة تعينه على قضاء وقت العمل، الطويل جدًا، منتبهًا ونشيطًا. في فيغاس، ثمة طريقة أخرى للتعامل مع هذه الحاجات، أن تتناول منشطات لئلا تنام في وقت النوم، وتنام مخدرًا أو سكرانًا في الوقت الذي يجدر بك فيه أن تصحو وتنتبه.
لاس فيغاس هي فضيحة المدن الحديثة، الشاهد المنتصب الذي يؤكد لكل الناس أن الحياة في المدن ليست سوى حكم بالأشغال الشاقة المؤبدة، وأن كل ما يستطيعه المرء ليهرب من هذا الحكم لا يتعدى لحظات قليلة من أحلام اليقظة. في تلك المدينة التي تنبثق من اللامكان، يمكنك أن تشتري حريتك إذا كنت تملك ما يكفي لشرائها، لكن الأمل في شرائها لا بد وأنه يخامر كل ظن ويداعب كل خاطر.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.