انطلق فيلم "الرب يراني" (2024، 90 د) للمخرج طوني نعمة في أول عروضه في مونتريال على أن يسافر خلال هذا الشهر بين المقاطعات الكندية، وقد جرى عرض الافتتاح في الأول من نيسان/ أبريل الحالي بتنسيق مع مهرجان "الفيلم اللبناني في كندا" (LFFC / FFLC) بإدارة مؤسسة المهرجان هايلاف حدشيتي وبحضور ورعاية المطران بول- مروان تابت، راعي أبرشيّة كندا المارونيّة، والمطران ميلاد الجاويش، راعي أبرشيّة كندا للروم الملكيين الكاثوليك، والمطران أنطوان ناصيف، راعي أبرشيّة كندا للسريان الكاثوليك، وعدد من الكهنة وحشد من اللبنانيين. وفيلم "الرب يراني" من كتابة المخرج منير معاصيري حاول فيه أن يضيء على حياة الراهب اللبناني الطوباوي إسطفان نعمة. وقد اعتمد معاصيري في نصّه على كتابين، أحدهما "ابن الضيعة" للأب يوسف خشان، والآخر "في أثر الأخ أسطفان نعمة" للأب إيلي قزي.
منذ انطلاقة الفيلم ثمة اشتغال حميم ومؤثر على الموسيقى التصويرية لنادر خوري، حيث لعبت الموسيقى دورًا أساسيًا في الفيلم مترافقة مع أجواء من الطبيعة الجبلية اللبنانية: حقول وأشجار زيتون وفلاحون وبيوت حجرية قديمة، ما أضفى على الفيلم جوّه الحميم والروحاني. يبدأ الفيلم بمسير الراهب إسطفان نعمة (جوزيف ساسين) بين الحقول بخطوات موجوعة بسبب إصابته في مطلع شبابه بالتهاب العصب الوركي حين حاول أن يقتلع شجرة كانت سببًا في وفاة والده، فقد جرّب والده العجوز اقتلاع جذورها بسبب يباسها ولم يستطع اقتلاعها ما تسبّب في وفاته في ذلك اليوم، وإذ يعد إسطفان نعمة أباه "بوعدك يا بيّ جذع الشجرة للي عذّبك كتير مش رح يبقى مطرحو". ويستخدم المخرج تقنيات متعددة في الفيلم، منها تقنية اللقطة الجوية أو منظور عين الطائر حيث نرى الراهب إسطفان من علوّ، كما استخدم اللقطة القريبة لنصبح على تماس مباشر مع وجه وألم الراهب في مسيرته.
فيلم "الرب يراني" للمخرج طوني نعمة (يمين) من كتابة المخرج منير معاصيري (يسار) (عن صفحة فيسبوك "فيلم الرب يراني") |
ثمة انطلاقة أخرى حيث أن شابًا يُدعى يوسف يخرج من البيت غاضبًا عندما يعرف أن أمه وأباه ليسا والديه الحقيقيين، متوجهًا إلى بلدة "دير كفيفيان" للقاء الراهب إسطفان نعمة حيث أُخبر أنه وحده يعرف الحقيقة. قصة هذا الشاب هي إحدى بصمات الإيمان في حياة الراهب إسطفان، حيث نفهم قصة هذا الشاب في وقت متقدّم من الفيلم.
تقنية الاسترجاع أو الفلاش باك إحدى التقنيات المتعددة التي اشتغل عليها المخرج، فنحن بين الأعوام 1900 و1938 ننتقل من مكان آخر ومن زمن لآخر. ويستخدم المخرجون هذه التقنية لتفسير أحداث الحاضر في الأفلام والمسلسلات عبر الرجوع إلى الماضي. وهي تقنية ليست جديدة بل ظهرت لأول مرة مع المخرج ديفيد غريفيث (1848-1875) في الفيلم الصامت "ولادة أم" (1915)، وقد استخدمها كبار المخرجين أمثال روبرت زيميكيس وفرانسيس فورد كوبولا ويوسف شاهين رغم ندرة الاعتماد بشكل كلّي على هذه التقنية كما فعل المخرج طوني نعمة في فيلمه الحالي، حيث كان الاعتماد على هذه التقنية بشكل كبير دون تغيير في ألوان الصورة، مرتكزًا على ذكر التاريخ في زاوية المشهد ما سبّب نوعًا من التساؤل لدى بعض المشاهدين، وهو ما فسّره المخرج في الحلقة النقاشية بعد عرض الفيلم، إذ تقصّد إدخال المُشاهِد في هذه اللعبة المختلفة عن السائد.
"أما الصبي فكان ينمو ويتقوّى بالروح وكان في البراري إلى يوم ظهوره بإسرائيل"، يعود المخرج إلى الراهب إسطفان صبيًا يستمع إلى أحد الكهنة وهو ينهي درسه الديني بهذه العبارة في مدرسة "سقي رشميّا"، ثم يساعد الصبي أباه وجدّه في الحقل ويساعد أمه (أداء متميز لميراي بانوسيان). ثمة تركيز على الحضور الإيماني في قلب الراهب إسطفان منذ طفولته، "بعرف إنك شبعان من كلمة الله"، يقول الأب لابنه. ويسأل الشاب لاحقًا (شربل رزق بدور إسطفان نعمة شابًا) معلّمه عن الرهبنة والذي يقنعه أن يترهبن، فيحمل أغراضه ليلًا ويتجه إلى "دير كفيفيان" من أجل الرهبنة دون إخبار أمه.
يتجه الشاب المؤمن إلى دير كفيفان طالبًا تسميته على اسم والده "إسطفان" بعد عناء ومشقة وجوع وضياع في طريقه، في إظهار إصراره على الوصول إلى هدفه. وفي إحدى القصص التي يعرضها الفيلم عن هذه الرحلة الشاقة، لقاء الشاب بأحد الناجين من قرية "حاريصا تنورين" من آل يونس، حيث يقدّم ما معه من طعام له. قصة قرية "حاريصا تنورين" حقيقية، حيث هجم عسكر على القرية، فهرب الأهالي إلى الكنيسة؛ أحاط الرجال بالكنيسة وأحرقوها بمن فيها حيث قُتل من كان فيها. ينذر الرجل الناجي من آل يونس أن يبني مزارًا للعذراء مريم يسمّيه "سيدة حاريصا" على نية الذين استشهدوا. وهذا المزار لا يزال موجودًا فوق جبل "حاريصا" في أعلى خليج جونية.
الحوارات الروحانية في الفيلم عديدة، إنها سيرة الراهب إسطفان التي لم تكن سوى مسيرة من الصلاة والصدق والأمانة والعطاء اللامتناهي والإيمان الصادق، ففي إحدى الجلسات لقبول إسطفان نعمة في الرهبنة يقول أحد الكهنة عنه: "ما بسمعو إلا بقول: الله يراني"، في تأكيد على كل الصفات النورانية والأخلاقية التي كان يتمتع بها هذا الراهب.
والفيلم ليس عرضًا فقط لحياة الراهب إسطفان، إنه يحكي عن أحداث متعددة في تاريخ لبنان خلال سرده لحكاية الراهب، هناك عبور لماضي لبنان واستحضاره، تاريخ الموارنة، ومقاومتهم للاستبداد، الحقبة العثمانية، المجاعة التي ضربت لبنان خلال الحرب العالمية الأولى وعن مساعدة الكنيسة للسكان الجياع، وغيرها من الأحداث.
ففي حديث بين إسطفان نعمة صبيًا وجدّه، يخبره الجد أن فرنسا خذلت الموارنة وقبلها خذلهم العثمانيون وكيف قاوموا الطبيعة وعانوا أقسى أيام الاضطهاد والجوع والمرض: "نحن جماعة اختارت للحرية عنوان... يا بدك تسلم وتعيش ذل، يا بدك ترحل وتهاجر... أنا قدامك إنسان حر"، ثم يخبر حفيده الصغير عن الاجتماعات السرية لشباب القرية "لحتى ما ينتبهوا علينا جواسيس المير بشير الظالم، وجواسيس المحتل إبراهيم باشا المصري"، ويخبره كيف قاوموا الظلم والاحتلال في قريتهم "لحفد"... وهذه الأحداث تُعرف باسم معركة أو موقعة "عامية لحفد" في عام 1821 حيث انتفض الأهالي بوجه عسكر الأمير بشير الثاني رافضين الضرائب المضاعفة التي فُرضت على المسيحيين آنذاك. ويُنهي الجد قصته بعبارة "حياتي بختصرها بكلمتين: يا الوطن يا الكفن"، في إشارة إلى مواجهة المسيحيين للاستبداد والإصرار على الحرية.
وفي الفيلم عرض للمجاعة التي ضربت لبنان عام 1915، بسبب الحصار البحري الذي فرضه الحاكم العثماني جمال باشا مانعًا دخول المؤن بحرًا وبرًا، وحيث صادر المحاصيل من أجل الجيش لمحاربة البريطانيين والفرنسيين، يقول أحدهم في الفيلم "ما قدرولنا بالقوة قرروا يجوعونا. في رأس العثمانيين مشروع إبادة للمسيحي وكيف برمت الموت قدامك". الجوعى كثيرون عند مدخل الكنيسة وفي باحتها وعلى أدراجها. رندة كعدي تقترح علينا حزنًا بلا حدود في مشهديات معدودة بكامل الشجن والجوع، وجه رندة في الفيلم انتظار للموت، وحده يوثّق الماضي وذاكرة اللبنانيين في تلك المجاعة وهي تنادي باكية: "نخرني الحزن يا ربي نخرني الجوع، دخيلك يا ربي خدني لعندك". الراهب إسطفان يقترب منها ثم يتجه خارجًا حيث يسمع بكاء طفل في منزل مفتوح على الأسى كله، يرى الطفل باكيًا من الجوع على صدر أمه (برناديت حديب) وهي ميتة، برناديت وجه آخر يوثّق خريطة الجوع بصمت دون أي كلمة، لا تمرين على الحزن هنا، هنا مجازفة بصرية حتى أقصاها تخترق أعماقنا تقدّم كل المعنى للإنسانية.
قال المخرج لاحقًا في الحلقة النقاشية إنها حكاية حقيقية من حكايات الراهب إسطفان إذ يأخذ الطفل من حضن أمه المتوفية بسبب الجوع ويعطيه لأحد أصدقائه الذي ترك الرهبنة وتزوج ولم يُنجبا أطفالًا. هو نفسه الشاب يوسف الذي رأيناه في انطلاقة الفيلم باحثًا عن الراهب إسطفان لإخباره عن والديه الحقيقيين.
ينتهي الفيلم بحوار بين الكهنة عن إعلان دولة لبنان الكبير، يبيّن كيف أن هذه الدولة لم تحقق حلم المسيحيين بأن تكون دولة لهم وحدهم "دون أجسام غريبة". يقول رئيس الكهنة لرفاقه بفرح والكل يصفّق له: "بفرح كبير إخوتي، بدي خبركم إنو اليوم تم إعلان لبنان الكبير، نجح غبطة البطريرك الحويك في أن يقنع أوروبا بحدود لبنان الجديدة. صار لبنان أكبر مما كان. 1 أيلول 1920 هو يوم مجيد وتاريخي".
فيردّ أحد الكهنة ويقول: "بعد إذنك أبونا، أنا بشوف إنو هل الشي للي صار أبدًا مش لمصلحة المسيحيين هللأ وبكل وقت".
- بس لبنان هيك بتزيد مساحتو وبتفيض خيرات كتير علينا.
- يا خي الثروة الحقيقية هي الإنسان، الباقي تفاصيل. بعد 400 سنة من الاحتلال العثماني، الإنسان اللبناني صار عايش بظل الخوف والاضطهاد والذل والقهر، هيدا الإنسان بعد ما الفكر العثماني طعنه بفكره صار بحاجة يرجع لذاته ولأصوله، متل للي بيطعّم شجرته بجسم غريب، ثمر الشجرة بيتغير.
يا بيّ طعمّه بالإيمان، بالمحبة، بيرجع بيزهر.
- فيك تقص الشلح. أأمنلو. هيدا برأيي المتواضع مشروع ميت. لازم نتعلم نرجع نلملم جروحاتنا ونرجع لذاتنا المسيحية... موضوع كبير يدعو للتأمل. أنا قلت للي بفكري... أنا بهل العمر ناطر ربي يبعت وراي إنتو الأيام للي جاي قدّامكن، اتذكروني".
يعيدنا هذا الحوار عن "قص الشلح" إلى بداية الفيلم والجذع الذي تسبّب بوفاة والد الراهب إسطفان نعمة، وتسبّب في تعرّض نعمة لالتهاب مزمن في العصب الوركي، في رؤية بأن لبنان كان يجب أن يكون وطنًا مسيحيًا خالصًا دون "تطعيمه بأجسام غريبة" - فيموت الوطن مثل والد الراهب إسطفان نعمة أو يُصاب بوعكة مزمنة كالراهب نفسه- وذلك تفاديًا لكل مآسي الحروب الطائفية التي مرّت على لبنان، وهو ما زال مستمرًا ومزمنًا.
والحوار هو بلا شك جدال لا ندري إذا كان فعلًا واضحًا آنذاك للمسيحيين يوم خرجوا فرحين بإعلان دولة لهم، لكنه بلا شك وَضَحَ تمامًا فيما بعد ليس بعيدًا عن استقلال لبنان عن الفرنسيين، فقد كانت الحرب الأهلية الطائفية مادة جاذبة تتجلى في فضاءات لبنان منذ خمسينيات وستينيات القرن الماضي إلى أن وقعت عام 1975 وربما لم تنتهِ حتى الآن.
يُذكر أن فيلم "الرب يراني" شارك فيه عدد كبير من أبرز الممثلين اللبنانيين، منهم الراحل حسام الصباح، فؤاد شرف الدين، سعد حمدان، ميشال حوراني، نيكول معتوق، رالف. س. معتوق، جورج حران، عصام الشناوي، عصام الأشقر، جان القسيس، بول سليمان، جوزيف بوخليل، وقد ساهم وتعاون في إنجازه أكثر من 250 شخصًا تقاضوا أجورًا شبه رمزية، إسهامًا في إنجاز تحية لـ "الطوباوي إسطفان نعمة".
من صور الفيلم عن صفحة فيسبوك "فيلم الرب يراني":