}

"نصف قمر": في تذكّر جنازة للغناء والموسيقى

عزيز تبسي 21 مايو 2024
سينما "نصف قمر": في تذكّر جنازة للغناء والموسيقى
لقطة من الفيلم
يكتمل ظهور القمر في منتصف الشهر القمري، ويتحول اسمه من هلال إلى بدر، أو قمر 14، الذي رسخته الثقافة الشفهية لوصف وتكريس الجمال المكتمل، متغافلة عن كون يوم اكتماله، هو بداية لنقصانه، وتلاشيه.

يتعقب فيلم "نصف قمر" (2006) Half Moon للمخرج الكردي الإيراني باهمان قوبادي، الرحلة الشاقة للموسيقي الكردي "مامو"، الذي يعيش في كردستان إيران، ويحلم بإقامة حفل غنائي في قلعة أربيل التاريخية في كردستان العراق، ويتحقق له ذلك بعد سقوط النظام الديكتاتوري. انتظر هذا اليوم سبعة وثلاثين عامًا، هي زمن استيلاء الطغمة العسكرية البعثية على السلطة. وانتظر بعدها سبعة أشهر للحصول على تصريح من السلطات الإيرانية للسفر إلى العراق.

يبدأ الفيلم بمشهد الإعداد لمباراة صراع الديكة، حيث يدير "كاكو" المباراة ويستعرض الرهانات المالية على الديوك، في الوقت الذي يعزف ولداه الموسيقى على الطبلة والأكورديون. يستهل المبارزة بعبارة للفيلسوف الوجودي الدانماركي كيركيغارد: "أنا لا أخاف الموت، لأني عندما أكون هو لا يكون". بعدها ينادي عليه ابنه الآتي من الخارج حاملًا الموبايل، ويطلبه للحديث مع "مامو"، مكالمة كفيلة لانسحابه بطاعة مع ديكيه إلى خارج مكان مبارزة الديوك.

يحاول "كاكو" إقناع سائق حافلة، بنقل فرقة "مامو" إلى أربيل مقابل ديكين، ومقابل معنوي هو دخول السائق في التاريخ، وبعد أن يحصل على موافقة السائق الخائف من مصادرة حافلته لأنها المصدر الوحيد لمعيشة أسرته. يغسل "كاكو" الحافلة، ويثبت كاميرا فوق نافذتها الأمامية، لتوثيق الرحلة التاريخية. يتوجب بعدها على "مامو" جمع فرقته الموسيقية وبعضهم من أبنائه، وإرسال برقيات لأبنَيْه المهاجرين في ألمانيا، ليلتحقا بالفرقة في أربيل، فالأبناء الذين يتحدث "مامو" معهم وعنهم، هم أبناء عائلته الموسيقية.

يسعى في الطريق لضم مغنية ومعلمة في مدرسة ريفية، تبيّن له أن قريتها غرقت بعد انهدام سد، وانتقلت مع طالباتها إلى مرتفع، لتتابع تدريسهم الموسيقى والغناء، فيتركها مع طالباتها، ويوصيها الاستمرار بتعليمهم.

ويعيد المحاولة مرة أخرى بضم المغنية "هشو" التي كانت تغني معه في الفرقة، متجاهلًا اعتراض أبناء فرقته، وتذكيرهم له بقرار السلطة الذي يمنع النساء من الغناء. والمخاطر التي ستترتب على ضمها لرحلتهم، لكنه يرفض، لقناعته أن الغناء لن يكتمل إلا بمشاركة صوت المرأة. ويتجه إلى قرية شيّدت بيوتها في قلب جبل يتوسط الحدود العراقية التركية الإيرانية، كان قد نفي إليها 1334 مغنية، بعد قرار السلطة الإيرانية بمنع غناء النساء.

حمل لقاء "مامو" بـ "هشو" ملامح اللقاء بسجينات، لا زلن محتفظات بدفوفهن وأصواتهن التي صدحت بأغنية، يجري على نغماتها وإيقاعاتها، تحرير "هشو" بواحد من أجمل المشاهد السينمائية، وأكثفها دلالة على انتصار الصوت على سلطة كتمه وخنقه.

تخفى "هشو" في جوف الحافلة، فور انتباه السائق "كاكو" لوجود حاجز عسكري، بمكان يشبه قبر أو تابوت، سيتكرر ظهورهما بأشكال عدة في مشاهد الفيلم، كأنهما تهديد دائم لهذا الاحتفال الموسيقي ورغبة القوى التسلطية في وأده. يصعد ضابط لتفتيش الحافلة، وبعد أن يتأكد من قانونية أوراقهم، يسمح لهم بمتابعة رحلتهم، ليعود بعدها بنصب حاجز جديد لهم زاعمًا أنه جرى خداعه في التفتيش الأول، ويأمر جنوده بضرورة التفتيش الدقيق. يصعد بعضهم لأعلى الحافلة ويرمون الآلات الموسيقية ويكسرونها، ويبلغون رئيسهم بعدم عثورهم على أي مخالفة. حينها يأمر الضابط باستخدام الكلاب التي درّبت على تعقب النساء، وفق تعبيره. وتنجح الكلاب فيما فشل به الضابط وعساكره، ويتم القبض على "هشو"، واعتقالها.

انغمس باهمان قوبادي بالواقع الإيراني- الكردي المعاصر


يغادر الرحلة ثلاثة موسيقيين لأنهم لا يحملون وثائق خدمة عسكرية، رغم تأكيد أحدهم أنه معفي من الخدمة من زمن الشاه، وتأكيد الآخرين على أنهما أديا الخدمة العسكرية من زمن بعيد إلا أن الضابط لا يريد تصديقهم ويطالبهم بالعودة إلى بلدهم لجلب الوثائق التي تؤكد أقوالهم، بإجراءات حاقدة تتذرع بالقانون لإفشال الحفل الغنائي. وتأكيد آخر أن إفشال الحفل الغنائي لم يعد مرتبطًا بالطغمة العسكرية البعثية الآفلة في العراق، وإنما بنظيرتها الطغمة العسكرية الإيرانية التي لا تزال جاثمة على صدور الإيرانيين.

يعاود "مامو" تدريب "هشو" على الغناء بأمل استعادة صوتها الذي فقدته في سنوات الحرمان، وإدمانها التدخين بعد يأسها من العودة إلى الغناء، لكنها تتعثر في استعادة صوتها، وتعلن خوفها على "مامو" وفرقته من الاعتقال بسبب وجودها غير القانوني. يكتشف "كاكو" في الصباح أنها غادرت الحافلة وهربت. 

تضاف لها خيبة أخرى، حين يبلغ أحد أبناء "مامو" وهو يتفحص الكاميرا التي ثبتها "كاكو" بأعلى نافذة الحافلة، أنها خالية من أي شريط تصوير. رغم ذلك لا تفوت المخرج التأكيد على إصرار "مامو" على تجاوز الصعاب والوصول إلى هدفه بالغناء مع فرقته ومغنيته في قلعة أربيل.

تنطلق الحافلة باتجاه قرية "سوراب"، حيث يقيم المغني "كاك خليل" صديق "مامو" لاستعارة آلات موسيقية، عوضًا عن التي حطمها العساكر، وفشل أعضاء الفرقة بإصلاحها، ويعلم حين وصولهم إلى القرية بوفاة صديقه، قبل يوم من وصولهم، وأن أهل القرية الخالية، قد ذهبوا جميعهم إلى دفنه.

يتبعهم "مامو" وفرقته إلى المقبرة، هناك وأثناء وضع الجثمان في الحفرة، يتعالى صوت امرأة تغني مرثية للميت، يتحرك الميت وتفر على الفور حشود المعزين، ويصر "مامو" بعناد لا يفارقه طيلة الرحلة على أن الحياة عادت إلى صديقه "كاك خليل"، وأن صوت المرأة هو ما جعله يتحرك. ويطلب فك أربطة الكفن. ولتدارك هذه الأحجية، يستدعي أبناء الراحل طبيب القرية، الذي يفحص الجثمان ويؤكد وفاته. وهذه سانحة جديدة للمخرج لإعادة "مامو" إلى واقعه الذي يرفض الاعتراف به.

يكتشف "كاكو" وهم في طريقهم الى الحدود، نقصان في عدد أعضاء الفرقة، ليتبين لهم مغادرة ابنه "شاهو" للحافلة وانسحابه من الرحلة. يطلب "كاكو" رأي "مامو" المضطجع في آخر الحافلة ولا يسمعه، بأي المفرقين يتجه، بعدما وصلت الحافلة الى مفترق طرق، يؤدي أحدهما إلى تركيا والعراق والآخر إلى إيران، يرد عليه الأبناء بصوت خافت: عد بنا إلى إيران. يسمعون صوت ارتطام على سقف الحافلة. تهبط عليهم فتاة شابة، تبلغ "مامو" أنها أتت لمساعدته للوصول إلى أربيل، واتفقت مع آخرين لعبور الحدود. وستكون مغنيته، وهي من غنّت في أثناء دفن "كاك خليل"، وأن اسمها "بابولا" وتعني فراشة، وكانوا يدعونها في طفولتها "نيو مانك" أي نصف القمر.

يمضي الأبناء مع المهربين، وتبقى هي مع "مامو" الذي تحمله على حصان، الذي سرعان ما يسقط في الثلج ويخفق بالنهوض. تتركه "بابولا" وتذهب لتطمئن على حال أبنائه، وحين تعود برفقة أحدهم، يجدانه ميتًا في التابوت، وحين تفك أزرار معطفه تجد نوتات الأغاني مدفونة في صدره. يجرّان التابوت فوق الثلج ويتابعان طريقهما إلى الاحتفال.

روى هذا الفيلم حكاية الشعب الكردي المضطهد والمهمش، وأظهر حبه للحياة والتوق إلى ملمس الحرية، إلى عبور جروف الواقع المرعبة وسفوحه الوعرة، عن نساء يحركن بغنائهن الصخور ويحيين الموتى ويعبرن حدود الدول المحروسة.

احتاجت صورته البصرية الآسرة إلى موسيقى تترفق بها، وتحنو على عذاباتها اليومية، فانسدلت موسيقى حسين علي زاده، كغلالة على صوره النازفة وضمتها كضماد روحي حنون. وانغمس باهمان قوبادي بالواقع الإيراني- الكردي المعاصر، كما ظهر في فيلميه "زمن الخيول المخمورة" و"السلاحف يمكنها أن تطير".

لم تستهوه المراكز الحضرية، انطلق إلى الأطراف القومية والمذهبية، ليشتبك هناك بالشروط القاسية التي صنعتها السلطة وأصرت على فرضها، ليقدم صورة واقعية تقارب التوثيق، مطوعًا أدواته بفنية مبتكرة، ويحلق بها إلى أعالي جماليات الحزن والقهر، تاركًا أبطاله يواجهون مصيرهم كقدر لا مهرب منه، رافضًا إنقاذهم باحتيالات درامية. اختار مواكبتهم ومراقبتهم والسير معهم إلى نهاياتهم، كأنما نفر من تقليب ألبومات الماضي، كمحاولة للهروب من مواجهة الحاضر، منحازًا للاشتباك بواقع شعبه بشجاعة وثبات، وعيون مفتوحة، تراقب وترصد، بعقل يقظ، يسخر بهدوء من إعجازات الميتافيزيقيا، التي تأسست على تأويلاتها سلطات الطغيان.

صور فيلمه في ظروف الطبيعة القاسية، الطرقات الوعرة، البرد والأمطار والثلوج والضباب.. مظهرًا تحكمه بالصورة، الألوان والضوء، التباين بين النهار والليل، والاهتمام بالتفاصيل الصغيرة التي تثري المشهد البصري وترسخه في الذاكرة. عالم استوعبه وأبدع به، وبات يشكل هويته السينمائية الفريدة.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.