}

عندما يؤدي مكر الصورة إلى التلاعب بالأذهان

فريد الزاهي 15 يونيو 2024
فوتوغراف عندما يؤدي مكر الصورة إلى التلاعب بالأذهان
يتسلل الإشهار عنوة إلى هواتفنا (Getty)
منذ سنوات خلت، ومع ظهور التجارة الإلكترونية، انتقلتُ من اقتناء الكتب من المكتبات الدولية إلى اقتناء حاجيات البيت التي تندر في أسواق المدينة. كانت العروض بالصور مغرية، والأثمنة محفزة، والأدوات جديدة ومبتكرة، وتتفق كلها على"توفير الوقت والجهد"، وعلى الأثمنة التي تتضمن خصمًا قد يصل إلى خمسين في المئة من ثمنها في المتاجر الواقعية، التي غالبًا ما تكون نائية. تلح أغلب هذه الإعلانات والإشهارات التجارية على الشفافية، وتقدم صورًا وفيديوهات لمنتجاتها، وتكيل المدائح الطويلة لفاعليتها "السحرية"، وتؤكد على الأداء بعد الاستلام، والتحقق من طبيعة المنتج. جربت الأمر مع آلة بلاستيكية للصباغة، فكانت النتيجة كارثية، إذ إنها لم تصمد أكثر من ساعة أمام "فظاظة" حائط سطح بيتي الصيفي، حتى تفتت ولم تعد صالحة للاستعمال. ثم إني بعد ذلك اقتنيت أداة لتسوية كدمات إطار السيارة، فكانت عاجزة عن الالتصاق بالإطار واستعملتها بعد ذلك (ولحدّ اليوم) في التنفيس عن مزراب حوض غسيل الأواني حين يختنق بالأوساخ! أما المنشار الذي يلصق بآلة الحفر فإنه يتراقص، ولا يقطع شيئًا بشكل مستوٍ...
تلكم كانت تجارب خائبة جعلتني أهتم بالطريقة التي يقنع بها العاملون في التجارة الإلكترونية جمهورهم، وأرعوي من اللجوء إليها بالرغم من الحاجة الماسة لمنتجاتها. فقررت العودة إلى طريقتي القديمة في الاقتناء من المحلات التجارية بعد المعاينة المحسوسة، والتأكد من حجم الأدوات، ومن المواد التي صنعت منها.

الصور تكتسح حياتنا

مع الوقت، تكاثرت هذه المتاجر الإلكترونية، وصارت إعلاناتها تكتسح مواقع التواصل الاجتماعي كافة، بحيث إنك ما إن تفتح صفحتك في فيسبوك، أو أنستغرام، أو غيرهما، حتى يحاصرك فيض الإعلانات التجارية والإشهارات لكل ما قد يتبادر إلى ذهنك، أو يغيب عنه. واحذر إن أنت، بدافع من الفضول، أطللت على منتج ما، أو فكرت في النقر على زرّ الطلب، فإن خوارزميات حاسوبك، أو هاتفك النقال، تشكل ذاكرتك وذاكرة أناملك وعينيك. فهي ستبالغ في "إرضائك"، بأن تغرق صفحتك بكافة الإعلانات المشابهة، أو المغايرة أحيانا.
يشدنا الحنين أحيانًا إلى صفحاتنا في مواقع التواصل التي كنا نتحكم فيها بالرغم من أنها كانت سهلة الاختراق. كانت تلك الصفحات أشبه بالتلفزيون القديم، لا نرتادها إلا في نهاية النهار، مثلما لا يبدأ بث التلفزيون إلا في السادسة مساء، وينتهي في منتصف الليل. كانت حصة الإشهار في التلفزيون ضئيلة ومكرورة، يلتهي بها الرضع، وتكون الفرصة لقضاء الحاجة، أو الكلام. كانت صفحاتنا نقية من الشوائب الإشهارية، مثلما كانت المسلسلات والبرامج خلوًّا من أي انقطاع، أو وصلة إشهارية. ولم يظهر ذلك فيها إلا مع ظهور القنوات غير العمومية، وخصخصة القنوات الأوروبية التي كانت تصلنا عبر الساتلايت في الثمانينيات. ومع الوقت، صارت صفحاتنا الشخصية ذكية (مع ظهور الهاتف الذكي)، وأضحت تقترح علينا معارف وأصدقاء جددًا، وتمكننا من التواصل معهم كما مع أصدقائنا ومعارفنا القدامى "مجانًا"، وتدسّ لنا الفيديوهات "الواقعية"، وتتابع فضولنا وتنمّيه، وتتصيّد هفواتنا، حتى غدت تفكر عوضنا وتستبق رغباتنا استباقًا. كنا ندخل صفحتنا ونستهلك جديدها في بضع دقائق، فأضحى الواحد منا اليوم يصارع أمواج الجديد، بمزيج غريب من الأخبار والإعلانات التجارية، ومواقع استعراض الأجساد المكتنزة والعجيزات الفائرة، وما إلى ذلك. لهذا، تنامى الانغماس في الهاتف النقال، وأصبح فضاؤه يشتغل مثل اللاوعي، من خلال الترابطات المنسابة والتشابكات السيالة، وبات الانقطاع له عميقًا والخلوة التامة به وفيه بالغة، والانقطاع عن العالم والمحيط والسياق من الشدة والتحكم، بحيث لا يحس المنغمس بما يدور حوله وكأنه في سبات عميق، أو تحت تأثير مخدر فعال.
في المقابل، كان الإشهار بدائيًا، يعتمد على مكونات وأسس تبتغي الإقناع، يشغّل وجوهًا من الممثلين المعروفين، من غير اهتمام كبير بالجانب الإبداعي والجمالي الذي بدأنا نلاحظه مع تطور تقنيات السمعي البصري والرقمية والتوهيمات البصرية، وغير ذلك مما استخدمه فن الفيديو والسينما قبل ذلك. بيد أن ما نشهده اليوم لا يندرج في هذا السياق، لأن الإشهار أضحى فنًا قائمًا بذاته، له جوائزه الرفيعة في الدول المصنّعة الكبرى، وتصرف فيه ميزانيات خيالية، وغدا بذلك صناعة موازية تستثمر فنونًا بصرية كثيرة، من ضمنها الديزاين، وفن التصوير، والتشخيص، والكتابة، وما إلى ذلك.

الفوضى المتوحشة 

الإشهار الذي يتسلل عنوة إلى هواتفنا وصفحاتنا في مواقع التواصل الاجتماعي يندرج في هذه الفوضى العارمة التي جعلت أغلب الشباب يبحث له عن موطئ قدم في العالم الأزرق: بعضهم بلعب دور الوساطة الفعالة بين المسوقين والـ"جمهور" (المؤثرون)، وبعضهم بإنتاج المحتوى (وهو محتوى لا حدود له ولا ضفاف)، وبعضهم الآخر بالتسويق المباشر من غير حاجة لمحل واقعي، ولا لرقم ضريبي.




إنهم فرسان "السوق السوداء"، أي السوق السرية، ينتشرون في الشبكة العنكبوتية كالنمل، يتبع الواحد منهم الآخر، فلا تستطيع التمييز (إلا في النادر) بين جودة هذا المنتوج وذاك، ولا بين حصافة هذا الخطاب أو ذاك. كان إنتاج خمس دقائق من الصور يتطلب أموالًا وفيرة، أما اليوم، فبهاتف جيد، أو كاميرا رقمية رفيعة، وبعض الإكسسوارات، يمكن لأي شخص أن ينتح مئات الساعات من الصور. أما نشرها فلم يعد يتطلب تأشيرة من وزارة الداخلية، أو دفع المال لبثها، إذ يكفي رميها في أي موقع بطريقة سهلة لا تتطلب إلا بعض التدابير البسيطة. لذلك، لم يعد الوصول إلى الجمهور معجزة، فهو ماثل هنا دومًا وفي كل ساعة من ساعات النهار والليل، ينتظر الجديد من صبيب هاتفه المفتوح على الدوام... الجمهور موجود، وإن لم يوجد يتم ابتكاره بنقرة واحدة...
تدخل صفحتك، فتجد المنتَج المعروض يخرج لك بين منشور صديق وآخر، فتثير فضولك الصورة، أو الفيديو، وقد تريد التعرف فقط على الثمن، فتنصت طبعًا للخطاب المصاحب للصورة، الذي يكون في الغالب تعبيرًا عن مجموعة من الدلالات يمكن تلخيصها في ما يلي: جدة المنتج، لأنه غير مسبوق، وفتح جديد في مجال عائلته من الأدوات، لأنه كان آلة كبيرة تم تصغيرها لتشتغل بشكل فردي، أو لأنها كانت آلة لا يتوفر عليها إلا الحرفيون لكبرها وغلائها، وصار من الممكن التوفر عليها بشكل شخصي للقيام بشكل أفضل بعمل العامل المهني، وربح الوقت والمال، وتفادي مشكلات العلاقة بالمهني العامل؛ فعاليتُه ونجاعتُه لأنه أفضل وأجود، ومردوده أحسن من المعروف من الأدوات السابقة عليه؛ تعددية استعمالاته، فهو أداة واحدة وحيدة يمكن أن تتمتع بقوة تحول وتشكل باهرة، لأنها قادرة على القيام بمهمات متعددة... أخيرًا، وصل هذا المنتج للبلد... هذا ما تعلنه أغلب هذه الإشهارات التي تكتسح هواتفنا... سارع قبل نفاد المخزون؛ الخصم خمسون في المئة... التوصيل إلى عقر دارك؛ الأداء بعد الاستلام؛ وسيتصل بكم عميل (غالبًا ما يكون امرأة، وقد يتصل أحيانًا بعد العاشرة ليلًا حين تخلد للراحة...!) لتوكيد الطلب... إنها عناصر مقنعة ومثيرة وموفرة للراحة والتعب... ومتحضرة لأنها تتبع رياح الوقت...
بيد أن الخطاب اللغوي، مع أنه متسم بالمبالغة، ويقدم المنتَج باعتباره فتحًا جديدًا، لا يشير في الغالب إلى وزنه، ولا إلى المادة المصنوعة منه، عنوة. فمرة، أردت اقتناء سخان كهربائي، لأن برد بيتي الجبلي أضحى يجمد مني الأطراف، بالرغم من استعمالي للمدفأة... فاكتشفت بالصدفة سخانًا "سحريًا"، يبعث الحرارة من جميع الجوانب، خلافًا للسخانات التي تباع في المدينة القريبة، والتي يلزم توجيه باعث السخونة منها يدويًا. كان السخّان يبدو في الصورة كبيرًا. تخيلته على الأقل يجاوز الستين سنتمترًا علوًا، والثلاثين عرضًا. وتخيلته مصنوعًا من صفائح الحديد. وإذا بي، حين تسلمته من ساعي الطرود، أجد نفسي أمام طرد قزم. ومن هول المفاجأة أطلقت ضحكة صاخبة، وهرعت إلى فتحه، فبدا لي حجم السخان نصف ما تخيلته في ذهني بفعل الصورة التي قُدمت له في الإشهار، بل إنه كان مصنوعًا من صفيحة من الرقة، بحيث يمكنها أن تعوج بمجرد الإمساك به.... فنفحت الساعي ما سيشرب به قهوة، معتذرًا له، وطالبًا منه إعادة الطرد إلى أصحابه. ثم توجهت لاقتناء سخان بالغاز، كما ذلك الذي رافقني سنينًا طويلة في برد الشتاء في ما قبل، مقتنعًا أن عبقرية المنتَج الجديد ليست في مستوى صلابة ودقة صناعته. فأغلب ما يباع من هذه الشاكلة يذكرني باللعب والأدوات البلاستيكية ذات المصدر الصيني التي تملأ الأسواق القروية والشعبية...
حين يقدم المنتج بإضاءة معينة، وبلقطات مدروسة (مقربة، أو وسطى)، ومن غير مَعْلَم مرجعيّ ينبئ بحجمه، لا يمكن التكهن بشكله الفعلي. فنحن اعتقدنا طويلًا أن مارلين مونرو امرأة طويلة القدّ كما تظهر في صور أفلامها، مع أنها من أقاصر النساء في تاريخ السينما... ونحن لا نشك اليوم في أن الصور الإشهارية الرقمية تمتح فاعليتها من طرائق صنعها وتغييرها وتحسينها، ومن المؤثرات الرقمية التي تحول المنتج إلى كيان ساحر وفاتن ومعجز، مع أنه يقدم بثمن لا يضاهي قط قيمته السحرية الفعالة...
عودنا هاتفنا الذكي على الكسل، وزاد من حركة أناملنا واشتغال عيوننا وذاكرتنا البصرية. لذلك صرنا مؤهلين لنتعامل عاطفيًا مع الإشهارات، ومع صورها الماكرة. إنها تشتغل على استعدادنا وهشاشتنا الناجمة عن احتياجاتنا، كما على رغبتنا في ربح الوقت والاقتصاد في المصاريف. وهي حين تمزج الخطاب الماكر بالصور الماكرة، تتلاعب بإدراكنا وتصيب منا عواطفنا، وتعطل تفكيرنا الواعي والنقدي. إنها تخلق فينا الرغبة في الاستهلاك والاقتناء، ولا تترك لنا فرصة للتفكير. وهي حين توظف تعليقات وهمية عن فاعلية المنتَج وعن نجاعته توهمنا بحقيقة لا يؤكدها إلا أشخاص وهميون ومفترضون. لقد صار كل شيء ممكنًا في الشبكة العنكبوتية، من الزواج والطلاق، إلى المتعة العابرة، مرورًا باقتناء كل الحاجيات اليومية والشخصية. بيد أن فضائح عدد من المواقع، مع أن الزمن والنسيان يطويانها، والخيبات المتكررة التي يعيشها الناس من التعامل عن بعد من غير أن يواجهوها، إن كان يخلق فرصًا للعمل، وإيقاعًا جديدًا للعلاقات والروابط الاجتماعية، فهو أيضًا مجال سائب لا يخضع للمراقبة، نكون نحن أولى ضحاياه...

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.