}

في الحاجة إلى فكرٍ مُركَّب

فريد الزاهي 5 أكتوبر 2024
آراء في الحاجة إلى فكرٍ مُركَّب
يستقي الفكر المركَّب مشروعيَّته الراهنة من الطابع المركَّب للمجتمعات
ثمَّةَ تحوُّلاتٌ سياسيَّةٌ وجيوسياسيَّةٌ وثقافيَّةٌ وتكنولوجيَّةٌ متسارعةٌ قلبت أوضاع بلداننا العربيَّة رأسًا على عقب، من غير أن تواكب ذلك بشكل واضح تحوُّلاتٌ في المواقف والفكر والثقافة تكون في مستوى تعقُّدها. فلقد عرفت حياتنا اليوميَّة وأنماط تواصلنا وعيشنا واستهلاكنا العديد من التغيُّرات، فيما ظلَّ إنتاجنا الفكريُّ والثقافيُّ بعيدًا عن وتيرة استشراف التغيُّرات المنتظرة الملائمة لها. بالمقابل، تعيش المجتمعات العربيَّة، منذ خيبات الربائع العربيَّة وآثارها المدمِّرة التي لم تكن أبدًا في الحسبان، العديد من أنواع النكوص الفكريِّ والسياسيِّ. وأضحت هذه الانتكاسات مصدرًا لمتخيَّلات فكريَّة وثقافيَّة مناقضة للمتخيَّلات التي عاشتها أجيال النصف الثاني من القرن العشرين.
إنَّ هذه الاستبدالات الانتكاسيَّة التي عرفتها المجتمعات العربيَّة، بشكل واضح في العقدين الأخيرين، يوازيها بالمقابل تجذُّر متنامٍ للقوى الداخليَّة والخارجيَّة التي تعيش معها صراعًا تاريخيًّا، خاصَّة في الشرق الأوسط (الحركات الجهاديَّة، إسرائيل). وهذا التطوُّر ما كان له إلَّا أن يغيِّر مصادر الرهانات الجيوسياسيَّة ومعها مصادر الفكر السياسيِّ الذي ينتظمها. فما ظلَّ لمدَّة حركات وظواهر هامشيَّة في العقود السابقة تحوَّل إلى قوَّة مركزيَّة، وما كان قوَّة مركزيَّة تحوَّل إلى هامش. هذه المفارقة التاريخيَّة خلخلت بنية "الفكر العربيِّ"، كما كنَّا نتحدَّث عنه ونعيشه سابقًا، بل أوهنت جماح منطلقاته التي عرفت التفتُّت والاندحار. وهو ما خلق ضربًا من التيهان والجمود والفراغ الفكريِّ ونوعًا من الأرخبيليَّة الفكريَّة والثقافيَّة التي أضحى يحتمي بها المفكِّرون. على المستوى البنيويِّ، تحوَّلت النسقيَّة الفكريَّة التي عهدناها إلى جزر فكريَّة لا تحتمل الأحاديَّة الفكريَّة، بل تشجِّع على الانتقائيَّة والسيولة الفكريَّة والتنقُّل بين المواقع والمواقف بشكل يثير فينا الدُّوار أحيانًا.

وضع مركَّب وتحوُّلات متسارعة
حين أطلق عالم الاجتماع المغربيُّ بول باسكون في الثمانينيَّات مفهوم المجتمع المركَّب وضع الإصبع على الخاصِّيَّة الأساس التي تميِّز مجتمع المغرب ومعه (بالتعميم الممكن) مجمل المجتمعات العربيَّة. فالتعايش بين أنماط إنتاج مختلفة (قديمة وحديثة ومعاصرة) وتزامنها أمر لا زال قائمًا لحدِّ اليوم: "يبدو أنَّ ثمَّة تداخلًا للمجتمعات التاريخيَّة المتوالية لا يبقى منها إلَّا بعض الجوانب، تكون امتدادًا حيًّا لمجتمع سابق، أو إرهاصات مجتمع في طور البناء؛ وهي مجتمعات، حين نضعها في سياقها، تملك كامل دلالتها. ولأنَّ عمليَّة التنحية أو الاستبدال تكون اختلافيَّة، ينجم عن ذلك التعايشُ بينها: فأحيانًا، ما يتطوَّر في الأوَّل هو الأدوات والتقنيَّات، وأحيانًا أخرى هي العلاقات الاجتماعيَّة، وما يتطوَّر أحيانًا أخرى هي المؤسَّسات والتشريعات والعقود، والثقافة والعوائد والسلوك والمواقف، والمعتقدات والعلامات والأيديولوجيا والطقوس أو السلوك الإنجابيُّ، وغيرها" (مجلَّة لاماليف، ع. 17، 1967). بل إنَّ هذا الطابع المركَّب ازداد حدَّة وبرزت مفارقاته بشكل صارخ في الألفيَّة الجديدة مع هيمنة العولمة وأنماط الإنتاج الرقميَّة الجديدة والمتخيَّلات الجمعويَّة المتَّصلة بها. من ثمَّ فإنَّ صار انتماء الفرد إلى قبيلة وجماعة واقعيَّة محلِّيَّة لا ينفي أبدًا انتماءه إلى قبيلة أو جماعة عولميَّة جديدة مبنيَّة على التواصل الافتراضيِّ. وهو يعيش الزمنيتيْن معًا بشكل مركَّب لا يبدو له متنافرًا أو متناقضًا. في الوقت ذاته، وعلى المستوى الفكريِّ والفلسفيِّ، كان عبد الكبير الخطيبي يسبح ضدَّ تيَّار العقلانيَّة الرشديَّة (الجابري) والعقلانيَّة الهيجليَّة (العروي)، منظِّرًا لهذا التعدُّد الاجتماعيِّ والثقافيِّ بفكر مغاير يكون فكرًا متعدِّدًا ملائمًا لمجتمع متعدِّد بدوره.
لقد كان الخطيبي على وعي تامٍّ بأنَّه يشكِّل جزيرة في ثقافة كانت لا تزال متأرجحة بين التقليد وميتافيزيقاه، وبين حداثة عقلانيَّة (ماركسيَّة واشتراكيَّة وليبراليَّة) تربَّى في حضنها ليهجرها تدريجيًّا في وقت مبكِّر. فقد أدرك هذا المفكِّر بأنَّ تحطيم هذه الازدواجيَّة يقوم على امتلاك التراث والحاضر والمستقبل في السيرورة نفسها، لا من خلال عقلانيَّة تاريخانيَّة (العروي)، ولا من خلال انتقائيَّة عقلانيَّة حداثيَّة تقصي المكوِّنات الأخرى من تصوُّف وغيره (الجابري).




إنَّه الطريق الثالث البينيُّ الذي سعى إلى تثبيته من خلال مفهوم النقد المزدوج، ثمَّ من خلال مفهوميْ البيْنيَّة والآفاقيَّة. النقد المزدوج هو أوَّلًا تركيبة بلوريَّة كما يحلو له أن يقول (أي منظوريَّة)، إذ هو نقد للذات والآخر في الحركة نفسها، ينهض على خلخلة مفهوميْ الهويَّة العمياء والاختلاف المتوحِّش، وإرساء هويَّة اختلافيَّة تقوم على التعدُّد اللسانيِّ و"العرقيِّ" والثقافيِّ والتاريخيِّ، وترصد هذا الاختلاف في الذات قبل الآخر. النقد المزدوج بهذا المعنى ليس نقدًا تحطيميًّا بقدر ما هو نقد تفكيكيٌّ. ونحن يمكننا هنا أن نقارب من غير عسف بين المفهومين، لأنَّ النقد الذي مارسه الخطيبي، وإن كان أحيانًا سجاليًّا، فهو كان في الآن ذاته تفكيكيًّا. والخطيبي يصرِّح أنَّ مفهوم تصفية الاستعمار كما صاغه في دراساته السوسيولوجيَّة مقابل لمفهوم التفكيك الديريديِّ، في معناه كتفكيك للمعرفة الكولونياليَّة. ونحن هنا نعتبر أنَّ مفهوم النقد المزدوج هذا ينصهر أيضًا في مفهوم التفكيك، وبشكل أكثر جذريَّة. أو لنقل بالأحرى، إنَّ النقد المزدوج هو الأداة المنهجيَّة والمعرفيَّة لممارسة التفكيك باعتباره في الوضعيَّة اللاكولونياليَّة تصفية للاستعمار: "التفكيك، باعتباره تقويضًا للميتافيزيقا الغربيَّة، وكما مارسه ديريدا بطريقته المتفرِّدة جدًّا، صاحَب تصفية الاستعمار في حلولها التاريخيِّ. ونحن نعلن هنا بعض آثار هذا اللقاء، الذي ليس قطُّ نتيجة الصدفة، بين تصفية الاستعمار والتفكيك" (طرق مختصرة، ص. 113).
يستقي الفكر المركَّب مشروعيَّته الراهنة من الطابع المركَّب للمجتمعات العربيَّة. وهو بذلك لا يمكن إلَّا أن يقوم على منظوريَّة perspectivism تحليليَّة وفكريَّة، لا يلزم أن نخلط بينها وبين النسبيَّة، لأنَّها تقوم على تعدُّد المنظور والرؤية وزوايا النظر. ولدى الخطيبي، كما لدى باسكون وفي ما بعد إدوارد سعيد، ثمَّة حضور للذات والآخر، وللتراث والحاضر والمستقبل. إنَّه فكر متعدِّد ومغاير (كما يسمِّيه أحيانًا) ومستقبليٌّ. ونصُّه الحكائيُّ الأخير (عجائب مكائن متحوِّل) هو حوار مع روبوت، يستحضر من خلاله التحوُّلات التقنيَّة والرقميَّة الجديدة على طريقته ليؤكِّد فكرًا إنسيًّا جديدًا لا زلنا بحاجة لمساءلته.

من الأحاديَّة إلى التعدُّديَّة المنفتحة
لا مراء في أنَّ التحوُّلات الفكريَّة العميقة التي عرفها التفكير الفلسفيُّ والممارسة النظريَّة للعلوم الإنسانيَّة قد قلَّصت الفوارق بين التخصُّصات. فالفلسفة لم تعد فلسفة بالمعنى التقليديِّ بل تلبَّست لبوس العلوم الإنسانيَّة، وأضحت تسائل بطريقة مختلفة مجمل القضايا الاجتماعيَّة والنفسيَّة والذاتيَّة. والفوارق بين علم الاجتماع والتحليل النفسيِّ والأنثروبولوجيا أضحت من الضحالة بحيث هيمن التداخل والتمازج والتفاعل بين هذه المباحث. هكذا، ومع اندحار التصنيفات العقلانيَّة، ومعها مفاهيم "العلميَّة والموضوعيَّة"، وانحسارها في مجال أكاديميٍّ يعاني من التكرار والنمطيَّة، بات الانفتاح باراديغما جديدة تنتظم تطوُّر الفكر والعلوم الإنسانيَّة وتسير بها نحو الشبكيَّة. وصار ادِّعاء الانعزال التخصُّصيِّ ضربًا من العماء النظريِّ والفكريِّ الذي يرى العالم بعين واحدة.
إنَّ المفارقة الكبرى التي يعيشها الفكر العربيُّ اليوم تتمثَّل إمَّا في انغماسه الكامل في العقليَّة التراثيَّة أو انسياقه الأعمى وراء النظريَّات التي يستقيها من الفكر العالميِّ. فما يسمَّى نقدًا ثقافيًّا وجندريَّة ونظريَّات ما بعد استعماريَّة أو لاكولونياليَّة، إن كانت تبلور منطلقاتها من مصادر متنوِّعة وتقوم على فكر نقديٍّ، فإنَّها تظلُّ مشدودة إلى دائرة موضوعاتها المفضَّلة. وهو ما يحوِّلها إلى منظورات جهويَّة تهتدي بمنهجيَّتها الخاصَّة ولا تبيح للفكر أحيانًا إمكان الانفتاح على المستجدَّات الثقافيَّة والاجتماعيَّة. إنَّها بذلك تغدو صيغًا جديدة للتصوُّرات الأيديولوجيَّة التي أفرزها الفكر في أواسط القرن العشرين. والحقيقة أنَّ طابعها النقديَّ يجعلها تتقاطع في تعدُّديَّة مصادرها من غير أن يكون طابعها ما بعد الحداثيِّ مبرِّرًا لنسيانها للتراث مثلًا، ولما يمكن أن ينسج علائق فكريَّة مبتكرة بين الماضي والحاضر والمستقبل. كما أنَّ الطابع الصارم لبعض النظريَّات النسويَّة يحوِّلها، بالرغم من مشروعيَّة قضاياها، إلى منظور انعزاليٍّ غير منفتح على قضايا أخرى لا تقلُّ أهمِّيَّة من القضيَّة المحوريَّة التي يتبنَّى الدفاع عنها. ولعلَّ هذا ما يفسِّر لنا أنَّ أتباع هذه النظريَّات في عالمنا العربيِّ، يلجؤون إلى القلعة الأكاديميَّة لتفريخ الأتباع وتصريف منظوراتهم. فهم خارج أسوار الجامعة لا يجدون لفكرهم التربة الخصبة الملائمة. وهم بذلك يفرِّخون أتباعًا يطبِّقون خطاطات فوقيَّة على النصوص والوقائع. فهمُّهم الأساس إبراز تميُّزهم لا متابعة المتحوِّل الذي يجاوز بكثير مناهجهم وتوقُّعاتهم.
من ثمَّ، وكما أنَّ الفكر المركَّب ليس تسيُّبًا نسبيًّا، كذلك نراه فكرًا أبعد عن السيولة التي تسم العديد من الكتابات الفكريَّة المعاصرة محوِّلة إيَّاها إلى "أدب" أو أدب موازٍ. فهو فكر يحاور كلَّ ما جادت به العقود الأخيرة من نظريَّات من غير أن يغمض الطرف عن أحاديَّتها، ويصغي لنبض الماضي والحاضر والمستقبل في حركة واحدة منفتحة. إنَّه فكر الاستمراريَّة الذي لا يؤمن بالقطائع القاصمة وإنَّما بالتموُّجات التي تجعلها أقرب إلى استيعاب الجديد المتسارع بفكر منظوريٍّ يقظ لا ينسى ما يؤسِّس وجوده المحلِّيَّ ولا يتناسى عبق أرضه ورائحتها.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.