}

"إلى أرض مجهولة": في توازن السياسي والإنساني

سينما "إلى أرض مجهولة": في توازن السياسي والإنساني
ملصق فيلم "إلى أرض مجهولة"
في جديد الفلسطيني مهدي فليفل "إلى أرض مجهولة"، الروائي الأول الطويل في مسيرته السينمائية، لا ينطلق المُخرج وأبطاله من أرض مجهولة أبدًا. ربما يتجه وأبطاله، كل في مُغامرته الخاصة، صوب وجهات مُختلفة، مجهولة أو معلومة، لكنها ستظل، في النهاية، وجهات قسرية، ومناف مُؤقتة، طال المقام فيها أو قصر. إذ، لا بد من قدوم يوم تتوقف فيه حياة الشتات والضياع والمنافي. المُؤكد أنه حتى ذلك الحين لن يكف مهدي فليفل عن رصد ومُعايشة ومُتابعة أحوال وظروف أهله وأناسه وأبطال أفلامه من منفى إلى آخر، سواء كان هذا المنفى على هيئة مُخيم لاجئين، أو في قبو بناية مجهولة في دولة أوروبية نابذة لكل مُهاجر، أو منفي، أو عابر، سيما لو كان فلسطينيًا.
من بين جُملة الأفلام المعروضة في الدورة الـ77 لـ"مهرجان كانّ السينمائي الدولي"، وبناء على مُشاهداتِنا، وغيرنا، من النُقاد العرب، أو الأجانب، يُمكن التأكيد وبقوة على أن "إلى أرض مجهولة" المعروض في برنامج "أسبوعا صُناع الأفلام"، من بين أكثر الأفلام الروائية اكتمالًا وفنية ومُتعة وتشويقًا ومصداقية. ليس لكونه فيلمًا فلسطينيًا يستوجب الدعم والتأييد والتعاطف والتآزر، وغير ذلك، بل لأنه بالغ الجودة، فنيًا وسينمائيًا، وإنسانيًا أيضًا.
يتتبع "إلى أرض مجهولة" الرحلة المُروعة للشابين المُغتربين شاتيلا (محمود بكري) ورضا (آرام صباح). وهما أبناء عمومة فلسطينيان، يجدان نفسيهما عالقين في أثينا، بعد فرارهما مُن مخيم في لبنان (بالتأكيد مُخيم عين الحلوة). يعيشان معًا في قبو مجهول ببناية منذ فترة لا نعلم مداها. وذلك خلال سعيهما اليائس لإيجاد وسيلة ما للوصول إلى ألمانيا.
عندما يأتي شاتيلا بخطة مُفصلة لجلب الأموال اللازمة لهروبهما، بدلًا من السرقة العرضية من المارة أو الجالسين في الحدائق والساحات، تكفيهما لتدبير أمر الجوازات المزورة، تتسارع وتيرة الفيلم ونوعية المخاطر أيضًا، لأن أي عقبة قد تؤدي إلى السجن والترحيل، أو الموت. تتمثل الخطة في تهريب مالك (محمد الصرافة)، وهو صبي شجاع من غزة (نموذج للغزيين ومصائرهم المجهولة المُعلقة مُستقبلًا)، يريد الوصول إلى إيطاليا ليعيش مع عمته، بعدما أوهمه المُهربون بهذا، وضحكوا عليه، وتركوه بمفرده في أثينا. في تلك الأثناء، تظهر في الصورة اليونانية السكيرة الجشعة، تاتيانا (أنجليكي بابوليا)، المُعجبة بشاتيلا. تمثل مشاركتها بداية أمل لتسفير الصبي معها باعتبارها والدته، وبذلك يربح الجميع المال من العمة المُنتظرة قدوم مالك إلى إيطاليا. المأساة أنه لا يوجد مخرج سريع إلا عبر ما هو غير مشروع. وبإخفاق عملية التهريب، يبدأ فصل آخر، جذاب ومُفجع، نُعاين فيه مُحاولة أخرى للاستيلاء والنصب ضحيتها مجموعة من اللاجئين السوريين الراغبين في الوصول لأوروبا.




رغم تعدد القصص إلا أن الفيلم يتعمق في إبراز تناقض الشخصيات ومدى قدرتها على التمسك بالأحلام ومُحاولة تحقيقها أو انهيار الروح، ومن ثم الجسد، في النهاية. رغم الندية بينهما، أحيانًا، إلا أن شاتيلا يظهر كقائد ومبتكر بالفطرة، بينما يميل رضا إلى اتباعه، وغالبًا ما ينتظر دعمه وتوجيهه. العلاقة مُقنعة في ما يتعلق بديناميكيات التناقض بين جرأة شاتيلا وتفكيره الاستراتيجي مُقابل طبيعة رضا الأكثر ترددًا وامتثالًا. شاتيلا هو الذي يصمم خططهم، بما في ذلك حلمهم الأكبر بالمغادرة إلى ألمانيا. في حين دائمًا ما يحيد رضا عن مساره، ولا يُجيد التصرف بمفرده. يتجلى هذا في سرقة الحذاء، مثلًا. كما تظهر نقاط ضعفه جلية في هشاشته أمام إدمان المخدرات. ومُمارسة التدعر، أحيانًا. يتناقض تركيز شاتيلا الثابت على هدفه، وميول رضا للتدمير الذاتي. يرسم هذا التناقض صورة مؤلمة لكفاحهما من أجل البقاء، والحفاظ على الأمل، في ظل بيئة وظروف وأوضاع تتحدى إرادتهما بلا رحمة أو هوادة.
يتجلى صدق الشخصيات وعمقها عبر تصرفات كثيرة نراها، خاصة عندما تتعارض الأفعال مع فطرتها ومعدنها الأصلي، فتنكشف الفروق الدقيقة التي تجعل منهم شخصيات حقيقة من لحم ودم، وليست أُحادية البُعد. وكيف أنها ضحية حياة وأوضاع ومصائر، وليست مُجرد أصداء لمُخرج ينسج من خلالها ميلودراما، أو ادعاءات يستدر من خلالها العواطف والمشاعر ويتاجر بها. لذا، يُقدمهما فليفل كفردين مُعقدين ومُتعددي الأوجه والخصال والمناقب. أيضًا، كأي بشر، يسعيان إلى غد أفضل. لديهما عائلات وآمال واحتياجات مُلحة تتجاوز رفاهية مُجرد الرغبة، أو التطلع لأن يكونا في مكان وأوضاع أفضل. هنا، يتيح لنا وضعهما التفكير أيضًا في القضايا الاجتماعية والسياسية الأوسع المُتعلقة بالهجرة والنزوح، ومصير اللاجئين والنازحين والمُشردين، بصفة عامة.

مُفردات سينما فليفل
كتب مهدي فليفل سيناريو "إلى أرض مجهولة" بالاشتراك مع المخرج المغربي فيصل بوليفة، وكاتب السيناريو البريطاني جيسون ماك كولجان. وذلك رغم أن الفيلم وأحداثه ومُفرداته وسماته وخلفياته "مهدية" حتى النخاع، وتؤكد على أن المُخرج لم يكن في حاجة إلى مُساعدة لتأليف وصياغة ونسج سيناريو وحوار فيلمه، لكنه نهج المُخرج الواثق من قدراته، غير المستنكف المُساعدة، أو الاستئناس بالآخر، ووجهة نظره ما دام الأمر لصالح العمل في النهاية.

مهدي فليفل 

المثير أن بصمة فليفل حاضرة وبقوة في كل تفاصيل الفيلم، بلا استثناء، تقريبًا. يُؤكد على هذا الحضور البارز والشديد لمفردات وعوالم سينما مهدي فليفل التي نسجها على مهل، على مدى سنوات، العمل تلو الآخر، وجعلنا نألفها ونعتادها. من بين المُفردات التي عايناها في أفلامه الوثائقية الطويلة أو القصيرة، وكانت لافتة للانتباه جدًا في جديده أنّ ثمة جرأة ملحوظة، في أكثر من مستوى، يندر وجودها في الأفلام العربية. مثلًا: ترك اللعنات والسباب والشتائم، وغيرها، من دون حذف، أو تجميل، أو تذويق، أو حتى إخفاء ومُداراة لها. ينسحب هذا على الأبطال والشخصيات أيضًا. إذ، رغم إيغاله في تقديم عوالمها القاسية والمُظلمة والمسدودة الأفق، لا يستنكف مهدي أبدًا عن تعرية ضعفها وفضحها من دون تردد. ومن ثم، نجد منها المُطارد، أو المُلاحق، أو المطلوب للعدالة، أو النصاب، أو اللص، أو الداعر، أو حتى مُدمن المُخدرات. في هذا، لا يُجَمِّلُ فليفل صُوَر أبطاله وشخصياته وواقعهم، وفي الوقت نفسه لا يُصدر عليها أحكامًا قيمية، أو أخلاقية، أو دينية، أو غيرها. إذ يكتفي بالرصد والتأمّل، وتقديم صورة صادقة وجريئة للواقع، مهما كانت بشاعته.
أما على مستوى الأفكار والهموم، فثمة ذِكر دائم، أو حضور عيني، للمُخيم والمنفى والترحال والتشرد، كما الفقدان الدائم للاتجاه، ومن ثم هاجس البحث عن ملجأ، أو منفى بديل، ناهيك بالحنين للوطن والآخر، ونشدان الاستقرار المكاني، سعيًا لآخر مادي ونفسي وعاطفي وأسري. أما الهوس بتغيير الأحوال والأوضاع المعيشية غير المرضي عنها، والتمرد على الواقع، والخوف من انسداد الأفق وظلام المستقبل، كلها تستبد بالشخصيات على اختلاف مسمياتها وأماكنها وأحوالها. وإن تجسدت كلها، في النهاية، في الاسم الرمزي الحاضر دائمًا في سينما فليفل، "رضا". أيضًا، نلاحظ في ما يتعلق بالحضور المكاني المتكرر الإتيان على ذكر المُخيم في لبنان، (عين الحلوة)، صراحة أو مُواربة. كذلك، التواجد في اليونان، والعودة لشوارع أثينا، ثانية.
أيضًا، تحضر الرموز السياسية والأدبية الفلسطينية، سواء لغرض في نفس المخرج، أو لدور فني، أو جمالي، أو غيرهما. يفتتح الفيلم بعبارة للمُفكر الفلسطيني إدوارد سعيد: "قدر للفلسطينيين ألا ينتهي بهم الأمر حيث بدأوا، بل في مكان غير مُتوقع وبعيد". ثم، عرضًا، تُلقي إحدى شخصيات الفيلم بأبيات لمحمود درويش من قصيدته الشهيرة "مديح الظل العالي"، تُبرز وتُذَكِّرُ وتُحيل للوضع الراهن في غزة، حيث "لا الماء عندك، لا الدواء، ولا السماء، ولا الدماء، ولا الشراع، ولا الأمام، ولا الوراء"... إلخ. يحضر، أيضًا، التواصل الصوتي أو الحكي مع الغائب تليفونيًا. عادة ما يكون الآخر الزوجة، أو الحبيبة، أو الأهل، وغالبًا ما يتمحور الحديث حول الأحوال المعيشية والظروف الصعبة، والتحلي بالصبر، والهاجس الدائم بلم الشمل، أو الالتحاق بالآخر والاستقرار معه، سواء كان الآخر زوجة، أو أولاد، أو عائلة.
من بين المألوف أيضًا في سينما فليفل، وكان له حضوره البارز في "إلى أرض مجهولة" القصة المُتعلقة بسرقة الحذاء الرياضي الجديد من محل الأحذية. وكأن فليفل يُريد أن يذكرنا، من حين لآخر بأنني أنا هذا المُخرج الذي ما يفتأ ينشغل بأهله وناسه وأبطاله، ويُعيد تقديم حكاياتهم القديمة، أو الموضوعات نفسها والعوالم والأفكار والأسماء والمواقف، ولا مجال أمامكم لنسيان عالمي، أو الفرار منه. نعم، أنا من يُكرر نفسه وعوالمه بطرق وأساليب مُختلفة. نعم، أنا مُخرج الفيلم الواحد، وإن تعددت الأدوات والوسائل. نعم، أنا المُخلص لكل هذا، وسأظل.




أيعني هذا أن مهدي يكرّر ما أنجزه سابقًا، كمبدع خوت جعبته، وصار بليدًا، يعجز عن الإتيان، أو إضافة أي جديد. المُثير في ما يتعلق بفيلم "إلى أرض مجهولة" أن الأمر على النقيض من هذا تمامًا، إذ حتى بالنسبة لمن على وعي ودراية بأفلام فليفل السابقة، لن يشعر بأي تكرار لأفكار، أو لشخصيات، أو بالملل. وذلك لأننا إزاء فيلم منسوج بإحكام، مُقنع وصادق، ومُكتمل العناصر. فيلم يصعب جدًا وصفه بأنه عمل أول لمُخرجه، أو فيه الأخطاء المُعتادة في الأعمال الأولى، أو المشاكل التي تبرز عند انتقال المخرج من الوثائقي إلى الروائي. بالعكس، تجلى هذا في الأساس في حُسن إدارته للمُمثلين، وخلق الجو العام المُقنع، استنادًا إلى أدوات وفنيات وجماليات الفيلم الروائي.
سابقًا، لم يكترث فليفل كثيرًا، أو لم يحرص على تدقيق وتنميق وتجميل صور ولقطات ومشاهد أفلامه، وضبط الأحداث وتصرفات الشخصيات بصفة عامة. كان في هذا بعض التعمّد بالتأكيد، تجلّى في عدم الاكتراث مثلًا بزوايا التصوير والإضاءة، ودرجة النقاء والوضوح، وترك مساحة لعفوية المُمثلين والارتجال. ناهيك بحدة المُونتاج، وابتعاده عن السلاسة والنعومة، قصدًا. في "إلى أرض مجهولة" لا مجال لكل هذا. الاشتغال البصري على الصورة وجودتها مع المصور السينمائي تودوريس ميوبولوس جد ملحوظ. انتقاء اللقطات، والانتقال بينها، وزوايا التصوير المقصودة، كلها لم يكترث بها المُخرج كثيرًا سابقًا. كذلك، يُلاحظ استغلال الديكور وتوظيف الإضاءة، سواء في تنفيذ المشاهد الداخلية، أو الخارجية. يسبق هذا كله تصوير الشخصيات باحترافية تزيد حيويتها وأبعادها وأعماقها، من دون ترك أي مساحة للارتجال، أو العفوية، أو تهاون ما، يخل بانضباط الأداء التمثيلي الذي يُعد من أجمل الجوانب في الفيلم. ما يُؤكد على تمكن المُخرج من أدواته، وتمرّسه فعليًا في استخدامها. يكفيه تقديم وإبراز الوجهين السينمائيين الموهوبين والمُقنعين جدًا، محمود بكري، وآرام صباح.

حضور السياسة
سياسيًا، وبعيدًا عن أية فنيات، يُحقق "إلى أرض مجهولة" التوازن المثالي بين السياسي والإنساني بفنية عالية، إذ يُطلق كلمته القوية من دون نبرة زاعقة، أو مُباشرة، وبلا ميلودرامية، أو خطابية، أو توجيه اتهامات وإدانات. وذلك رغم الحضور القوي والبارز للقضية الفلسطينية من خلال أزمة الهجرة واللجوء والمنفى، والمنسوجة بسلاسة في حبكة الفيلم، ومن دون نسيان التذكير بمأساة أجيال أخرى تتكرر، مُمثلة في الطفل مالك، الهارب من غزة. يُتيح هذا الطرح، الهادئ النبرة والقوي المضمون، سطوع فكرة المُخرج، أو إيصال ما أراده بعمق بالغ، من دون التضحية بالفنيات والجماليات السينمائية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.