}

"الأشباح": حين يلتقي سجين سوري مع جلاده في أوروبا

ندى الأزهري ندى الأزهري 25 يونيو 2024
سينما "الأشباح": حين يلتقي سجين سوري مع جلاده في أوروبا
لقطة من الفيلم وملصق الفيلم

مستوحى من أحداث واقعية، يتابع فيلم "الأشباح" للمخرج الفرنسي جوناثان مييه شابًا سوريًا يشغله هوس من نوع خاص، ورغبة محمومة تقلب حياته جحيمًا من جديد، بعد جحيم سبق أن عاناه في السجون السورية. شابٌ مأخوذ بهدف يبدو له وكأن الحياة لم تعد تعاش إلا لتحقيق ما طال انتظاره: العدالة.

حميد (الممثل التونسي الفرنسي آدم بيسا) سوريٌّ فقد زوجته وابنته في الحرب، بعد خروجه من الاعتقال، ينتمي إلى منظمة سرية تتعقب مجرمي الحرب السوريين المختبئين في أوروبا، يقوده سعيه في أثر جلاده السابق إلى ستراسبورغ في فرنسا، ليدور في متاهة من الحدس. فكيف له أن يتعرف عليه وقد كان على الدوام معصوب العينين بين يديه؟ وكيف يستطيع إثبات بأن من أمضى ساعات وأيام في التفنن بتعذيبه في السجون السورية هو هذا الشخص بالذات؟ على الرغم من تأكده من كون هذا الصوت صوته وهذه الرائحة رائحته، كيف يثبت ذلك للمنظمة؟ لا أحداث كثيرة في سرد قائم على مشاعر وحواس، على ذاكرة تستعيد عبارات وطرق تعذيب، على شكّ يعذب صاحبه ويتركه في حالة رهيبة بأوجاعها، غير قادر على الحبّ، على تلمس ضوء الحياة بعد عتمة السجن وفقدان الأحبة. تركزت كل حياة حميد على هذا الشخص، أخبر عنه المنظمة، أخذ يتتبعه، يختلق المناسبات ليقترب منه، ليسمع صوته، ليرتطم به أو يقف خلفه في الصف في مكتبة الجامعة، لتصله هذه الرائحة التي طالما ارتبطت بمعذّبه وهو يقترب منه لطرح الأسئلة ذات يوم في السجن السوري الشهير. غريب أمر الرائحة وهي تحدث هذا الأثر في النفس، تحيله في كل مرة إلى نفس المكان والزمان، حين بدأت بالتسرب إلى حواسه اليقظة لكل ما يحيطه. والصوت؟ هو أيضًا ذاته، نبراته، نغمته الخاصة في طرح السؤال، في السخرية والتهديد. إنه متأكد من هوية جلاده في جامعة ستراسبورغ.

يعمل الفيلم (كتابة المخرج بالاشتراك مع فلورنس روشا) على الحواس، السمع واللمس والشمّ، وعلى الحركة. فكيف تكون ردة فعل الضحية وحركته وأمامه جلاده؟ لقد تجنب الفيلم جميع الصور ذات الدلالة الزائدة مثل الحرب أو التعذيب، لتختار العدسة تتبع بطلها وهو يقتفي كلّ يوم أثر الضابط السابق والطالب الحالي في الجامعة حرفز (الممثل الفلسطيني توفيق برهوم)، وهو يبحث عن براهين بأسلوب يبعد عنه شبهات الضابط كي لا يهرب. يختلق حميد الأسباب ليقترب منه بدون أن يلحظه. يدور حوار بينهما دعاه إليه حرفز، يتقرب منه في هدف أبقاه الفيلم غامضًا، هل شكّ به؟ هل لهذا يدعوه لبدء حياة جديدة أساسها نسيان الماضي والاندماج بالمجتمع الفرنسي؟ هل تعرّف على ضحيته؟ ليس مهمًا، المهم أن نقاشاته تبدي شخصية ما زالت تتمتع بهذه السلطة وهذه الديماغوغية في النظر إلى الأمور، وهذه الثقة في تفوقها وقدرتها على السيطرة على الآخرين.

آدم بيسا وجوناثان مييه، في الوسط (Getty, Cannes) 


الفيلم الذي عرض كفيلم الافتتاح في قسم أسبوع النقاد في مهرجان كان الأخير (14-25 أيار/مايو 2024)، مبني على تأمل في مشاعر إنسان مُدمَّر، غير قابل لعلاقات طبيعية مع الناس. تبدو أمه، المقيمة في مخيم للاجئين في الأردن، ملجأه الوحيد. عبر الهاتف وهو يحادثها يبذل الجهد كي لا تكتشف آلامه، يحاول أن يكون طبيعيًا ودودًا، لذلك يجد نفسه مضطرًا إلى الكذب حول استقراره ودراسته، لا يخبرها بمشاريع المطاردة، بل يوهمها بأن كل شيء على ما يرام. هذه الشخصية التي أداها آدم بيسا على نحو ملفت ببراعته، ضعيفة نفسيًّا وبدنيًّا. للغة الجسد أهمية في فيلم كهذا. هذا الجسد النحيل وكأنه تعوّد الحرمان، وهذه المشية التي يحرص صاحبها على عدم لفت الانتباه وهو محنيّ الرأس سريع الخطى. في فيلم يعتمد حركة البطل وطريقته في الجلوس وأسلوب حديثه مع أمه والآخرين، يصبح الكلام قليلًا، واللقطات المقربة وسيلة الإخراج في الاقتراب من مشاعر بطل يعتمد الكتمان في كل تصرفاته، فتأتي النظرة لتدعم الحركة في التعبير عن داخل شائك معذّب، النظرة التي يمكن لها أن تقول كل شيء في نفس الآن، النظرة التي تمتزج فيها مشاعر متناقضة من تحد وضعف وشك وغموض، يا لهذه القوة التي تختزنها هذه النظرة، مخيفة وخائفة معًا. آدم بيسا ممثل سيكون له شأن، وجوده في فيلم يخلو من أحداث سند قوي له. وهو الذي لفت الانتباه في فيلم "حرقة" (2022) للطفي ناتان، وحاز على جائزة أفضل ممثل في قسم "نظرة ما" في كان 2022. اختاره مخرج "الأشباح" من بين كثيرين جاءوا من 15 بلدًا. على الرغم من لهجته غير السورية، وإن اقترب منها في القليل الذي نطق به، فإن المشاهد يتغاضى عن اللهجة من شدة حسن الأداء، وتلك الجاذبية والغموض المحيطين به وهو ما يلزم تمامًا للشخصية التائهة المعذّبة التي عبر عنها.

كذلك كان أداء الممثل الفلسطيني الشاب توفيق برهوم (1990) الذي لعب الدور الرئيسي في فيلم "ولد من الجنة" (2022) لطارق صالح، مفاجئًا في دور الجلاد هنا، وهو الذي يحمل البراءة في وجهه. لذلك اختار المخرج أن يحيطه بهالة من إبهام في البداية وأثناء متابعة حميد له، فصوّره من بعيد، وغالبًا من الخلف، ليظهر كطيف غامض مؤثر وليأتي ظهوره فيما بعد مترقبًا ومقنعًا في دور جلاد يريد أن يطوي الصفحة، من دون أن تتغير تلك النظرة الحادة التي يوجّهها لمحدّثه، وذاك الصوت الذي يحمل نبرة السلطة والثقة. وإن بدا حديثه بالفرنسية مع حميد غير مقنع ولا مبررًا في مشهد كسر مشاعر الترقب لدى المشاهد وكان أضعف مشاهد الفيلم.

صوّر الفيلم في ستراسبورغ حيث ألقي القبض على الضابط السوري لمحاكمته، وفي برلين حيث موقع المنظمة وفي الأردن حيث الأمّ، ما أعطى متنفسًا لفيلم خانق يعتمد لضرورة السرد الأماكن المغلقة في معظم مشاهده.

جوناثان مييه قادم من عالم الوثائقي، وكان يفكر بعمل فيلم وثائقي عن المعتقلين السوريين السابقين بعد أن التقى بعدد منهم، كما كان يحضّر لعمل وثائقي عنهم حين تزامن ذلك مع نشر مقالين في جريدة "ليبراسيون" الفرنسية في نيسان/ أبريل 2019 حول خلية سورية تطارد "الكيميائي" في ألمانيا. من هذه اللحظة، شعر بأنه يريد أن يتتبع الموضوع وأن كل أعماله الوثائقية ستكون قادرة على التبلور في قصة مؤثرة، كما قال في حوار عن الفيلم.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.