}

حين تذهب إلى مهرجان كان من دون اهتمام

ندى الأزهري ندى الأزهري 26 مايو 2024
يوميات حين تذهب إلى مهرجان كان من دون اهتمام
ميريل ستريب وجولييت بينوش
دبوس من هنا وثوب من هناك
علامات تضامن مع فلسطين في كان رغم المنع

حين يلتقي ناقد سينمائي بآخر يُطرح سؤال عابر لا يُلتفت إلى إجابته (المتوقعة)، ذاهب طبعًا إلى "كان" المقبل؟
كأنه وجهة بديهية لأيّ ناقد جاد، كأنه مكان حتميّ لكل عامل في مجال السينما، كأنه وثيقة على حسن سلوكك المهني...
حسنًا، ومن لا يميل إلى حضور الأعراس، ولا يحبّ الزحام، ولا يميل للتدافع (اللطيف طبعًا)، ولا يهتمّ للظهور، وينأى عن علاقات المجاملة، من يحبّ الأفلام فقط، ماذا يفعل؟
لا شيء، يبدو أن عليه الذهاب، رغم كل هذا، إلى مهرجان كان، ولو لمرة.
من يقيم في باريس، وهو حال بعض نقاد، يكون في قرار التوجه إلى المدينة الساحلية الجميلة شيء من ترف. فهنالك بضعة أفلام تعرض في العاصمة لمرة واحدة في وقت عرضها في المهرجان، أو تنطلق عروضها في الصالات في الآن ذاته. تُنظّم أيضًا عروض لبعض أقسام المهرجان، مثل "نظرة ما"، أو "أسبوع النقاد"، في صالات باريسية، وكثير من أفلام أخرى تجد لها موزعين فرنسيين سريعًا. لا اضطرار فعليًّا، إذًا، لعله فقط اضطرار من نوع آخر، اضطرار الفضول لحضور مهرجان لاسمه وقع ساحر في النفوس.
يعجّ القطار المتوجه من باريس إلى كان بالمسافرين، يتوقف في محطات عدة قبلها، لكنه يخلو تقريبًا من ركابه حين يتوقف في قلعة الفن السابع. فتغلي محطة المدينة الصغيرة، التي كانت قرية، بالحقائب والناس واللغات، وتنحني الرؤوس على الهواتف بحثًا، كلّ عن مكان إقامته، عن موقع المهرجان، عن المكان الأهم: حيث تُعطى بطاقة الاعتماد (سبق وتمت الموافقة عليها من أسابيع) للصحافيين، للسينمائيين، للعاملين في الإنتاج والتوزيع... حركة كثيفة في جميع الاتجاهات تنتظم في ما بعد في صفوف طويلة في المكان المطلوب.
الوقوف في الصفوف هو الوصف المطابق لكل نشاط، تحت المطر، تحت الشمس، ودائمًا مع الريح المتوسطية. لكن، يا للتنظيم الفعّال، مع أكثر من 35 ألف ضيف، تتمّ جميع الأمور بهدوء، وبسرعة، نظرًا لكثرة العاملين، ما يُفتقد غالبًا في فرنسا (أعداد العاملين غير كافية في كثير من المجالات). في الصفوف، أيضًا، إطراق أمام شاشات الهاتف، البحث عن مكان شاغر في قاعات السينما لفيلم مرجوّ. ينتهي الأمر غالبًا بالحصول على مكان في اللحظة لأخيرة. كل يوم يبدأ حجز الأماكن السابعة صباحًا لليوم التالي، وعند السابعة وأربع دقائق تكون كل البطاقات قد حُجزت، فتقف خائبًا في المرة الأولى، ثم تدرك أن عليك الاستمرار في محاولات الحجز، فهنالك من يعيد بطاقته فتلتقطها في اللحظة المناسبة. يبدو الأمر وكأنه لعبة يانصيب تدمن عليها لتشعر بفرحة حين تجد مكانًا، هذا يجبر أحيانًا على اختيار أفلامٍ فقط لتوفر بطاقة لها، وليس لأهميتها بالنسبة للمشاهد.

ممنوع... ممنوع
الافتتاح يشاهده الصحافيون على شاشة كبيرة في قاعة غير تلك التي يجري فيها الحفل، إلا بعض مدلل، على ما يبدو، فهنالك تراتبية مطبّقة في كل شيء، وأنت ومن تمثّل. تلك، تبدأ من السجادة الحمراء أول يوم. الممثل الفرنسي عمر سي، أحد أعضاء لجنة التحكيم، أخذ سيلفي مع رئيسة اللجنة المخرجة والممثلة غريتا غيرويغ صاحبة فيلم "باربي". في كان ممنوع أخذ السيلفي على السجادة الحمراء، لكن يبدو أنه يحقّ لأعضاء لجنة التحكيم ما لا يحق لغيرهم (الجماهير المتجمعة مثلًا لرؤية النجوم). للمهرجان ممنوعات أخرى هذا العام بالذات ومواقف متحفظة للغاية في ما يتعلق بالحرب على غزة، وفي وقت انتشر فيه على تطبيق تيك توك هاشتاغ blockout2024، في تعبئة مؤيدة للفلسطينيين يدعو مستخدمي الإنترنت إلى حظر حسابات النجوم الذين التزموا الصمت بشأن الحرب في غزة، ومنهم بيونسيه، وكيم كارداشيان، اللتان فقدتا بالفعل مئات الآلاف من المشتركين، ظهرت الممثلة الفرنسية ليلى بختي على السجادة الحمراء، وعلى ثوبها الأسود دبوس أحمر يمثل البطيخ، وأعلن عمر سي على حسابه أن لا شيء يبرر قتل الأطفال في غزة، أو في أي مكان، داعيًا القادة إلى التحرك الآن لإنقاذ الأرواح، والدفع نحو مستقبل يرتكز على الحرية والعدالة والكرامة والسلام للجميع.، فيما بعد، كذلك، لن يخلو الأمر من ثوب هنا (كيت بلانشيت في ثوب يمثل العلم الفلسطيني على السجادة الحمراء)، وربطة عنق أو كوفيه هناك في الحفلات... في الطرف المقابل، ظهرت على السجادة الحمراء أسيرة سابقة لدى حماس بثوب أصفر عليه صور الأسرى.




كما كان مقررًا عرض خاص لفيلم "الشهادة" أنتجته الحكومة والجيش الإسرائيلي حول 7 أكتوبر من قبل منظمة مؤيدة لإسرائيل. إنما في نهاية المطاف، تم إلغاء العرض "لأسباب أمنية".
كان تيري فريمو، الذي يشغل منصب الأمين العام للمهرجان منذ عام 2007 وصاحب القرارات الكبرى، أعلن في حوار صحافي أنه قرر أن تكون الدورة 77 للمهرجان "بلا جدل ولا جدال"، وأن تكون "سلمية، بهيجة، كريمة"، عادًا ذلك تحديًّا كبيرًا بالنظر إلى السياق الوطني والدولي. هذا ما حثّه على اختيار فيلم "الفصل الثاني" للافتتاح، الذي يحمل روح الدعابة التي عُرفت عن المخرج الفرنسي كونتان دوبيو "لإبهاجنا قليلًا"، كما عبر. جاء الفيلم الذي تميز بفكاهة عبثية، بعد حفل سادته عواطف ودموع على المسرح على الطريقة الأميركية في التعبير التي تعتمد إظهار المشاعر ورسم التأثر على الوجه بخلاف الطراز الفرنسي المتحفّظ نسبيًا. بكت الممثلة الفرنسية جولييت بينوش من تأثرها وهي تقرأ كلمتها الطويلة (زيادة) في مديح الأميركية المكرّمة ميريل ستريب، وبكت رئيسة لجنة التحكيم غريتا غيرويغ بعد سماعها ومشاهدتها كلّ التبجيل حين تقديم نبذة مطوّلة من أفلامها، وانتظر حاضرون انتهاء كل هذه السينما للابتسام كثيرًا، والضحك قليلًا، حين مشاهدة "الفصل الثاني".
ليس السياق الدولي وحده الذي بدا أنه يهدد سير نشاط كل شيء مدروس فيه بدقة، بل الوطني أيضًا، مع مطالبات نقابية لعمال العرض، ومع حركة "أنا أيضًا" التي تقودها حاليًا في فرنسا الممثلة جوديت غودريتش. تمّ كل هذا بهدوء مع عرض فيلم قصير في سينما الشاطئ في الهواء الطلق المتاحة للجمهور للعريض بخلاف القاعات الأخرى المخصصة فقط لحاملي الاعتمادات من كل نوع مهني (صحافي، إنتاجي، توزيعي...) وعرضت الممثلة، التي اتهمت المخرجين بينوا جاكو، وجاك دويون، بالاغتصاب، في مراهقتها، فيلمًا قصيرًا بعنوان "أنا أيضًا"، يجمع شهادات عديدة من ضحايا اتصلوا بها منذ أن تحدثت. وقد قُبل عرض الفيلم لأن الممثلة جعلت من قضيتها "لفتة سينمائية" على حدّ تعبير فريمو، وليس "معركة شخصية".

العالم البعيد...

كل مكان يمتلئ في كان، القاعات العديدة مع عروض تتجاوز الخمسين كل يوم (تضاف إليها عروض سوق الفيلم)، المطاعم والمقاهي والشوارع العريضة والأزقة، هنالك دائمًا هذه الحركة المتوهجة، وضجيج الأحاديث، والصفوف الطويلة، وشعور مزعج بنقصان الوقت. وبأن هنالك على الدوام شيئًا قد فات المتابع يجري في زاوية ما، في قاعة ما. أما المدينة فيهرب بعض من سكانها خلال فترة المهرجان ليتركوها للضيوف وضجيجهم، كما سيفعل أهل باريس خلال فترة الألعاب الأولمبية. المفاجئ هنا هو لطف أهل الجنوب الفرنسي، حتى في هذه الأماكن السياحية، ومع هذا الضغط الشديد، يأخذون الأمور بأريحية تُفتقد لدى الباريسيين، يرحبون بابتساماتهم وخدماتهم وأسعارهم المضاعفة بزبائن لا يملون من الجلوس واللقاءات وتدبير الأعمال ومناقشة الأفلام.
كم تمر الأيام بسرعة، وعلى الرغم من تواجد كثيف للأمن والجيش، كم يُكتشف بعد مغادرة المكان أنه كان فقاعة مدهشة سحرية معزولة عن العالم الخارجي، وكل ما يجري فيه من أحداث (ولو ذكرت بها الأفلام على نحو أو آخر). سرعان ما تدركنا تلك وكأنّ كان لم يكن إلا حلمًا.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.