}

السينما التشيكية المعاصرة: "أضواء صغيرة" وكبيرة وسخرية تتناقلها أجيال

ندى الأزهري ندى الأزهري 3 أغسطس 2024
سينما السينما التشيكية المعاصرة: "أضواء صغيرة" وكبيرة وسخرية تتناقلها أجيال
مشهد من فيلم "ذبح" للمخرج التشيكي الشاب آدم مارتينِك
ينطلق المخرج من تقليدٍ عائليٍّ سنويٍّ، للكشف عن مجتمعٍ يتحوَّل وتختفي تدريجيًّا تقاليدٌ توارثها، ومن خلاله يسلِّط الضوء على الفجوة بين الأجيال وسطوة التغيُّرات الاجتماعية والاقتصادية التي تصيب الحياة الريفية. انحسار عاداتٍ لا يتسبَّب به المحليون فحسب بل تساهم فيه قوانين مفروضة من هناك، على بعد آلاف الكيلومترات، لأسباب تتعلَّق بالتطوُّر أو الحداثة.
هذا الفيلم الروائي الطويل الأول للمخرج التشيكي الشاب آدم مارتينِك، "ذبح"، حسب الترجمة الحرفية، و"ذبح الخنازير المحبَّب لنا" حسب الترجمة الإنكليزية، عُرض في مسابقة الكرة البلورية في الدورة 58 لمهرجان كارلوفي فاري الأخير 2024، ونال تنويهًا خاصًّا من لجنة التحكيم.
المخرج الذي قدَّم فيلمًا ممتعًا ذكيًّا وساخرًا، اختار سرد أحداث يوم واحد في مزرعة ريفية. المكان في بنائه وشخصياته، ينبئ عن بساطةٍ وفقرٍ وانعزالٍ عن عالم معاصر رغم قربه منه. تجتمع في المكان سنويًّا أسرةٌ تشيكيةٌ بأجيالها الأربعة، القروية والمدينية، للمشاركة في ذبح خنزيرٍ من قطيع المزرعة، يعدُّونه معًا لتحضير وليمةٍ يستلذُّ الجميع بها. التعاون ومساهمة كلِّ أفراد العائلة الكبيرة في معظم المراحل، سيكونان مناسبةً، كما هو متوقَّع، لتطفو على السطح خلافاتٌ، ويدرك المجتمعون ما يلحق على مدى السنين بحياتهم وعاداتهم وعلاقاتهم من تغييراتٍ تفرضها قوانينُ جديدةٌ للبلد وتحديثاتٌ تقرِّرها أو تخضع لها المجتمعات.
مهرجان قتل الخنازير هذا، يُعدُّ تقليدًا يتطلَّع إليه كبير العائلة كلَّ عام. ومع أنه بات محظورًا بسبب قوانين الاتحاد الأوروبي، حافظت الأسرة عليه. إنه الفرصة الوحيدة لجميع أفرادها للالتقاء معًا وقضاء وقتٍ ممتعٍ لا يخلو من شجاراتٍ ظريفةٍ واستمتاعٍ بطعامٍ ساهم كلٌّ بدوره في تحضيره منذ الإمساك بخناق الخنزير وذبحه وحتى إعداد وجباتٍ منه متوارثةٍ من أجيال.

اختار مخرج فيلم "ذبح" سرد أحداث يوم واحد في مزرعة ريفية

لكنَّ الأمر سيكون مختلفًا هذه المرَّة. الجدَّان في مرحلةٍ عمريةٍ متقدِّمةٍ، ومتعبان من هذا الطقس السنوي ومن تربية الخنازير، ويجدان صعوبةً في إخبار كاريل، زوج ابنتهما المتوفَّاة حديثًا، أنَّ هذا الاحتفال سيكون الأخير. ابنة كاريل مكتئبةٌ بسبب انهيار العلاقة مع زوجها، فيما ولدهما الصغير يهرب منهما وهما يتجادلان حول حضوره عملية الذبح وإن كان كبيرًا بما يكفي لمشاهدتها، كما يصرُّ الأب، أو أنَّه طقسٌ لم يعد يتناسب ومفاهيم الحياة المعاصرة وليس على الصغار تعلُّمه منذ الصغر كما ترى الأم. مشهدٌ سيكون، في إخراجٍ اتَّسم بالبساطة والعفوية، تعبيرًا إضافيًّا عن تقليدٍ عائليٍّ في طريقه إلى الزوال، ومدى الخلاف في النظرة بين الأجيال، بين سكَّان المدن والقرى، وبين الجنسين.
لم تكن هذه الخلافات سوى البداية سيتجلَّى غيرها بين أفراد الأسرة الواحدة، وكلَّ مرَّةٍ مع مبرِّرٍ دراميٍّ مقنعٍ. مثلًا دماء الخنزير المسكوبة في كلِّ مكانٍ والتي تلقَّاها كاريل بسبب عصبيته، لتكون القشَّة الأخيرة التي أظهرت المخفيَّ من مشاعره ومشاعر الآخرين تجاهه لا سيَّما ابنتيه. فكاريل يواجه لومهما خاصَّةً بسبب مواقفه الجلفة تجاه أمِّهما الراحلة، وهو كذلك يواجه سخرية رجال العائلة. هكذا يتحوَّل لمُّ شمل الأسرة إلى مرجلٍ يغلي بالعواطف والمواجهات، كهذا الذي يغلي فيه اللحم، وترتفع وتيرة التوتُّر لدى العائلة كلِّها. لا يعتمد الفيلم سردًا قصصيًّا يتمحور حول شخصيةٍ، بل كشفًا لأحوال مجتمعٍ مصغَّرٍ في مكانٍ (المزرعة) وزمانٍ (من الفجر إلى الغسق) محدَّدين، عبر شخصياتٍ عدَّة. يتَّكئ على الاجتماع، ومساعدة ممثِّلين غير محترفين، ليشتغل بمهارةٍ وفي أسلوبٍ يتَّسم بالصدق وحسِّ الدعابة على تحليل الشخصية التشيكية بتنوُّعاتها العمرية والاجتماعية، الريفية منها على وجه الخصوص. وحين يخرج التصوير من مكان الحدث نحو الجوار في بضعة مشاهد قليلة، يُظهر فقر وعزلة الريف ولكن أيضًا حيوية أفراده وطرافتهم. وأتى مشهد حضور الشرطيَّين لضبط مخالفة للجدَّين وكاريل لتنظيمهم عملًا محظورًا، وكأنَّه خلاصة للشخصيات والمواقف، وأكثرها إثارةً للضحك والتفاعل مع تعليقاتهما الهازئة ومواقفهما الساخرة التي لا تكترث بقرارات الاتحاد الأوروبي لدرجة إعطائهما وعدًا بمضايقة الجار المُبلِّغ عن الذبح.




الفيلم دراسة ثاقبة وممتعة لأربعة أجيالٍ من العائلة التشيكية التقليدية، والذي، من خلال تصوير شخصياتها بعمقٍ موسومٍ بروح دعابة، يستحضر في إخراجه وموضوعه المتعلِّق بالهوية الوطنية، أفلام الموجة السينمائية التشيكوسلوفاكية الجديدة وما عُرف من خصائص تحلَّت بها من أسلوبٍ ساخرٍ وكوميديا عبثية على خلفية موضوعٍ اجتماعي. هذه الموجة بدأت في الحقبة الشيوعية عام 1960 مع مخرجين شبابٍ ساهمت أفلامهم بنقل سينما بلدهم إلى المستوى العالمي والتعريف بها في مهرجاناتٍ كبرى لينالوا عنها أرفع الجوائز. على رأسهم ميلوش فورمان مع "إنها تحترق، يا دميتي (رجال الإطفاء)" (1967)، وياروميل ييرش مع "المزحة" (1969) المأخوذ عن روايةٍ لكونديرا تحت نفس العنوان، ويوري مينزيل الذي نال عن "قطارات مراقبة عن قرب" (1966) أوسكار أفضل فيلمٍ بلغةٍ أجنبيةٍ في 1968، وأول مخرجة تشيكية فيرا تشايتيلوفا مع "الإقحوانات الصغيرة" (1966)، والأب الروحي لهذه الموجة فويتيك ياسني مع "في يوم قطة" (1968).

"أضواء صغيرة" أخرى في السينما التشيكية
في نفس المسابقة، عُرض فيلمٌ اجتماعيٌّ تشيكيٌّ آخر اعتمد أسلوبًا غير تقليديٍّ لروي حكاية طفلةٍ صغيرةٍ تبلغ من العمر ستَّ سنواتٍ تعاني من خلافاتٍ، وصلت حدَّ الانفصال، بين والديها. تصوِّر المخرجة وكاتبة السيناريو بياتا باركانوفا في فيلمها الثالث "أضواء صغيرة" أميلكا التي تحبُّ قطَّتها ووالديها وجدَّيها وبيتها. إنَّه يومٌ في فصل الصيف وكلُّ ما تتمنَّاه الفتاة الصغيرة هو أن يسير كما ينبغي، إلَّا أنَّ الأمور لا تتبع المسار المرغوب. فأصوات والديها المرتفعة تصلها من غرفتهما، وهو أمرٌ غير طبيعي. هناك شيءٌ ما يحدث وليس لدى الصغيرة أيُّ فكرةٍ عمَّا هو عليه لكنَّها تشعر بخطره. لجأت المخرجة إلى تصويرٍ مبتكرٍ لتعبِّر عن رؤية طفلةٍ لتفكُّكٍ عائلي، وكانت الصورة في مستوى طول ونظر الصغيرة، فتظهر نصف الشخص مثلًا في كثيرٍ من المشاهد. حملت أميلكا الفيلم على كاهليها الرقيقين، ما شكَّل مخاطرةً كبيرةً لفيلمٍ لا يتضمَّن هو الآخر مسارًا تتحكَّم به قصَّةٌ، بل بضعة مواقف تحدث خلال يومٍ بأكمله. وفي آخره حين تخلد أميلكا منهكةً إلى النوم تأمن لمحيطها المألوف على أمل الصحو ورؤية أمِّها من جديدٍ في البيت.
وكان الفيلم الثالث من قسم "عروض خاصَّة"، مفاجأةً تطلَّبت بعض الصبر في البداية، لنكتشف تدريجيًّا فيلمًا مجدِّدًا ويمكن القول ممتعًا ومؤثِّرًا في أسلوب تعامله مع مرض توحُّد الأطفال. في "الآخر"، أوَّل فيلمٍ لها، تستكشف التشيكية ماري ماجدالينا ظاهرة "الأطفال الزجاجيِّين"، وهم هؤلاء الذين يتمُّ إهمالهم، وبالطبع بدون قصدٍ، من قبل أسرهم بسبب وجود شقيقٍ لهم من ذوي الاحتياجات الخاصَّة. فيأتون في الدرجة الثانية وغالبًا ما يشعرون بأنَّهم غير مرئيِّين، وتُعتبر مشاكلهم دائمًا أقلَّ أهميَّةً، وغالبًا ما تُتوقَّع منهم المساعدة في رعاية أخيهم أو أختهم ذوي الإعاقة. تجسِّد هؤلاء جوهانا (في أداءٍ طبيعيٍّ وعفوي) البالغة من العمر ثمانية عشر عامًا، هي على وشك التخرُّج من المدرسة الثانوية، ويجب عليها أن تقرِّر ما إذا كانت ستترك المنزل للدراسة، أو البقاء ومساعدة والديها. قرارٌ حسَّاسٌ للغاية يضعها في محنة الأخوَّة، فهل يضع "الآخر" أختها في المقام الأوَّل؟.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.