}
قراءات

عزلة الإنسان الحديث بين لوحات هوبر وقصص كارفر

سارة عابدين

25 مارس 2020
المدينة والوحدة والعزلة التي يشعر بها الإنسان الحديث هي جوهر تلاقي قصص الكاتب الأميركي، ريموند كارفر، والفنان الأميركي، إدوارد هوبر. الصمت الحزين الذي يحاول التعبير عن نفسه، البشر الذين يعيشون بلا هدف، كأن شخصيات كارفر خرجت من القصص لتتجول بداخل عوالم ولوحات هوبر.
ربما من أهم ما يجمع أعمال هوبر وكارفر أنها أعمال مقتطعة من الحياة، تسمح للمشاهد، أو القارئ، أن يفكر، أو ينظر إلى العمل الفني، أو القصة، من وجهات نظر متعددة. لا يعطي أياً منهم قطعاً فنية مكتملة لها بداية ونهاية، ولكنها مقاطع يمكن أن تكون في أي مكان، ولوحات توثق لحظات هامشية وغير هامة في حياة أبطالها الهامشيين.



الاختزال في لوحات هوبر وقصص كارفر
نجد في كثير من لوحات هوبر ضوء الشمس يميل في داخل الغرفة، بينما الأشخاص يقرأون، ينظرون إلى الأرض، أو ينتظرون بلا جدوى إلى شيء لا نعرفه. بالرغم من السكون في لوحات هوبر، إلا أن المشاهد للوحات يشعر بمرور الوقت، ومعنى الانتظار داخل اللوحة. الوقت يمر، أو لا يمر، بوجود فنجان القهوة على طاولة العشاء، ليصبح الوقت هو البطل المعلق في الهواء، مثل رائحة التبغ القديم في غرف المنزل، أو بين أثاث الفندق العتيق.
ما يجعل لوحات هوبر تتماس مع قصص كارفر أن هوبر يرسم من دون تفاصيل دقيقة، ولكن يرسم حالة كاملة يختزل فيها أغلب التفاصيل غير المهمة، من وجهة نظره.

التفاصيل التي يمكن أن تثقل اللوحة وتجعلها أكثر تعبيراً عن مجتمع بحد ذاته، ليخرج إلى حالة أكثر اتساعاً يمكن أن تكون حالة إنسانية يعيشها إنسان العصر الحديث في أي مكان، وهو ما يفعله كارفر في قصصه المنيميالية التي بالرغم من قوة الوصف فيها إلا أنها خالية من الزخارف والاستعارات. قصص تشبه الكلام العادي الذي نتداوله أثناء اليوم، لكن كارفر يضع له عنواناً ويؤطره في قصة، فيزداد عدد من تتلاقى حكاياته مع مشاعرهم، خاصة الوحيدين الذين يشعرون بالاغتراب وقسوته في أي مكان بالعالم. بالإضافة إلى أن كلاً من هوبر وكارفر، لا يجبران نفسيهما على صنع فن مبهج، بل اختارا الاختيار الأصعب البعيد عن الجماهيرية، والابتذال.



جماليات عوالم هوبر
للضوء أهمية ووجود كبير في لوحات هوبر، يؤكد من خلاله على المنظورات الحميمة التي يختارها لشخوصه، أو مناظره الطبيعية، فهو لم يرغب في رسم الناس كما هم، ولكن أراد كما قال أن يشعل ضوءاً في جوار كل منزل. الرجال والنساء من أي طبقة اجتماعية، الكاتب، القارئ، العامل في محطة الوقود، كلهم يجدون أنفسهم في لوحات هوبر، في المكان المطلق، حيث تحدث الحياة.

في الفيلم الوثائقي "hopper,s silence"، عندما سُئل هوبر: هل تعكس لوحاتك عزلة الحياة العصرية؟ أجاب أن ذلك قد يكون صحيحا، وقد يكون غير صحيح. إذ لم يرغب هوبر سوى في توصيل مشاعره وأفكاره وتجربته التي تقترب من الانطباعية أو الميتافيزيقية، بالرغم من أن أغلب لوحات هوبر بدأت اسكتشات سريعة أثناء تجواله في شوارع نيويورك، ثم حولها في الاستوديو الخاص به إلى لوحات ضخمة يضفي عليها طابعه اللوني والفني الخاص، إلا أنها تمتلك حياة خاصة تحمل روح وانطباع المكان الذي رسم فيه هوبر الاسكتشات.
يخطط هوبر كل شيء في اللوحة، كما لو كان كاتب سيناريو، بدءاً من المناضد، وتفاصيل العشاء عليها، وصولاً إلى أشجار الكرز، والبلاط الأخضر عند قواعد النوافذ، وألوان الشوارع، وإضاءات المحلات والمقاهي وتفاصيلها. الطريقة  المسطحة، وغير التقليدية، التي يستخدمها هوبر في التلوين، تظهر المباني كأنها صنعت من الورق المقوى، هي ما يعطي للوحات هوبر جوهرها القوي الميتافيزيقي.


كاتدرائية ريموند كارفر
في كتابه القصصي الأخير "الكاتدرائية"، الصادر أخيراً عن مجموعة كلمات، بترجمة أسامة إسبر، وتحرير أحمد العلي، يستمر كارفر في النهج المنيمالي الذي اختاره لقصصه، ويقدم رؤية مخالفة للسائد عن المجتمع الأميركي، والحلم الأميركي. يقدم شخصيات هشة ومبتورة بدلالات اجتماعية وسياسية من خلال إدراكه لخبايا الطبقة الوسطى والفقيرة في المجتمع الأميركي، التي أصبحت العمود الفقري لمعظم أعماله.
يفكك كارفر حياة ومشاكل الأشخاص المهمشين الذين يتجاهلهم المجتمع "الزوجة المعنفة، الزوج المدمن، الأزواج المنفصلين، ومشكلات أطفالهم، الشخص الضرير". يتناول كارفر هذه المشكلات بأبعاد جديدة، بعيداً عن الوعظ الأخلاقي والمثالية، لكنه يقدم الغضب والدمار والفرص الضائعة، والمشاعر المختلطة لهؤلاء الأشخاص ناحية أنفسهم وناحية العالم.
يمكن اعتبار أعمال كارفر تأملات في العلاقات الإنسانية، سواء كانت حباً، أو كراهيةً، أو علاقات بين الأزواج والمحبين والزملاء. وبالرغم من تغير العلاقات في كل قصة، تبقى هي الأساس الجوهري الذي يتواصل كارفر من خلاله مع القارئ. ومع انغماس كارفر تماماً في مشكلات المهمشين في المجتمع الأميركي، تحولت قصصه إلى قصص عالمية إنسانية، تلامس أي إنساني في أي مكان في العالم.
يمكن أن يكون اختيار كارفر للأسلوب المنيمالي المبسط ناتجاً عن اختياره لتلك الفئة البسيطة، إذ لا يمكن الكتابة عن أشخاص بسطاء ووحيدين بأسلوب مزخرف، بالإضافة إلى كونه شاعراً في الأساس ربما ساهم في تفضيله للتكثيف والاختصار. من مميزات ذلك الأسلوب الأدبي أنه يجذب القراء إلى القصة، من خلال إجبارهم على تصور التفاصيل المفقودة، كما في قصص "منزل شيف، محترس، حماية" في مجموعة "الكاتدرائية الأخيرة".

في قصة "الكاتدرائية"، الكحول حاضر كأغلب قصص كارفر، لكنه حاضر كقوة بناءة، ووسيلة للترابط الإنساني بين الغرباء. يطلق الكحول عقل الراوي، ويحرره من الأفكار المسبقة عن الرجل الأعمى صديق زوجته، الذي جاء لزيارتهم لأول مرة وقضاء بعض الوقت في منزلهم، بعد أن فقد الرجل الأعمى زوجته.
يبدو الرجل الذي يقوم بدور الراوي متوتراً في بداية الأمر، يمتلك فكرة نمطية سيئة عن العميان، يشعر بالغيرة من الرجل الأعمى، ومن تفاعل زوجته معه، لكن مع تقدم القصة، يطلق شرب الكحول، وتدخين الماريحوانا، العنان للأفكار الجديدة، والشكل الأكثر إنسانية للعلاقة بين الرجلين، خاصة بعد أن نامت الزوجة مصدر التوتر والقلق، وتركتهما لقضاء الوقت معاً، ليبدأ الترابط بينهما بشكل تدريجي.
بينما يشاهدان برنامجاً تليفزيونياً، يتحدث عن تاريخ الكاتدرائيات في العالم، يسأل الرجل ضيفه الأعمى "هل لديك أي فكرة عن الكاتدرائية؟". من هنا يبدأ في وصف الشكل الخارجي للكاتدرائيات، لكنه لا يصل إلى الجوهر الروحي للبناء، ويدرك قصور وحدود رؤيته في الوصف. تحت تأثير الكحول، يستجيب لاقتراح الرجل الأعمى، بأن يرسما الكاتدرائية معاً، ويحدث اتصال جسدي بينهما، حيث يمسك الأعمى بيده، وهو يضع خطوط الكاتدرائية وأقواسها على الورق السميك، ليشعر بالحرية التامة، ويتراجع التوتر الذي كان يشعر به تماماً، وتنتهي القصة بالمرأة التي استيقظت لتجد زوجها وصديقها الأعمى يحاولان معاً رسم الكاتدرائية، في مشهد يمكن أن يكون ضمن مشاهد الفنان إدوارد هوبر الماورائية.

# مقتطفات من فيلم HOPPER'S SILENCE : 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.