}

وما في حلب موقع خراب أصلاً

فاطمة ياسين فاطمة ياسين 7 ديسمبر 2016

كانت مناسبة بائسة دفعتني للتعرف أكثر على هذه المدينة، عندما قسمها الإعلام إلى شرقية وغربية، وتناقل صور الحصار ولوّنه بالأحمر والأخضر، في حين أن ربع مليون نسمة يتضورون هناك. لم تكن حلب، بالنسبة لنا نحن الدمشقيين، من غير التجار، مقصداً للرحلات الترفيهية في يوم من الأيام، لذلك لم ألتقِ بها وجهاً لوجه من قبل، بينما، وعلى العكس، شكلت مركزاً جاذباً لسكان مدن أقل أهمية منها وتقع في محيطها، كإدلب ودير الزور وحماة، وكذلك الرقة، فكان معظم شبان ورجال تلك المدن يستخدمون تعبير "نازل على المدينة"، ويقصدون حلب، دون حاجة لذكر اسمها. أما بالنسبة لبقية السوريين فحلب ماركة مسجلة على القمصان  والألبسة القطنية، وأكياس الزعتر ذات الرائحة المنعشة دون نسيان صابون الغار. أما العلامة المميزة فكانت نادي رياضي يدعى "الاتحاد" يتكئ على دعم مالي ضخم ويملك رابطة مشجعين كبيرة، وتقاليد تشجيع راسخة في الروح الرياضية، وروح الدعابة أيضاً، ولاعبين نجوم كبار في كرة القدم وكرة السلة.

المدينة العريقة أنجبت نوعاً مرجعياً في الطرب، عرف بالقدود الحلبية، ساهمَ عملاق الطرب صباح فخري على نشره في دول العرب من شرقي العراق حتى أبعد مدينة في المغرب العربي. وكان فنانون أصحاب شهرة محلية على مستوى المدينة كعمر سرميني ووضاح شبلي وبشكل أوسع صبري مدلل يقيمون سهرات عامرة بالمشتقات الحلبية الموسيقية والسمر في مراكز المدينة الأثرية والثقافية، كانت الموسيقى والتواشيح الطربية من تفاصيل حلب على الدوام...

يرجح كامل الغزي أن معنى حلب هو الأبيض، بالسريانية، ويدلل على ذلك بأن اسمها قد أُتبع لاحقاً بالشهباء ليفسر العرب الاسم السرياني، والبياض لم يطلق على حلب للدلالة على قلوب سكانها، بل لسبب اعتمادهم في بناء بيوتهم بشكل أساسي على مادة الحوار الأبيض، ويأكد ياقوت الحموي أن الحجر الأبيض كان يسوِّر المدينة، مما يعطى لناظرها من علٍ شعوراً عارماً بالبياض.

كان تموضُع الطبقات الصخرية لتضاريس حلب سبباً في وقوع العديد من الزلازل، ويقال إن نهر الفرات قد اتخذ مجراه الحالي بتأثير من زلزال حدث عام 528 ميلادي. وأثرت الكوارث الطبيعية تأثيراً بالغاً في حياة الحلبيين الذين قضى عشرات الألوف منهم قبل الألف الثانية الميلادية. أما قلعة حلب الشهيرة فقد خضعت لمصائب كبيرة، وتكرر ترميمها مرات ومرات في عهود المماليك والحمدانيين والأيوبيين. القلعة التي أعاد نور الدين زنكي بناءَها طاولها تخريب بشري على يد تيمور لنك القائد المغولي الذي غدر بأهلها وعلمائها وهدمها من كل الاتجاهات.

هذه حلب الجغرافيا، ولكن ثمة حلب أخرى مشغولة بالأوعية الدموية الدقيقة التي تعمل على وجيب الأفئدة ولا نستطيع تميزها إلا حين يحيق بها خطرٌ كهذا الغول المعدني الذي يطوق بُطَيْنَها الشرقي ويهدد من بقي متمسكاً بعتبة بيته حتى هذه اللحظة، رافضاً ذل مغادرتها "بالباصات الخضراء".

كان لحلب أسواق شهيرة اتخذ كل منها اسم السلعة التي اشتهر ببيعها، تميزت الأسواق بواجهات محصنة ومزينة ويقع الجامع الأموي، أو جامع بني أمية الكبير، على مفترق اثنين منها (المناديل والنحاسين)، والجامع مع مئذنته يملك فهرساً طويلاً بعمليات التجديد والترميم، مثله مثل القلعة، لكن القسم الأكبر منه قد دُمِّر بشكل نهائي عام 2013، حيث انهارت المئذنة وسقطت قبابه. أسواق حلب رئات طويلة وضيقة آلياتُها في العمل غير خاضعة لما عرفته اقتصاديات "ميلتون فريدمان"، بل هو اقتصاد محلي يدعى "الجمعية"، حيث تتجدد دورة الاقتصاد كل يوم خميس، بدون اعتمادات بنكية ولا شيكات آجلة أو عاجلة، ترتبط السوق بقوة حضور التاجر الحلبي، سواء لبس الطربوش أو خلعه، وتتربع فوق تل من البضاعة المنضدة بمهارة، فمن هنا تبدأ الدورة الاقتصادية الأكثر نزاهة في العالم...

تصدرت حلب عناوين الصحف بعد عام 2013 وصار العالم البائس ينعيها بسبب الحال الذي أوصلتها إليه الحرب السورية، خصوصاً في السنة الأخيرة حين تهيأ لنظام الأسد دعمٌ ناري غير محدود من قبل حلفائه الروس، ففكر أن استرجاع حلب سيدعم حظوظه في تحقيق قبول عالمي بمجرم سيستعيد، بتجديد امتلاكها، معظم المدن السورية الأساسية، وسيبتز الثائرين عليه في مجالس المفاوضات بأن لديه ما ليس لديهم.

تقطعت السبل بحلب حيث تهطل عليها البراميل وتحلق في سماواتها أحدث الطائرات الحربية لتلقي الصواريخ "الذكية" فتهبط حيث يتجمع الأبرياء، وانخفض مستوى الأدرنالين في شرايين النظام المدعوم، وهو يتهيأ الآن لدخول المناطق التي خرج منها منذ أربع سنوات، ويعتقد بأن مستقبله يكمن في الحارات المدمرة والأفئدة المكلومة والطوابير الطويلة من المهجرين والمشردين.

حلب التي ذكرها ابن بطلان فقال "وما في حلب موقع خراب أصلاً" نجحت قذائف القصف الروسي وحممه في نزع آخر خيوط الأمل من قلوب سكان قسمها الشرقي المحاصرين واستحال جامعها الأموي والأسواق المسقوفة آثاراً ينفع التنقيب عنها. ولم يبق صامداً سوى قلعتها الأثرية المهددة هي الأخرى بالسقوط إذا ما استمر الحال على هذا المنوال.

لا تستطيع حرارة البارود وبلادة الحديد الاستيلاء على الموسيقا، وربما سيكون كل ما حصل حافزاً لإنتاج نوع جديد من المقامات، التي توظف أكبر عدد من العلامات الموسيقية. ولا خوف على الصناعات الحلبية العريقة، فالزعتر والصابون هما بالأصل صناعتان يدويتان تعتمدان على الأرض البكر التي لا يقدر كائن على إلحاق الأذى بها، أما اقتصاديات السوق "المغطى" فرأسماله النوايا الطيبة، وكل ذلك باق ما بقيت الشمس تشرق على حلب.

 

*كاتبة من سورية

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.