}

الصورة الأيقونة

فاطمة ياسين فاطمة ياسين 22 مارس 2016
آراء الصورة الأيقونة
مونييه في مائياته(ويكيبيديا)
الفيلم القصير الموجود على يوتيوب يظهر لقطات من الجو لمدينة عين العرب.. تأخذ حدقة الكاميرا كل تفاصيل الدمار وتعرضه بكل البطء المتاح.. وتسمح التقنية بالتقاط المَشاهد بزاوية تسعين درجة فتمتلئ العين بالحطام وبقايا الخرسانة والحديد المتطاير.. ليس في الصور المعروضة أي تواجد لكائن حي، فقط ظلال متعامدة مع الجدران بحالتها نصف الواقفة وصمت كامل يلف الصور الملتقطة في ذروة الظهيرة.. أُريد للصورة، التي أنتجها تنظيم داعش، أن تحفر في الأذهان والذواكر كأيقونة مستدامة تثبت قدرة هذا التنظيم على إحداث الدمار متى/أين يشاء، ولكن يبدو أن الفيلم القصير قد خضع لمونتاج سريع قفز فوق الأحياء السليمة وركز الكاميرا فوق الدمار الكامل وأظهره من عدة زوايا محاولاً ألا يُدخل في الكادر أي بناء لا ينتمي إلى عالم الحطام الذي اختار المصور أن يكرسه لفيلمه القصير بدون صوت أو موسيقا وبمرافقة مجموعة من الصور/الأيقونات المتشابهة التي تمثل الدمار..
تنطلق الإشارة إلى مكان خاص في جهاز التلقي لتكوين الدلالة المطلوبة، ويلعب طول الشريط دوراً سردياً استفزازياً، يؤثر في العصب البصري، لإنتاج المعنى.. كما تؤدي الدور نفسه سرعة الصورة ومكونات الكادر ومساحته، أما غياب الكلمة والصوت فيُطلب منه أن يزيد تأثير الصور لخلق واقع محدد.. النتيجة هي فيلم ممنتج ينوب عن الحقيقي بحيث تتحول الصور الملتقطة من السماء والمقطعة، بطريقة خاصة، إلى واقع مرسوم..
يلعب منتجو الفيلم لعبة سيميائية بجعل الدال ينوب عن المدلول عن طريق إذابة العلاقة بينهما وفرض الصورة الوحيدة التي يعرضها الفيلم وهي الدمار كواقع عام..
الاتكال على الصورة لإنتاج المعاني حالةٌ تحاول أن تكرسها كاميرات التصوير معتمدة على التطور السريع في المعدات الرقمية، وسهولة الوصول إلى مستهلك الصور.. لم تأخذ الصورة مكان اللسان ولكنها وقفت إلى جانبه بوصفها علامة تؤدي ذات الغرض بطريقة أيقونية بحيث إنها توحي بتمثيل الواقع وتحمل بعض صفاته أو تحاكيه وفي مثال فيلم كوباني الجوي تنوب عنه بشكل كامل..
لا تأخذ الأيقونة/الصورة معنى بشكل مباشر وتلقائي فور وصول الفوتونات الضوئية إلى العصب البصري لأنها تحتاج إلى مرجع ثقافي واجتماعي واحد تختمر فيه الأيقونة لتولد معنى محدداً لا لبس فيه.. الحرب السورية ووقائع التدمير اليومي تقود إلى تبني مقولة فيلم الدمار الشامل رغم الإحساس بضربات مقص المونتاج وسهولة كشف محاولات الكاميرا لتفادي الكائنات الحية والمباني نصف المدمرة.
تحتوي الصور، أو يمكن أن تحتوي، على معنى غير متضمن أو ممثل في الصورة، كصورة قدم رائد الفضاء الأميركي نيل ارمسترونغ على سطح القمر، تؤدي هذه الصورة/الأيقونة معنى يفوق آثار القدم وصولاً إلى عنوان لعصر حضاري برمته، وبذات السياق تمثل شارة ماركة تجميل غالية الثمن، عنواناً للثراء وليس فقط إلى هذا الصنف من المواد.. تلعب الوقائع أدواراً في تطوير الأيقونة، الإلحاح ليس أحدها، وتتيح الأيقونات ترميز الثقافة والتاريخ والأحداث المهمة كما يمكن لإصدار طابع تذكاري في مناسبة معينة أن يعبر عنها ويستعيدها بالطريقة المتعارف عليها ثقافياً، بمعنى تكثيف الواقع في عملية عكسية لإنتاج أيقونة، وهذا ما تلجأ إليه الدول والأحزاب والحركات السياسية وغيرها لتبني رايات أو شعارات خاصة بألوان محددة.. تتولى هذه الأيقونات مهمة الإقناع البصري المطلوب حيث تأخذ شكل مفردات مرئية تقوم مقام التراكيب اللسانية، في هذا نتذكر محاولات الجهات العامة (الوزارات، المؤسسات، النقابات، الجمعيات،...) في سورية تحويل وجه حافظ الأسد إلى أيقونة بوضع صورته في كل مكان، بدءاً من صحيفة نتائج طلاب المراحل الابتدائية وانتهاءً بورق العملة، دون أن يؤدي ذلك كله إلى تخليق أيقونة ترمز إلى شيء محدد..
كانت الجهات الرسمية تعتقد أن الإصرار على تعميم ذات الشكل عبر الصور والتماثيل يؤدي إلى تحوله بشكل تلقائي إلى أيقونة ترمز إلى سورية كلها، ولكن علم الدلالة لا يوافق على إشارة من هذا النوع..
كان وجه غيفارا يرمز إلى الثورة.. تحقق هذا المعنى بعد ممارسة فعلية على نطاق واسع ولم يستعدِ رسم غيفارا على دلالات أخرى بل استمرت نظرة غيفارا وقبعته الخاصة في إرساء ذات الإشارة الثورية ولا شيء غيرها.. وبقيت صور حافظ الأسد، رغم انتشارها في كل مكان، إلى حد الابتذال، لا تعبر إلا عن ملامح الشخص الذي يحكم سورية ولا شيء غير ذلك.
المغالطة السيميائية التي طبقتها السلطة بدون وعي مارست عنفاً بصرياً لم يساعد على تشكيل الأيقونة المطلوبة، لأنها أوكلت إلى الأيقونة إشارة فضفاضة ضاقت عن حملها وبدلاً من ذلك تأيقنت الصورة بشكل معاكس وأصبحت دلالة على عهد طويل من الديكتاتورية لا يمكن مسحه بسهولة..
ضمن السياق عينه فإن الفيلم القصير الذي يصور دمار عين العرب التام لا يحقق المطلوب منه رغم حرفية التصوير العالية وحجم الدمار المهول الذي يظهر في الصور، ولكن سمعة المنتج وهو "تنظيم الدولة الإسلامية" يحجب الكثير من صدقية الشريط، وعلامات المونتاج الواضحة تخفف من وقع الدمار، هذا يعني أن على الأيقونة أن تقف خلف تل من "الحقائق" المتعارف عليها قبل أن تتحول إلى ثقافة.. عندها تتبلور الصورة بسهولة وتصبح شعاراً واسع الانتشار وموحد الدلالة ويخلق ذات المعنى كلما وقعت عليه العين كصورة حمزة الخطيب..

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.