}

"الأيدي فوق المدينة".. الأيدي فوق المخيم!

فجر يعقوب 8 مارس 2021
أمكنة "الأيدي فوق المدينة".. الأيدي فوق المخيم!
شارع مُدمَّر في مخيم اليرموك في دمشق (22/5/2018/فرانس برس)

في فيلم (الأيدي فوق المدينة ـ 1963)، للمخرج الإيطالي الراحل، فرانشيسكو روزي، ثمة لوحة تشريحية مبكرة للنهج الريعي العقاري الذي تعجز مدن كبيرة بهويات ثقافية واجتماعية أصيلة عن صده، أو ردعه، أو الوقوف في وجهه، أو على أقل التقدير التفلّت من رعاته المحليين المتحالفين مع رعاة إقليميين ودوليين. هنا، يقف روزي في فيلمه ذي النزعة المبكرة لتشريح البرجوازية العقارية الناهضة، وفي استشفاف ما يخطط لمدينة نابولي عبر محاولة رسم صورة ظليلة لما يحدث في الخفاء، بين السلطة السياسية الفاسدة، وسلطة رأس المال المتوحش المهين للقيم والأخلاق، الذي خرج للتو من أتون الحرب العالمية الثانية.
(الأيدي فوق المدينة) فيلم ينتمي إلى السينما السياسية التي اشتهر بها هذا المخرج، وهو يشكل إضافة لا حدود لها أمام ما حدث في الأمس البعيد، في بقعة جغرافية لا تشبهنا، ويحدث حولنا اليوم أمام أعيننا، ونعجز بكامل وعينا عن ملاحقته.
العودة الملحة الناتجة عن ضغط معرفي في الذاكرة لمشاهدة الفيلم تشكل إبهارًا لجهة عقد المقارنة مع إيطاليا الخارجة للتو من الحرب العالمية الثانية لتضمد جراحها، فيما يستغل النائب في البرلمان (رود ستايغر) منصبه وعلاقاته مع الطبقة السياسية الفاسدة للسطو على أملاك الفقراء في نابولي، بمسمى إعادة تنظيم العقارات الآيلة للسقوط والانهيار. الذي ينهار هنا في الحقيقة هو سلم الأخلاق، ومفاهيم التنشئة الاجتماعية والسياسية التي تربَّت عليها الأجيال، عبر عقود، وجاءت الحرب لتقتص من هذه الأخلاق المجتمعية، وتزرع محلها فهمًا جديدًا قائمًا على "النفخ الريعي" في كل شيء تطاله الأذرع الطويلة.

يبدو تشريح الفيلم منذ اللقطة الأولى، وحتى نهايته، قائمًا على استعراض حيثيات هذا المخطط الذي يميّز مكتب النائب الفاسد، وقد وضعه فرانشيسكو روزي على كامل الحائط الذي يقع فيه الباب، فيظهر السياسيون الذين يتقاطرون على مكتبه من أجل عقد الصفقات المشبوهة، وكأنهم يدخلون ويخرجون منه، في إشارة إلى تورطهم في وضع أيديهم على المدينة الجريحة، وأهلها المستضعفين.
ما الذي يدفع بفيلم سياسي صور منذ حوالي ستة عقود لأن يعبر في لحظة ما عن مأساة وقعت في نهاية العقد الثاني من القرن الـ 21؟! ربما لا يتعدى هذا الوصف، وربما شيء أكثر، فهذه الطينة من المخرجين الكبار تمتلك القدرة على استشراف المستقبل، وقراءة التاريخ، وقوانين التطور التي تتحكم به. ولهذا يبدو فيلم (الأيدي فوق المدينة) محاكيًا في طزاجته، وفي كادراته اللافتة، مأساة مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين، ومآسي أخرى في أمكنة أخرى ربما لا نعرف عنها شيئًا، وهي تحدث وتتكرر في كل زمان ومكان.
يمكن القول إن صورة المخطط التنظيمي الجديد لمدينة نابولي، التي تنهار فيها بعض الأبنية بتنظيم بعض الأيدي الخفية، تشبه في جانب منها، المخطط التنظيمي الجديد لمخيم اليرموك، وكأنه استل فعليًا من الفيلم السياسي المشهور.
وأنا أقرأ وأتابع مثل كثيرين خطط محافظة دمشق للاستيلاء على مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين (جنوبي العاصمة السورية)، تحت مسميات المخطط التنظيمي الجديد للمخيم الصادر عنها، والذي لم يظهر إلى العلن بين ليلة وضحاها، كنت أستعيد الفيلم مرات ومرات، لأن "الأيدي الناعمة" التي تقبع في الظل كانت تعد له منذ عقدين، على أقل تقدير، وليس النفخ العقاري الريعي في هذا المخيم الذي بدأ منذ أكثر من ثلاثة عقود إلا واحدًا من الـ"تمظهرات" الأخيرة الشرسة لهذا المخطط الناعم، الذي بدأ يُسيل لعاب تجار العقارات المتربصين به على الأطراف، باعتبارهم الأداة التنفيذية للاستيلاء على المخيم، بعد أن جرى إيقاظ العائلات الإقطاعية "المنقرضة"، في بلد التقدم والاشتراكية، من سباتها الطويل: (الحكيم، المهايني، الرجّولة، على سبيل المثال) للمطالبة بأكثر من مساحة نصف المخيم، بذريعة أنها مالكة لهذه الأراضي، وسبق أن استأجرتها وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين من الحكومة السورية مدة 99 عامًا في خمسينيات القرن الماضي.

طفلان في احتجاج في دمشق على استمرار حصار قوات الأسد لمخيم اليرموك، ومشاكل إرسال المساعدات للاجئين في المخيم (26/ 4/ 2015/الأناضول)        


تعرّض المخيم طوال فترة حصاره ـ يشكل عقدة المخيمات الفلسطينية في سورية ـ لأعنف عمليات القصف والتدمير، مقارنة بالمناطق المحيطة به (يلدا، التضامن، ببيلا، بيت سحم... إلخ)، وقد اشتدت هذه العمليات بغية تدمير ما يمكن تدميره، قبيل التوصل إلى حل من أي نوع يضمن خروج المسلحين الذين كانوا يتمترسون فيه مع قلة قليلة من سكانه الذين تقطَّعت بهم السبل.

مخيم اليرموك يقع حاليًا في مرمى نيران المخطط التنظيمي الذي طبخ على نار هادئة، وببصيرة حاذقة، وحيل متجددة، عبر تقسيمه إلى ثلاث مناطق بغية إسقاط أي أصوات معترضة، ونزع صفة المخيم عنه باعتباره منطقة لا يمكن إطلاقًا اعتباره من العشوائيات التي ستتم إزالتها، مع انتهاء الحرب من حولها، وهي الحرب التي تبدأ ضمن مقاصد أخرى ستطال سكان هذه "العشوائيات"، بغية إحداث ديمغرافيات جديدة قابضة، كما هي حال النفخ العقاري المتجدد الذي يُسيل لعاب الشركات التي تنخرط في هذه الإحداثيات.

فلسطينيون مظاهرة تضامنية في غزة مع مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين في دمشق (16/ 1/ 2014 الأناضول)


المخطط الجديد يعمد إلى اقتطاع أجزاء كبيرة من المخيم، بذريعة تحويلها إلى الأملاك العامة، كأن يصبح شارع اليرموك بعرض 40 مترًا، لأن الفلسطيني بتعريف محافظة دمشق يملك ما هو كائن فوق الأرض، وليس الأرض، وهذا يعني عمليًا إزالة كثير من المحلات التجارية التي كلفت أصحابها الملايين على جانبي الشارع، ما يعني تلاعبًا بمصائر أهل المخيم، من فلسطينيين وسوريين، سوف يؤدي من جهة أخرى إلى تعقيد عمليات عودة ما تبقى من سكان اليرموك عن طريق سلب أملاك كل من لم يتمكن من أن يثبت ملكيته لعقاره، والذي لن ينجو في مطلق الأحوال من تفريعات التنظيم الجديد، وهو أمر متوقع جدًا، مع التهجير الذي تعرَّض له فلسطينيو المخيم، ومعظمهم صار يقيم خارج الأراضي السورية أصلًا، ولا يملكون أوراق الملكية، وإن بقيت لدى البعض، فإن الذرائعية المنتهجة مع مخيم اليرموك تحديدًا، دونًا عن سائر المناطق المحيطة به، سوف تعطل إمكانية العودة إلى هذه الأملاك مستقبلًا، والمخطط التنظيمي ـ للمفارقة ـ يعطي الوقت اللازم لسلب كل ممكنات العيش المحتملة فيه، إذ يعيش المخيم حتى يومنا هذا على وقع "تعفيش" ما بقي من البنى التحتية التي تطال أسلاك الكهرباء، وتمديدات الصرف الصحي، والسيراميك، والسقوف، والأبواب الخشبية والمعدنية، وكل شيء يمكن أن تطاله يد "إنسان".

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.