}

عن عالم بلا رقص ولا احتفال

اجتماع عن عالم بلا رقص ولا احتفال
سيدة ترقص على شرفة صغيرة في برشلونة (24/4/2020/Getty)

لم يعد مستغربًا على الإنسان الانضباطي الذي أصبحنا عليه، أن يخضع لأي قواعد شُرطية جديدة. فتحَ الوباء كل الأبواب أمام سَن قوانين اجتماعية مختلفة، وترسخت مفاهيم التباعد الاجتماعي كبدهيات في عالم موبوء، لذلك صار من النافل الحديث عن تجمعات في زمن العزل، وبدا من المحرمات السؤال حول الاحتفال في حين يتداعى النظام الصحي العالمي. العالم اليوم لا مجال فيه لأي تجمع عدا تجمعات طوابير الأكل (وأدوار اللقاح لاحقًا)، ولا سلطة فيه إلا للسلطة الصحية، تلك السلطة التي تجعل من الجسد ـ أي جسد ـ حبيس قوانينها وأدواتها القمعية. "لم تعد أجسادنا لنا" تلك (الحقيقة) التي تسعى شبكة قوانين الوباء إلى ترسيخها. تكيفت أنظمة الإدارة البشرية مع سياق الوباء، وما زالت تفرز حدودًا بعد حدود على أجساد الأفراد، حركتها وسكونها. إنها لفكرة مجنونة أن نتخيل عالمًا لا وصاية فيه للأشخاص على أجسادهم، عالمًا لا رقصَ فيه ولا احتفال، عالمًا لا يجد فيه الجسد انعتاقه، يتخزّن كما البضائع، ويفقد لذة التلاشي بين الجماهير.



مجتمعات من دون كرنفالات!
تقع الاحتفالات في الجذر من أي تجمع بشري. لا يمكن أن يكون هناك مجتمع، مهما كانت صيغته بدائية، إلا ووجد فيه طقس احتفالي يجمع أفراد هذا التجمّع. منذ البدء، عدَّ الإنسان الحياة احتفالًا، إنسان ما قبل التاريخ عرف الاحتفال في الولادة والحصاد ومناجاة الطبيعة الأم، وأكدت الكتابات القديمة على احتفالات شعوب الرافدين والفراعنة، وشكلت الاحتفالات الإغريقية، وعلى رأسها احتفالات ديونيسوس، الجذوة الأساس التي انطلقت منها الدراما.

بعد ذلك، أسست الديانات التوحيدية احتفالاتها الخاصة تباعًا، وفي الجهة الأخرى من المحيط، كانت حضارات المايا والأزتك تقيم احتفالاتها الطوطمية. تطورت وتغيرت روح الاحتفال مع تقادم القرون، لكن بقي مفهوم الاحتفال راسخًا في أي مجتمع، وثابتًا أمام دورة الزمن التعاقبية. في كل عام، سنحتفل في الوقت ذاته، واليوم عينه. في السلم وفي الحرب الاحتفال قائم، لا تمنع قيامه معركة أو صراع.

حفلة موسيقية ورقص على شرفات مبنى سكني في برشلونة في إسبانيا (24/ 4/ 2020/Getty)


يتسع مفهوم الاحتفال ليشمل كل الممارسات الطقسية التي تجريها مجاميع، سواء كانت هذه التجمعات لغرض ديني، أو سياسي، أو اجتماعي، أو فني (أعياد دينية، تظاهرات، مهرجانات موسمية... إلخ). ويبقى لكل احتفال ومهرجان فكرته وغرضه وخصوصيته، لكن الرابط الجامع بينها على اختلافها هو "أخلاق المهرجان"، التي نظر لها، ورسم شبكتها المعرفية الناقد الروسي، ميخائيل باختين. لاحظ باختين أنه أثناء الكرنفال تتوقف مؤقتًا القوانين والممنوعات والمحظورات التي تحدد بنية ونظام الحياة اليومية العادية، مما يجعل الكرنفال مكانًا تتكون فيه شبكة أخلاقية مرتبطة به، لكن تلك الشبكة لا تكون حقيقية تمامًا، بل "نصفها حقيقي ونصفها لعب وتمثيل".

إن التغيير الذي يقوم به المهرجان في نمط الحياة اليومية يعمل عمل المطرقة مع الحياة الروتينية للبشر. يزيح الزمن، ويوقفه لبرهة. تنهار الأخلاق في المهرجان وينتصب منطق الاحتفال، منطق لا يقوم على الكذب والصدق كما في الحياة اليومية الجدية، "بل هو المنطق الكيفي للازدواجية والتذبذب بين الصدق والكذب، حيث يكون الممثل هو نفسه المتفرج، والتدمير يؤدي إلى الإبداع، والموت يعادل الولادة من جديد"، على حد تعبير جوليا كريستيفا.
"المهرجان هو المرح الصاخب الذي يعيشه الجميع، يجعل من الناس أهم عنصر في الحياة، بعبارة أخرى، الناس هم المهرجان"، عبارة باختين هذه تذكرنا بما يفتقده عالمنا اليوم، انهارت دورات الاحتفال التي يقيمها البشر منذ انفجار التاريخ، وأصبحت أعيادهم ومهرجاناتهم المختلفة تمر وهم معزولون في منازلهم. أصبح الاحتفال جُرمًا، وأمست للبيولوجيا (وشبكتها العلمية) القدرة على عقاب الشعوب المحتفلة بمزيد من حالات العدوى. انعدام المهرجانات والاحتفالات أودى بالجسد إلى مزيد من الثبات. كل الاحتفالات تتطلب تحريك الجسد، كل الاحتفالات تعيش على الرقص، حتى في الاحتفالات الدينية تلعب الحركة الطقسية ـ حركات الصلوات مثلًا ـ دورَ الرقص. مع تلاشي الاحتفال تباطأت أجسادنا، قلّت مناسبة حركتها، وتكلست في البيوت المعزولة، أو تكاد.



جسد لا يرقص جسد ميت
يبدو الحديث عن الرقص اليوم ترَفًا. في المعمعة الحاصلة لا يمكن القول بأساسية الرقص أمام لهاث البشرية في معركة البقاء. كل الأنظمة السياسية منهمّة بالحالة الاقتصادية زمن الوباء، ويقبع الرقص (كفن وفعل) في أسفل أولويات الكوكب. لكن قد نتسرع بموضع الرقص موقع الثانوي في حياتنا، فالرقص يقبع في المرتبة ذاتها مع الاحتفال بالنسبة للحياة الاجتماعية، هو فعلٌ دال على الحياة، وفيه دائمًا انزياح لحركة الجسد اليومية. كما الرياضة، يخرج الرقص أجسادنا من حركتها الاعتيادية، يحررها، يطلقها بالحد الأدنى للمراقبة العقلية، فتنفجر حركتنا على صورة غير محسوبة ومراقبة، نتركها تتحرك مع إيقاع الرقص وحسب.



تاريخ الرقص البشري
في استعراض خاطف لتاريخ الرقص البشري، نجد أنه منذ البدء كان فعل الرقص يلعب كالمكوك بين ثنائية (فردي/ جماعي)، هو فعل فردي بامتياز، لكنه يتنامى وينطلق حينما يكون هذا الفرد بين مجموعة. الرقص يعتاش على التجمع، على عيون المتفرجين وحضور الآخرين، يستمد الجسد الراقص حركته من أجساد الراقصين الأخرى، تزيد نشوة الجسد وتتسامى حينما يتلاشى بين الجموع الغفيرة، حينما يُدرك أن الكل يراه، ولا أحد يراه في الوقت ذاته.

قبل الوباء، كان هناك سؤال حول الصيغة المعاصرة للرقص، وهنا لا أقصد الرقص بما هو واحد من الفنون، بل بما هو فعل اجتماعي، رقص الأعياد والمهرجانات والبارات. وكونه مرتبطًا بوثاق مع الموسيقى والإيقاع، يختلف الرقص ويتحول حسب تغيُّر وتطور الأنواع الموسيقية. ومع أن مبحث الموسيقى والرقص كبير وواسع جدًا، إلا أنه يمكن القول إن الموسيقى الحديثة غيرت في تصورنا عن الرقص، وعززت من فرديته، ولعبت الموسيقى الإلكترونية المحدثة بمختلف أنواعها (Techno music, Trance, Dubstep …. ) المستخدمة في ميادين الرقص العامة دورًا في تكريس الرقص الفردي، أنت ترقص بين مجاميع صحيح، لكنك ترقص وحدك، تغوص في ذاتك، وفي مكانك وفي مجالك. القِ نظرة سريعة على هيئة الناس الراقصة حولك، وستجد أن كلا بعالمه، كلا في مجاله، لا يشارك فيه أحد. هذه الفردية تزداد وضوحًا حينما نقارن رقص اليوم برقص الصالونات الدارج في القرن العشرين مثلًا، حينما كانت الثنائيات هي الأساس في تلك الأنواع من الرقص.
بعد الوباء، بدأ الأمر أبعد من فردية اختيارية، أُغلقت كل ميادين الرقص، لا مجال للرقص في أي فضاء عام، طال الحظر كل شيء، المسارح والصالات والحانات، حتى الشوارع والساحات المفتوحة سُدت أمام أي تجمع محتمل. حُرّم الاجتماع بقرار طبي ـ سياسي. ورَدمت القواعد الجديدة كل منفذ للرقص بين الجموع. بذلك دخل الرقص ـ رقصنا مرحلة جديدة، يمكنك الرقص في حدود بيتك، غرفتك، أمتارك المعدودة. لم يعد هناك رقص جماعي، أو ثنائي، ولا رقص فردي بين المجاميع، بل رقص انعزالي، إجباري. أُزيح الرقص من مكانته السالفة، تلك التي يتنفس فيها الراقص والراقصة حرية الانعتاق، واختُزل ضمن إطار، وداخل حدود مرسومة بحدة، حدود تخلو منها الرحابة والمدى.



عالم افتراضي وكوكب ثقيل

بروفة رقص باليه افتراضي لحفل قد لا يقام في جاكرتا/ إندونيسيا (25/ 7/ 2020/Getty)


لم يعد رقصنا وحده معزولًا ويطل على العالم عبر نوافذنا الافتراضية، بل صار كل شيء افتراضيًا بالمعنى الحرفي للكلمة. طغى الافتراضي على وجودنا من دون هوادة، وصارت لإنسان العقد الثاني من هذا القرن حياتان: حياة حقيقية يعيشها معزولًا في بيته، يندر فيها وجود الآخرين، وحياة افتراضية تعج بالآخر البعيد القصي. ازداد العالم تقسيمًا فوق قسمته السياسية السقيمة، ولم يبق لنا إلا الأثير لنتواصل من خلاله. الكوكب الذي بدا أنه سريع كبرق أصبح اليوم أبطأ من أي وقت مضى، والخفة التي تميز بها بنو البشر تبددت أمام ثقل العالَم العليل.

كل نشاط البشرية انتقل إلى المنطقة الرقمية، نقضي أمام أجهزتنا وحساباتنا الإلكترونية أكثر مما نمضي مع أي صديق، أو قريب، أو عدو. العمل برمته أصبح عبر هذه القناة، وكامل تواصل الإنسانية مرتبط بها. أصبحت صورة بروفايلنا على برامج التواصل والعمل (زووم، سكايب...) هي صورتنا الحقيقية، وجوهنا فقط ما يظهر للآخر، صرنا مؤطرين، واستحلنا إلى صور متفاوتة الدقة. قد يكون هذا مفيدًا لاستمرار العجلة الاقتصادية ودولاب العمل، لكنه أشبه بتعذيب وانتهاك واضح للجسد، بمعنى أن الجسد (موضوع الوباء والإغلاق) هو الخاسر الأكبر في عملية التحول الافتراضي الطارئة هذه، وقد نتمكن من البقاء على حياتنا الاجتماعية بالحد الأدنى عبر السياق الافتراضي، لكننا غير قادرين على التحكم بأجسادنا المخزنة في المنازل منذ عام. ببساطة، في عالمنا الافتراضي، أصبح وجود الجسد، أو عدمه، سيّان. المهم في الأمر أن ننظر بوجوهنا البائسة للكاميرات، ونتبسم ببلاهة.
"منذ فترة، داهمت الشرطة الألمانية أحد البيوت في برلين، بعد شكوى عن تنظيم حفلة لمائتي شخص، حينما اقتحمت الشرطة المكان لم يجدوا إلا شابًا وحيدًا DJ يلعب موسيقاه في بيته، ويشاركه مئتا شخص بالفعل، لكنهم افتراضيون، يطلون على بعضهم البعض عبر نوافذهم الإلكترونية، يرقصون ويحتفلون كل في بيته/ سجنه". يلخص هذا الخبر حال الرقص والاحتفال في عالمنا اليوم، مشهدٌ ساخر يمثل أسلوب عيش الإنسان المعاصر، ذلك الإنسان المحروم من أسمى درجات الحرية، حرية التجمع والاحتفال والتظاهر والرقص في الفضاء العام.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.