}

عن اليرموك المخيم: بعد عقد ومجزرة

أمكنة عن اليرموك المخيم: بعد عقد ومجزرة
طفلة في غزة تستنكر حصار النظام السوري لمخيم اليرموك(16/1/2014/الأناضول)

تزامنًا مع العدوان الإسرائيلي على غزة، وقصف قوات النظام مزارعي الزيتون في إدلب، يعود بضعة آلاف من اللاجئين الفلسطينيين إلى مخيم اليرموك في دمشق، يفترشون الأرض اليباب التي غدا عليها، حالمين بضخ الحياة فيه مجددًا. وهم كنظرائهم السوريين، والغزيين، يزرعون الزيتون في الوقت الذي يحرقه غيرهم. كل ذلك يحصل في ذكرى اليوم الذي سقط فيه المخيم، قبل عقد وعام، أو بالأصح، قبل عقد ومجزرة.

اليرموك، حكاية فلسطينية كلاسيكية
حصار، قصف، قتل واعتقال، تهجير، تدمير وإزالة. ذلك ملخص حكاية مخيمات اللجوء الفلسطينية، سواء تلك الموجودة داخل فلسطين، والتي نشهد دمارها الكامل في غزة الآن، أو تلك التي بنيت بعيد النكبة في دول الجوار، الأردن وسورية ولبنان. ورغم تشابه دورة حياة المخيمات الفلسطينية، إلا أنه لكل مخيم حكاية وعلامة ميزته في تاريخ الشتات الفلسطيني المفتوح. من هنا، كانت ميزة مخيم اليرموك الأشد وضوحًا، هي مدنيته. بمعنى أن المخيم، منذ تأسيسه تقريبًا، وبسبب موقعه بين الريف والمدينة، انفتح على مدينة دمشق من جهة، وعلى غوطتها من جهة أخرى، ولم يتقوقع على نفسه عمرانيًا، أو مجتمعيًا، بل اختلط بالمحيط، واستحال إلى مركز جنوب دمشق التجاري والاجتماعي.




لم يكن مخيم اليرموك "فلسطين الصغرى" يومًا ما. هذا توصيف يناسب أفلامًا وثائقية ومواقع صحافية تصبو لمغازلة المانحين الأوروبيين. نعم، كان المخيم فلسطين مصغرة، لكن ذلك كان في سنواته الأولى، حينما كان مؤقتًا، حاله حال كل مخيمات اللجوء الفلسطيني في المنطقة. لكن المخيم تحول لاحقًا إلى "سورية صغرى" أيضًا. في عام 2010، قبل عام من الانفجار، وبعد خمسين عامًا من تأسيسه، كان المخيم قد وصل إلى أكبر لحظاته نموًا. في مساحة تزيد على 2 كيلومتر مربع بقليل، موزعة على ثلاثة شوارع رئيسية، استحال اليرموك إلى مدينة حية تكاد لا تنام. شاكلت أسواقه التجارية أسواق العاصمة في حركتها والإقبال عليها، وتطور على المستوى الخدماتي، حيث احتوى على خمس مستشفيات، وعشرات المراكز الصحية، كذلك عدد المدارس والمراكز التعليمية. أما ثقافيًا، فقد شهد المخيم حقلًا ثقافيًا وفنيًا مشتعلًا منذ الثمانينيات، ولم يقتصر الحراك الثقافي والفني فيه على الشأن الفلسطيني، بل شمل الشأن الثقافي السوري، وكان ملجأ ومستراحًا لبعض من مثقفي دمشق وفنانيها. هكذا، كان اليرموك يعيش قصة غير كلاسيكية كمخيم فلسطيني، لكن مع انفجار الثورة، سيجد نفسه، وبحسب طبيعته السورية الفلسطينية، منخرطًا في الأحداث بشكل مباشر، وسيواجه مصيرًا مطابقًا تمامًا مع ما عاشته مخيمات أخرى مثل تل الزعتر، ونهر البارد، وسيتحول المخيم، الذي ظن نفسه لوهلة مدينة لا تموت، إلى كومة ركام وغبار.

الفلسطيني ونزيف الأراضي

النظام السوري سبق إسرائيل في التدمير... حتى المقابر في اليرموك لم تسلم من القصف (7/ 4/ 2015/ الأناضول)


لا تكتمل تجربة وجودك الفلسطيني المعاصر إلا إن عايشت خسارة أرض، الاقتلاع منها، والنفي بعيدًا عنها. يظن بعضهم أن هذا التهجير الدائم هو حكر على فلسطينيي الداخل، حيث يأكل الاحتلال أراضيهم. الواقع، أن هذا طاول فلسطينيي الشتات، أيضًا، أولئك الذين لاحقهم التهجير في منافيهم. خسر الفلسطينيون عمَّان، وخسروا بيروت، وبعدها بغداد، وأخيرا كانت دمشق، برمزها الأشد فلسطينية، مخيم اليرموك. خسر الفلسطينيون مخيم اليرموك، لا بمعنى أنهم خسروا الأرض، بل هي بقيت موجودة تحت سيادة الدولة السورية، ولم تذهب لمحتل أجنبي، لكن ما خسروه هو روح المخيم وشعلته الحيوية، خسروا الحياة فيه.
يعود الفلسطينيون اليوم إلى المخيم تحت وطأة الجنون المعيشي في دمشق، لكنه ليس المخيم الذي عرفوه، اختفت ملامحه وغلب عليه الخراب، يعودون إلى بيوت هدم ركنها، ويقفون على أطلال ورسوم.
قصة المخيم، كما قصة فلسطين، لها أسلوبان للسرد، واحد بسيط واضح ومختصر، والآخر معقد مليء بالتفاصيل والروايات والتوجهات السياسية. القصة البسيطة أن المخيم حُوصر، وجُوّع، وهُجّر أهله، ودُمّر عن بكرة أبيه. جُرّبت عليه، كما حال غوطة دمشق، كل أنواع الأسلحة الروسية والإيرانية، كما قاتلت فيه فصائل إسلامية جهادية تكاد لا تحصى، وجربت فيه أسلحتها هي الأخرى. الصورة الصادرة من المخيم في نهاية عام 2018 هي صورة كربونية عن حي الرمال، أو الشجاعية، في غزة اليوم. مسح مربعات سكنية كاملة، إزالة ملامح المكان العامة، وتحويل الأبنية والشوارع، وحتى القبور، إلى حفرة كبيرة هائلة. أما القصة المعقدة لليرموك فهي تختصر بأنه لو بقي مخيم اليرموك حيًا ومفتوحًا، لربما قد تغير مسار الثورة السورية السلمية، فهو شكل في بدايتها خاصرة المدينة المشتعلة، ليس بالمظاهرات وحسب، بل بالحراك المدني والتنظيمي، وشكل خزان الدعم اللوجستي للثائرين، والمكان الأكثر أمنًا لتنظيم الحراك الشبابي، وكان المجتمع فيه في تلك المرحلة هو المجتمع السوري المديني المتوائم مع طوائفه واختلافاته، والواعي لمطالبه وحقوقه. ولأن اليرموك كان كذلك، فقد دخلته الفصائل الإسلامية من كل حدب، وانهار فيه الوضع الفلسطيني الذي تبنى الثورة، لتنسحب حماس عائدة إلى غزة، وتبقى بقايا الفصائل الفلسطينية التابعة للنظام السوري. ويفرض النظام حصارًا قاسيًا على المخيم يمتد لخمس سنوات، يموت فيه البشر جوعًا، تعيث فصائل المعارضة داخله فسادًا، وتتحارب مع بعضها، وتعفش المخيم لأول مرة. يقصفه النظام ويمحوه، (يحرره) ويعفشه مرة ثانية، ويترك المخيم نهبًا منسيًا، وقبل كل ذلك، في المشهد الأول، قبل عقد وعام، قصفته طيارات النظام في الوقت الذي كان يحتمي فيه نازحو الأماكن المجاورة، ووصل عدد سكانه والمقيمين فيه إلى ما يزيد على مليون شخص في مساحته الصغيرة، ما يذكرنا بغزة أيضًا.

عن الاندماج والعودة المحتومة

أحد جنود النظام السوري على دراجة هوائية في شارع مدمر في مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين (22/ 5/ 2018/فرانس برس) 


كان مخيم اليرموك يشكل العلامة الأشد وضوحاً على اندماج الفلسطينيين في مجتمعاتهم، ليس ذلك الاندماج الذي يذيب الهوية الفلسطينية، بل الاندماج الذي يؤدي إلى عيش مشترك، ويجعل من الفلسطينيين، بكل التعقيدات السياسية للنظام السوري مع منظمة التحرير، قادرين على جعل أنفسهم أبناء المحافظة الخامسة عشرة في سورية. وهذا، من دون شك، يعود إلى طبيعة المجتمع السوري المديني، المتنوع والمختلف، والحمال لكل الأقليات الجديدة. لكنه أيضًا يشير إلى خاصية ظهرت لدى الشعب الفلسطيني في تيهه وشتاته، وهي الاندماج. وربما كان مخيم اليرموك نموذجًا في كيفية اندماج اللاجئ الفلسطيني وانفتاحه، فتراه يدرس ويعمل وينمو اقتصاديًا وثقافيًا واجتماعيًا، ويستحيل إلى فرد فاعل في البلد المضيف، ويستفيد من كل ذلك لتشغيل سرديته الفلسطينية، وإبقاء جذوتها مشتعلة، في نفسه، وفي العالم من حوله.




في عود على بدء القصة، فإن مشكلة الاندماج كانت مشكلة متجذرة في المجتمعات اليهودية في أوروبا، وهي المسألة التي اشتغلت عليها الحركة الصهيونية في بداياتها، على اعتبار أن حل مسألة الاندماج اليهودي في المجتمعات الأوروبية غير ممكن، والحل هو في دولة لليهود، يهاجر إليها كل يهود العالم. مع تأسيس إسرائيل، انتقلت مشكلة الاندماج اليهودي من أوروبا إلى منطقتنا، ولم يستطع المجتمع اليهودي الوليد في المنطقة أن يندمج مع محيطه الإقليمي، وعادت كوابيس الماضي الأوروبي تهدد اليهود، ولم تحل الدولة الموعودة إشكالية الاندماج هذه، على العكس تمامًا، زادت الصدع، ودفعت يهود العالم إلى مزيد من التقوقع والاعتزال، لا بل إن هذه الدولة، وبعد 75 عامًا على إنشائها، خلقت مشكلة اندماج لليهود العرب الذين كانوا جزءًا أساسيًا من شعوب المنطقة، إذ كانوا مجبولين مع باقي الطوائف والملل، ولم يكن سؤال الاندماج واردًا لديهم.
في الضفة الأخرى، كان الفلسطينيون اللاجئون ينحتون مفهومهم الخاص في الاندماج، سواء كان ذلك في البلاد العربية ذات الثقافة واللغة الواحدة، أو في المجتمعات الغربية في أوروبا وأميركا. الاندماج لدى الفلسطينيين كان يتم عبر سَكْب مكوّن هوياتي ثاني مع المكون الأساس "الهوية الفلسطينية". وبذلك، تصبح هويتهم مركبة بمكونين من الأساس، ويتعاملون مع أنفسهم كأبناء البلد الذي ولدوا فيه وشبوا، وفي الوقت ذاته هم فلسطينيون قبل كل شيء. هذا الانتماء شكل لفلسطينيي الشتات المخرَج اليومي المعيشي والمجتمعي من جهة، والارتباط بفلسطين: الوطن/ المثال المشتهى من جهة أخرى. وتبقى مسألة العودة، بما هي حق وواجب، ومفهوم يقبع في قعر الوجدان الفلسطيني، هي الوتد الذي تعزف عليه مكونات هوية الفلسطيني اللاجئ المتنوعة والمختلفة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.