}

عن أول وشم مغربي للروح

نبيل سليمان 30 أغسطس 2021
أمكنة عن أول وشم مغربي للروح
البروكار الدمشقي وفي الإطار البروكار الفاسي المغربي
الميلودي شغموم ونبيل سليمان (يمين)؛ حيدر حيدر (وسط)؛ خناته بنّونه ومحمد زفزاف (يسار)

في مساءٍ يرفل بدفء شمس ذلك النهار من شهر شباط/ فيفري 1980، حطت الطائرة المغربية في مطار الدار البيضاء، قادمة من بيروت، ورمت بي، وبصاحب الرواية التي ستجلجل بعد عشرين سنة، هو حيدر حيدر، وهي: وليمة لأعشاب البحر، في أحضان الشاب الذي أراه أول مرة: الميلودي شغموم، وصديقه السوري الذي كان يدرّس في المغرب محمد حمدان. أكبرنا كان حيدر (44 سنة)، ويليه محمد (37 سنة)، وأصغرهم شغموم (33 سنة)، أما أنا، فقد كنت طفلًا ومراهقًا وعجوزًا في الخامسة والثلاثين، مثلي الآن في السادسة والسبعين.
زيارة شخصية كانت، إذن، سأتابع بعدها إلى باريس، محملًا بخيبة الإقامة شهورًا في بيروت (الحرب الأهلية) مع صديق العمر بوعلي ياسين (1942 ـ 2000). ذلك أننا كنا قد عقدنا العزم معًا على التفرغ للكتابة، فودعت عملي مدرّسًا في دار المعلمات، وودّع بوعلي عمله في وزارة التخطيط، وخلّف كل منا وراءه أسرته الصغيرة.. غير أن بيروت سرعان ما علمتنا أننا لا بد أن نكون تابعين لأحدهم في عاصمة الثورة الفلسطينية ـ اللبنانية. ومن غير ذلك سنظل ضيوفًا أعزاء، ولكن بلا عمل أو دخل. وقد ساعدني وحيدر الصديق الكاتب يحيى يخلف، وكان في تلك الأيام ذا مكانة في منظمة التحرير، بتدبير بطاقة الطائرة على حساب المنظمة.
كان المغرب واحدًا من أحلامي الوحدوية التي لم تزدها هزيمة 1967 إلا وحدوية. وكان ما قرأت من المغرب وعنه قد رسم لي المغرب واحدًا من أحلامي الثقافية أيضًا. وها هي الدار البيضاء، ها هو حيّ مرس السلطان، سيشرح محمد حمدان، وسيصرّ على استضافتنا في بيته، أي في غرفته الفسيحة التي تفضي إلى غرفة صغيرة هي المطبخ والحمام.




بالطبع، ما كان لنا أن نهدأ، ولا أن ننام، يقودنا مضيفنا من شارع إلى شارع، من بار إلى مطعم، من صخب إلى هدأة، من أضواء توشحها قامات النخيل الباسقة كما توشح هي تلك الليلة التي اندغمت بالنهار، كما ستندغم الليالي التالية بالنهارات، واليقظة بالحلم: شارع مرس السلطان، والدجاج المشوي، والساندويتش، والبار، وشارع محمد الخامس، وميدان محمد الخامس، وساحة الحمام، وشارع الحسن الثاني، والأحباس، وباب مراكش، والفضة، والفخار، وشارع البازارات، والجمالون الأخضر يروّس العمارات، والمكنسة ذات العصا الطويلة تنظف الشوارع، وكراسي الخيزران على الأرصفة، والمعاريف، والصديق المضيف يشرح وأنا أتلقف الألوان الزاهية والقاتمة التي تزداد زهوًا وقتامة، والجلابة ـ عندنا نقول الجلابية ـ يغمر الكاحل، ولا خصلة شعر يمكنها الفرار من غطاء الرأس، والبرنوس، والبرد في الليل، والمطر الناعم الخجول مثل الشمس الناعمة الخجولة، ويا رب ما هذا البهاء الذي يرميني في لطف الدُّوَار؟

مدينة شفشاون المغربية (Getty)


مهما توقدت الذاكرة، وأخلصت، فقد تقرّب بعيدًا وتبعد قريبًا، وتغزل طيفًا بطيف، ولها المغفرة عندما يبلغ صاحبها من العمر عتيًا، فكيف لذلك الشاب الملطوش بالسحر المغربي أن يتبيّن ما إن كان التقى محمد زفزاف في شارع البارات (هو بار ماجستيك؟ لا، لا، إذن هو بار أرنياس. لا، لا، إذن..) بل في مقهى شهرزاد، بل في التيرمينوس، بل في واحد من تلك البيوت الخفيضة التي أشارت إليها ذراع زفزاف: هناك أسكن.
لكنني التقيت محمد زفزاف حقًا في بيتي في مدينة الرقة، ونهر الفرات على ما أكتب شهيد، فقد تلقف معي قصص محمد زفزاف (حوار في ليل متأخر)، كما تلقفتْ معي القلعة روايته (المرأة والوردة) في أول عهدي بحلب، وقد انتقلت إليها من الرقة مطلع عام 1972. وسأقرأ بعد سنوات لزفزاف (أرصفة وجدران) التي قَدِمتْ من بغداد، ثم سأقرأ له (الأقوى) التي نشرها اتحاد الكتاب العرب في دمشق عام 1978 بعد سنة واحدة من تطويب علي عقلة عرسان للاتحاد ثمانية وعشرين عامًا.
مع كل قصة أو رواية، كان اللقاء مع محمد زفزاف يتجدد، ابتداءً بما كتبتُ عن مجموعة (حوار في ليل متأخر ـ جريدة البعث 26/2/1971 ـ دمشق). أما في الدار البيضاء فقد بادرني في اللقاء الأول معاتبًا على ما جاء في تلك المقالة قبل تسع سنوات، حيث زعمت أنه "لم يتجلّ كما هو حقًا قمة عربية قصصية". كما كتبت: "ولعل القصص الأولى فيها (العصافير ـ الشمس تشرق مرة واحدة ـ الطفل والكلب) تتدنى كثيرًا عن آخر مستوى رقى إليه زفزاف. ومن الملاحظ أن اختيار قصص المجموعة لم يكن له ناظم واحد".




في ذلك الزمن البعيد الغرير، قبل خمسين سنة، حيث كان الحمام الزاجل، أو البريد العادي، هو وسيلة الاتصال، قرأ محمد زفزاف مقالتي، وقرأت إبداعاته، وكان ما بين المشرق والمغرب أقرب منه في عهد الإنترنت والدرَك المريع الذي هوى إليه النشر والتوزيع والصحافة والرقابة في (بلاد العرب أوطاني)، والرحمة لفخري البارودي (1887 ـ 1966) الذي كتب هذا النشيد قبل أقل من تسعين سنة بقليل.
في تلك الأيام (البيضاوية) الأولى، أو في ما سيلي من أيام رباطية وفاسية وإفرانية.. لن يفارقني ذلك النشيد وأنا أرى كم هي الأندلس قريبة، وكم هن الموريسكيات دمشقيات. وعندما سمعت حديث (الشدة التطوانية) ولباس العروس ليلة الزفاف، أو لباس ليلة القدر، أو لباس الطفلة ليلة البلوغ، ترنّمتُ بنشيد فخري البارودي (بلاد العرب أوطاني/ من الشام لبغدان/ ومن نجدٍ إلى يمنٍ/ إلى مصر فتطوانِ). وها هي تطوان البعيدة قريبة، وها هو التاريخ يغتسل من العصبوية والقومجية والثورجية، فأراني أبدأ أغتني بالأمازيغية مثلما اغتنيت في سورية بالكردية، أو الأرمنية، أو التركمانية، أو الآشورية، أو السريانية..
في غمرة الحلم (البيضاوي)، كان اللقاء مع خناته بنّونه، وكنت قد قرأت مجموعاتها القصصية "ليسقط الصمت"، و"الصورة والصوت". كما قرأت مجموعة "العاصفة" في بيروت قبيل زيارة المغرب. وقرأت رواية "النار والاختيار"، وقد حدثتها عما أطاشني من بيع نسخة من الرواية بمليون فرنك، والريع لفلسطين. وأذكر أننا جلسنا في حلقة كبيرة على العشب (أم على كراسٍ خفيضة؟)، وكانت خناته مفتونة برواية حيدر الفاتنة "الزمن الموحش".
بعد أسبوع، أو أقل، حملتنا استضافة صديقنا المضيف بسيارته الصغيرة، ومعنا الميلودي شغموم، إلى الرباط، حيث التقينا محمد برادة، الذي كان رئيس اتحاد الكتاب، وكنت قد تعرفت على كتابة عبد الكبير الخطيبي بفضل ترجمة برادة لكتاب "الرواية المغربية". كما كنت قد قرأت في بيروت قبيل زيارة المغرب كتاب برادة "محمد مندور وتنظير النقد العربي"، ومجموعته القصصية "سلخ الجلد". ومن الرباط تابعنا إلى بيت محمد عز الدين تازي في فاس، وسهرنا سهرة حامية بسبب السجال بيني وبين حيدر حول الأيديولوجيا والأدب. وكانت الأصداء المدوية للكتاب المشترك لي ولبوعلي ياسين "الأدب والأيديولوجيا في سورية ـ 1974) قد سبقتني إلى المغرب.




من فاس، تابعنا الرحلة إلى إفران، في طريقنا إلى مراكش. وفي ذلك الجبل المكلل بالثلج والخضرة، في إفران، تقاذفنا الكرات البيض، ولغطنا مع اللاغطين واللاغطات، وحملنا المؤونة، من أسياخ اللحم، ومن النبيذ، إلى السيارة التي تابعت الزحف على الطريق الضيق المغسول بذوب الثلج.
في المقدمة، كان حيدر، ومحمد، الذي يقود السيارة، وفي المقعد الخلفي جلسنا، شغموم وأنا، متقابلين ومتربعين وقد خلعنا أحذيتنا، وكلٌّ يتلذذ بالسيخ والزجاجة، وفجأة اصطدمت السيارة الصغيرة النازلة بشاحنة كبيرة صاعدة، وما كان أمامها إلا أن تصطدم، أو ترتمي في الوادي السحيق.
على الدم يتدفق من جبين حيدر، وجبين محمد، صحونا. وعلى عجزي عن جرّ ساقي، وعجز شغموم عن الوقوف على قدمه، صحونا. وعلى أصوات وأيدٍ تحملنا إلى سيارة، صحونا، وعلى أسرّة أربعة في مشفى خنيفرة، في قسم توليد النساء ـ لم يكن من سرير فارغ في الأقسام الأخرى ـ صحونا على سبع عشرة قطبة في كل جبين، وعلى كسر في ساقي اليمنى، وكفي الأيمن، والتواء في قدم شغموم. ودوّى في الصحافة خبر الكاتبين السوريين في مشفى خنيفرة، وأذكر أن نزيلات من المشفى، أو زائرات، زرن الضيوف المساكين ودعون لهم.
عدنا إلى الدار البيضاء: شغموم إلى منزله، حيدر إلى بيروت، وأنا إلى السرير ثلاثة أسابيع، إلى أن يجبر الكسر، أثقلتُ خلالها على الصديق المضيف.
واحد وعشرون يومًا، إذن، مع العكاز والأطياف والأهلاس. راعٍ اسمه خنيفر يهتف: أنا جدّ أجداد خنيفرة. من شرح لي؟ هذا الجسر، وهذا نهر أم الربيع، وهذه خنيفرة يمين، وخنيفرة شمال. برد قارس. مطر. نديف الثلج. يوم في المشفى، ثلاثة. وهذه هي المحمدية. هنا يقيم محمد بنّيس. ومحمد بنيس ومعه أدونيس يملآن الغرفة التي أسرتني واحدًا وعشرين يومًا. أدونيس قادم من باريس ليحيي أمسية، أو ليحاضر، ولا يفارقه محمد بنيس الذي أخبره بحادث خنيفرة الجلل. أدونيس يعاتبك لأنك أقمت في بيروت شهورًا ولم تتصل به. وفي بيروت، في الأمس القريب عانقت ترجمة بنيس للكتاب المعجزة: "الاسم العربي الجريح". هل ستلتقي بالخطيبي؟ لا. هل ستلتقي بعبد اللطيف اللعبي؟ نعم. كيف وهو في السجن؟ الجواب عند (إلى الأمام)، أو (23 مارس)، أو (أنوال)، أو عمر شرقاوي، الطالب في جامعة حلب وقد أبعدوه إلى بيروت جرّاء مساهمته في الاحتجاج على التدخل السوري في لبنان (1975).
حلب، بيروت، الدار البيضاء، سورية، لبنان، المغرب، وأنت تكتب في جريدة "الجماهير" الحلبية (30/5/1973) عن مسرحية (حليب الضيوف)، الكاتب أحمد الطيب العلج، والمخرج فواز الساجر: "إن حليب الضيوف صرخة ملتاعة من صرخات الهزيمة، تطمح إلى خلع الصدور، فلعلها تشرع للريح والفاعلية، ولكن المسافة بين الصرخة والآذان امتدت طوال السنوات الفائتة على الهزيمة". لا بأس. لا تبتئس فقد كنتَ في الثامنة والعشرين من عمرك، وفي السادسة من الهزيمة، عندما كتبت. وهذا الطيب الصديقي أيضًا في المهرجان الأول للفنون المسرحية في دمشق، يقدم (مقامات بديع الهمذاني)، كما يقدم أحمد الطيب العلج مسرحية (السعد). كم هي المغرب، إذن، قريبة، وأنت تكتب في جريدة الجماهير أيضًا (10/5/1972) عن الرواية في المغرب، وقبل ذلك بسنة عن القصة، معولًا على كتابي محمد الصادق عفيفي (القصة المغربية الحديثة ـ 1961)، و(الفن القصصي والمسرحي في المغرب - 1971).
دعك من ذلك وتعال إلى البروكار الفاسي لتضمه إلى البروكار الدمشقي. تعال إلى الزلّيج، والسلهام، واللثام، والكندورة، وهذه لزوجتك، وهاتان لابنتيك. تعال إلى المهدي بن بركة، والاتحاد الوطني للقوات الشعبية، والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. تعال إلى مجلة (أقلام)، ومجلة (أنفاس)، واجمع الكتب المدرسية المغربية في الابتدائي والإعدادي والثانوي وفي غير العلوم، واحملها معك إلى باريس، ثم عدْ بها إلى اللاذقية مواعدًا أن تتابع نقدك للكتب المدرسية العربية، بعدما نشرت كتاب (النسوية في الكتاب المدرسي السوري ـ 1978). أما ما ستقرأ في السرير فهو كتاب (دروس في الفلسفة) لمحمد عبد الجابري، وأحمد السطاتي، ومصطفى العمري... إيه يا زمن!

الدار البيضاء  (Getty)


ستقرأ في السرير مخطوطتين لشغموم، روايتان قصيرتان، وستقترح أن تصدرا معًا في كتاب واحد بعنوانيهما: (الضلع والجزيرة)، وستحمل الكتاب إلى بيروت لتيسّر نشره في دار الحقائق في تلك السنة نفسها (1980).




في واحد من نهارات السرير الطويلة، تتكرم خناته بنونه فتقلّك بسيارتها إلى الشاطئ، وتغالب العكاز حين تدخل إلى السيارة، وحين تقعي على الرمل، وحين تخرج من السيارة. وفي كثير من ليالي السرير الطويلة تعود إلى الرقة، أو حلب، أو دمشق، أو اللاذقية، تغني (الله يا مولانا)، وتغني (فين غادي بيّا خويا)، وتغني (يا لخالقني صار كل عربي ف أرضك مشطون)، ثم تتشمم في درب مولاي الشريف رائحة (ناس الغيوان)، وتلوب على رائحة (جيل جيلالة)، وتلوّح بما كتبه عبد الرحمن جيران عن روايتك (ثلج الصيف) سنة 1973 ـ ستلتقيان لأول مرة في الأقصر في 2017، بعد 44 سنة، وتستذكر تلك المقالة ـ وفي غمضة عين من نهار أو ليل تومض إنغريد برغمان في فيلم كازابلانكا، سوى أن الفيلم هذه المرة ليس بالأبيض والأسود، بل بالألوان التي يتّقد بها وشمٌ مغربي لروحك، ليس مثله وشم.

مقالات اخرى للكاتب

استعادات
1 مايو 2024
استعادات
15 أبريل 2024
يوميات
31 مارس 2024
آراء
15 مارس 2024

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.