}

أقمار كنعانية ملونة

نبيل سليمان 15 مارس 2024
آراء أقمار كنعانية ملونة
حسين البرغوثي

في غرّة كل دورة من دوراته الشهرية، أترقبه من على شرفة منزلي الجبلي وهو يلون الأفق بمثل حمرة الشفاه الطفلية، قبل أن يبدأ بالظهور من خلف السلسلة الجبلية، مدورًا أحمر، فألبث مسحورًا إلى أن أنتبه فجأة إلى أنه غادر الأفق والحمرة، وسطع بياضه، فيكون لأبي نواس أن يخاطب فاتنةً: "يا قمر الليل إذا أظلما". وهو، إذًا، القمر الذي لا يُذكر إلا ببياضه. لكنّ للشعر وللعلم قولًا آخر. فهذا الشاعر المغربي عبد الرفيع الجواهري يقول: "خجولًا أطلّ وراء الجبال/ وجفن الدّجى حوله يسهر/ أفي مرجكم تولد البسمات؟/ أفي ليلكم قمر أحمر؟".
إنها قصيدة (القمر الأحمر)، التي غناها عبد الهادي بالخياط. وهذه نبذة علمية وجيزة وميسرة لسُذّج أمثالي تحكي عن مكونات الغلاف الجوي حول الأرض، إذْ يتبعثر الضوء الأبيض المنعكس عن القمر، فتتشتت ألوان الطيف الأزرق، وتبقى ألوان الطيف الأحمر، حتى إذا ابتعد القمر عن الأفق يبدأ الظهور باللون الأبيض. ويُعرف الخسوف الكلي للقمر باسم (القمر الدموي)، حيث يتحول لونه إلى الأحمر القاني.
لكن ذلك أمر، والقول بالقمر الأسود أمر، وأي أمر! فهذا القمر يدفع بمشاعرك الكريهة (السوداء) من أعماقك إلى الفضاء، فيكون عونًا لك في الصفاء. وفي العلم أنه عندما يظهر في الشهر نفسه قمران، يتلفع الثاني بالسواد والدكنة. وقد قرأت منذ حين للشاعر أديب كمال الدين قوله: "كنا ثلاثةً، والقمر الأسود يحرسنا/ بعبثه الأسود كان يحرسنا من أنفسنا/ يا ليتني بقيت مخدوعًا من دون قمر أسود/ ويا ليتني بقيت قمرًا أسود". كما قرأت للشاعر المكسيكي خورخي كونطريراس قصيدة (القمر الأسود)، ومنها: "يا قمرًا قد أمسى الآن ليلًا/ إني أستشفّ حضورك/ أيها القمر/ يا أيها الأسود/ خذ لك مني ظلي أيضًا".
قمر أحمر، قمر أسود، وهذا قمر أزرق... دعوا العلم لأهله، وأهلًا بالشعر. يقول الشاعر العراقي وحيد خيّون في قصيدة (القمر الأزرق): "لعينيك والنهر والأمسيات/ وللقمر الضاحك الأزرق". ولكن هذا هو الشاعر السوري أحمد سليمان الأحمد يقول: "برتقاليّ معلق/ بشعاع حالم الرعشة أزرق/ آه كم ودّ القمر/ لو تعلق/ بشعاع حالم الرعشة أزرق"، ونحن، إذًا، مع القمر البرتقالي. وقد قالوا إن لون ضوء القمر يميل إلى الأزرق الفاتح بالنسبة لعيوننا، وبخاصة عندما يكون بدر التمام. ويقال: الأزرق الفاتح هو الدثّار الأوليّ للقمر، بينما الأزرق الغامق هو الدثار المستنزف. وثمة من تحدث عن القمر الأخضر ـ وهو ما عدّته الجمعية الفلكية السورية كذبة ـ والقمر البنفسجيّ أيضًا، ولكن ما لنا ولكل ذلك؟ لماذا لا يكون حسبنا ما قال المتنبي: "واستقبلتْ قمر السماء بوجهها/ فأرتني القمرين في وقتٍ معًا"؟




أن يُرسِل الشعر في القمر ما يحلو له، وأن يلونه كما يشاء، فهذا مألوف، ولكن أن ينافس السرد الشعر في ذلك، فهو النادر الغريب الذي اجترحه حسين البرغوثي في سيرته الأولى (سأكون بين اللوز)، وفي سيرته الثانية (الضوء الأزرق).
وحسين البرغوثي الفلسطيني شاعر وروائي ومسرحي ومترجم وأكاديمي، عاش ثمانية وأربعين عامًا، وغاب عام 2002 بعدما كابد مرض السرطان طويلًا. وهو الكاتب الوحيد فيما قرأت لعرب ولغيرهم، كان للقمر، وللون الأزرق، في سرديته في سيرتيه، وفي روايته الوحيدة ذلك الحضور الكثيف الباذخ. ففي "سأكون بين اللوز" لا تكاد تحضر الطبيعة ـ وما أكثر وما أبهى ما تحضر ـ من دون القمر، كأن يحدثنا الكاتب أن أمامه (مرجًا مقمرًا)، وللمرج لون الملح الأبيض الذي يشبه (بلورات قمرية) تكاد تشفّ عما في باطنها. وأمام باب المغارة شعر بأن (الإنسان ظل خفيف ومقمر). وعن مرضه يكتب حسين البرغوثي أن ظهره كان يتلوى من الوجع "كأفعى بين ظلال اللوز المقمرة". ويكتب كأنما يستشرف رحيله: "حتى بقايا نهايتي في ظلال اللوز المقمرة". أما حينما أزهر اللوز، فقد بدا النّوار فراشات بيضاء توالدت من ضوء القمر. وتنثال صور الطبيعة الجبلية لقريته التي ولد فيها، وفيها قضى: جنائن الزيتون المقمرة، الجبال المقمرة، الأودية العميقة المقمرة، الفضاء المقمر، فيء الزيتون المقمر... لكن قمر حسين البرغوثي لا بد أن يتلون إما بالحمرة، أو بالزرقة.


في مرضه كتب "أنا الظل المقمر الأحمر عند خط الشفا". وشبّه المرض بالزمن في كسر الزوايا الحادة فينا، فبدا هو في نظر نفسه ظلًا مقمرًا لقمر أحمر واقفًا فوق صخرة عند خط الشفا. وخط الشفا هو خط الأفق الذي يفصل قمّة الجبل عن السماء. وعند خط الشفا رسم قمرًا أحمر حمرةً داكنةً فوق كائنات ترسل موسيقى تصويرية. وثمة، في هذه البقعة من (اللامكان) الزهور المتوحشة التي "ستفتح قدميك لكي تشبهها حمرة القمر".
في "سأكون بين اللوز"، لا يكاد يظهر القمر الأزرق غير مرة في ليلة عاصفة، وكان كالحًا ثم اختفى. لكن حسين البرغوثي أودعنا سيرته (الضوء الأزرق) عن سنواته في مدينة سياتل في أميركا (1985 ـ 1992)، حيث جذبه اسم حانة (القمر الأزرق). والأزرق ـ فيما يقال ويُكتب هو ـ مهدئ، أو لون النفس الأمارة بالسوء، كما تعتقد الطائفة النقشبندية، أو هو لون كائن فاض عن طبيعتنا الأولى، كما تعتقد بوذية التيبت. أما عند المزدكية الفارسية فالأزرق إبليسي المعنى. وعند الكاتب نفسه: الأزرق لون الغربة، وسماء الطفولة، وربما هو نواياه السيئة.
في فلسطين، كما يكتب البرغوثي: لون الذاكرة قمري. واللون القمري دليل على يقظة قوة الخيال، بينما (النيون) الأبيض يشبه القبح، وبارد لا يطاق، ويبدو أنه يدمر الدماغ، وأنه شمس من كهرباء. وفي سياتل تعثر البرغوثي بنص مذهل للهنود الحمر يُدعى (حلم الأيّل الأزرق). وفي مدينة سياتل سكنت البرغوثي عبر الشعر "زرقة بحر على حد صفرة الرمل". وقبل سياتل، عندما كان طالبًا في بودابست، ويسكن على ضفاف نهر الدانوب، كان يتخيل نفسه في جبال الطفولة الزرقاء الغامقة، وجسمه كتلة من هلام أشبه بجنين أزرق، ونقرأ: "وبدا كأن هناك زحفًا أزرق في روحي"، ويومئذٍ سمع بموسيقى الدانوب الأزرق. وسيلي أنه تخيلّ نفسه بحرًا، وفي أقاصيه ضباب أزرق.
ليس الأزرق أو الأحمر لونًا للقمر فقط، بل لروح حسين البرغوثي الذي يحدثنا عن قمر من حديد ـ ما لونه إذًا؟ ـ حين سأله ابنه الطفل (آثر) عبر الطائرة التي كانت مارقة قرب القمر، وكانت تستخدم لتصفية نشطاء الانتفاضة الفلسطينية: "حسين هذه الطائرة من شو؟" فأجابه: "من حديد" فسأل الطفل: "وهل يخاف القمر من الحديد"، وأجاب الأب: "نعم نعم، يخاف القمر من الحديد"، وقد تناسلت أسطورة هذا القمر، ومن ذلك أن الطفل آثر يتحدث عن القمر هلالًا: "يشرب الحليب ويمشي معي إلى أمه القاعدة على رأس الجبل".
قمر للطفل ـ بأي لون؟ ـ وقمر أحمر وقمر أزرق للأب، والأب والابن في أرض كنعان، يستظلان بسماء كنعان التي تترصع، ليس فقط بالنجوم، بل بأقمار ملونة.

مقالات اخرى للكاتب

استعادات
15 أبريل 2024
يوميات
31 مارس 2024
آراء
15 مارس 2024
آراء
1 مارس 2024

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.