القوة، المنفعة والجمال، هي العناوين الرئيسية التي استند إليها المعماري العثماني (الألباني الأصل بحسب معظم المصادر) خوجة سِنان آغا (1489 ـ 1588)، في مِعماره الذي ملأ الدنيا وشغل الناس.
في ذروة الفورة المعمارية العثمانية، ولد سنان وكبر، فهو، إذن، لم يبدع وسط عمارة عرجاء. العمارة العثمانية في دورها، لم تبدع منجزها المعماري الأخاذ وسط عمارة إنسانية عرجاء، فهي، في مجملها، تأثرت بعمارة من سبقوها من البيزنطيين والسلاجقة والرومان والعرب. أي تأثرت، على وجه العموم، بجلِّ وأجلِّ ما وصلته العمارة الإنسانية في ذلك الزمان البعيد من نهايات القرن الرابع عشر، ومطالع القرن الخامس عشر (أي قبل ولادة سنان بحوالي قرن من الزمان)، عندما بدأت العمارة العثمانية تسطع وينتشر صيتها، وتحقق مكانة لها في سجل شرف عمارة الحضارات.
مسيرة يكمّلها سنان..
الجامع العظيم، أو أُولُو جامع (بالتركية: Bursa Ulu Camii) في بورصة مهد الإمبراطورية العثمانية، شكّل، بشكل أو بآخر، التتويج المبكر، لانطلاق ما أطلق عليه بعد ذلك: العمارة العثمانية.
فـ"جامع بورصة الكبير"، بحسب التسمية الأجنبية، أنجز تشييده في العام 1399، بعد ثلاثة أعوام، تقريبًا، من بدء بنائه، عندما فرض السلطان العثماني بيازيد الأول على نفسه نذرًا إن هو انتصر على أعدائه في معركة نيقوپولس (1396) أن يبني عشرين مسجدًا، فاحتال مستشاروه، ومنهم صهره، على الصعوبات اللوجستية والكلف المالية لنذره، بأن شيدوا جامعًا تعلوه عشرون قبّة، بدل تشييد عشرين مسجدًا، خصوصًا أنه قال حرفيًّا "إن انتصرت فسوف أبني عشرين قبة"، قاصدًا عشرين مسجدًا، فالقباب كانت تعني المساجد، والمساجد لا تكون مساجدَ من دون مآذن وقباب.
المسجد العظيم، أو "الأعظم"، أو "الكبير"، أو "الشاهق" (هناك مساجد أخرى في تركيا، في أضنة وأنقرة وأنطاليا، وغيرها، تحمل الاسم نفسه)، مجهول النسب المعماري (في حين لم أستطع، على وجه الدقة، معرفة المعماريّ الذي صمّمه، فإن الاعتقاد السائد تركيًّا أن علي نجّار، وحاجي عوض، هما المعماريان اللذان قاما بتصميم أُولُو جامع والإشراف على بنائه). تأثر تصميم المسجد في وقته تأثرًا لا لبس فيه بالعمارة السلجوقية، ومن قبلها البيزنطية، مع اختلافات فرعية وتفصيلية، هي، في نهاية المطاف، الاختلافات التي تراكمت على مرّ الزّمان مشكّلة سمات العمارة العثمانية.
بحسب بعض المصادر التي تحتاج إلى مزيد من البحث والدراسة، فإن العمارة العثمانية هي العمارة التي بدأت تلوح إرهاصاتها الأولى مع نهايات القرن الثالث عشر الميلادي، أي مع بزوغ شمس العثمانيين (أرطغرل، وابنه عثمان غازي، وعمومتهم)، الذين ما لبثوا خلال قرون قليلة أن أصبح لهم إمبراطورية مترامية الأطراف، ضمّت إليها، في فترات مختلفة، كثيرًا من دول أوروبا في البلقان، وما حولها، إضافة، طبعًا، لمعظم الشرق الإسلامي، إن لم يكن كلّه، من بلاد فارس شرقًا، وحتى مصر غربًا، فإذا بالقارات جميعها (المعروفة في ذلك الزمان) تدين لهم: كثير من دول قارة أوروبا، وكثير من دول قارة آسيا، وكثير من دول قارة إفريقيا.
عليه، فإن تلك العمارة هي المزيج المتوقع من سمات عمارة الدول التي وصلوها، أو تعاملوا معها، أو اطّلعوا على منجزها المعماري، واستحسنوا بعضه، أو أعجبوا بمفردة منه.
هذا ما كان عندما قبّب العثمانيون (شيّدوا القباب) فوق أول مسجد سلجوقيٌّ في بورصة (المسجد الحرام)، معلنين انتهاء زمن الإيوانات التي تتوسطها باحة سماوية (مفتوحة على السماء)، وانتهاء زمن المصلّى في الجهة الجنوبية من هذه الباحة، وتلك الإيوانات. وهذا ما كان عندما وجدوا في القباب مفردة زاهية مقدسة محاطة بالنسب الذهبية، فعشقوها (وهم الأقرب للصوفية من باقي الحضارات الإسلامية المتعاقبة)، وأكثروا منها، فلا تكاد تجد مسجدًا في إسطنبول جميعها، وفي باقي حواضر تركيا الحديثة، إلا وتعلوه قباب كثيرة، وليس قبة واحدة، كما كان الحال عند البيزنطيين، ثم لحقهم السلاجقة فظهرت في بعض مساجدهم في أصفهان وغيرها، قبة صغيرة خالية، تقريبًا، من رؤى الجمال وهواجسه، وربما يشكل ضريح خالد وليد، في وسط باكستان، نموذجًا ساطعًا لهذا النوع من القباب.
قبّة حادّة (مخروطية) تشبه رأس المئذنة، هذا ما بقي من العمارة السلجوقية الأناضولية، إضافة لاهتمامهم اللافت بالعمارة الخارجية (عمارة المدن، العمارة الحضرية، العمارة الخدمية، عمارة البنية التحتية، وأي اسم تقترحونه لهذا النوع من العمارة) من جسور وشوارع ومستشفيات (بيمارستانات) ومدارس وشوارع وخانات وما إلى ذلك. عمارة غاب عن معظم منجزاتها المنظور، مع استثناءات قليلة، كما في النصب التذكاري المعماري في أرضروم التركية، حيث يظهر فيه المنظور جليًّا متناسقًا.
في حين جاء تأثر العمارة العثمانية بالعمارة السلجوقية قليلًا (رغم قرب الحضارتيْن القبليّ والزمنيّ والوجدانيّ)، وغير جوهري، فإن تأثرها بالعمارة البيزنطية جاء لافتًا، وفي أحيان كثيرة، ومن دون مبالغة، جوهريًّا. وإذا علمنا أن العمارة البيزنطية ما هي في واقع الأمر إلا عمارة رومانية متطورة عنها قليلًا، أو موجهة لها للتماهى مع طبيعة القسطنطينية عاصمة البيزنطيين، وأن العمارة الرومانية تأثرت (كثيرًا) بالعمارة الإغريقية، فإنه، والحال كذلك، يسهل علينا، التقاط معظم مصادر العمارة العثمانية. فعلى سبيل المثال، يصعب على ناظرٍ بتحديقٍ متأمّلٍ لكنيسة القديس بطرس في قلب الفاتيكان، أن لا يلتقط التشابه الكبير بين قبّة تلك الكنيسة العريقة، وقباب مساجد العثمانيين. هذا التأثر تطوّر مع الأيام، ووصل ذروته بعد دخول العثمانيين القسطنطينية، ومنْح محمد الفاتح (1432 ـ 1481) اسمًا آخر لها هو إسلامبول، أو الأستانة (إسطنبول حاليًا).
ما بدأه العثمانيون منذ إعلان عثمان الأول بن أرطغرل (1258 ـ 1326) (الملقب عثمان غازي)، من تشييد عمارتهم الساعية لأن يصبح لها نكهتها الخاصة بهم، المتقاطعة مع مساعيهم لفرض وجودهم وتوسيع كيانهم، أكمله سِنان بعد ثلاثة قرون من انطلاقهم. في الحقيقة هو لم يكمله وحده، فعموم المرحلة التي تلت انتصار محمد الفاتح، و(تحريره) القسطنطينية، شكّلت حراكًا عثمانيًّا حثيثًا ودؤوبًا وواسعًا لترسيخ عمارة تؤكد ما سبقها، وتحاول تلمس سمات خاصة بها؛ إنها المرحلة التي اتفق على تسميتها "الفترة العثمانية المبكرة، أو الأولى"، حين كان الفن العثماني ما يزال يبحث عن أفكار جديدة. شهدت تلك الفترة ثلاثة أنواع من المساجد هي: مساجد متعددة المستويات، المساجد وحيدة القبة، والمساجد منحنية الزوايا. في هذا السياق، يُعد مسجد حاجي أوزبك في إزنيق (1333) أول مركز مهم للفن العثماني، وهو أول مثال على مسجد عثماني ذي قبة واحدة.
بعد تحوّل العاصمة من بورصة إلى إسطنبول، بدأ سريعًا تشييد المساجد والقصور والمباني في محاولة للتأشير على عمارة عثمانية مستقلة عن سابقاتها من العمارة الإنسانية. مسجد بيازيد الثاني سبق غيره في إطار هذه المحاولات، تلاه مسجد الفاتح (1470)، ومسجد محمود باشا، وكشك البلاط، وقصر توب كابي. حيث دمج العثمانيون المساجد في المجتمع، وأضافوا إليها مطابخ الحساء والمدارس الدينية (اللاهوتية) والحمّامات التركية والمقابر.
ثم جاءت مرحلة سنان (يحلو للأتراك تسميته معمار سنان)، لتشكل هذه المرحلة، خصوصًا مع امتدادها زهاء سبعة عقود على الأقل، ذروة الحضور المعماريّ العثمانيّ بلمساته متعددة الأصول والمنابت. كيف لا وهي المرحلة التي جاب خلالها سنان جهات الإمبراطورية الشاسعة مشيّدًا مبنى هنا، مرممًا مبنى هناك، واضعًا لمساته في مفردة معمارية هنا، مضيفًا على مفردة سابقة لمسة عثمانية هناك.
وأما لماذا قلت سبعة عقود على الأقل، فسبب ذلك أن أول عمل هندسي أنجزه سنان كان في عام 1526، عندما تمكّن، وهو في الجيش الإنكشاريّ التابع للسلطان سليمان القانوني (1494 ـ 1566)، من بناء جسر فوق نهر "بروت" خلال 13 يومًا فقط، ما عّزز ثقة السلطان به، وعيّنه، بالتالي، بعد هذا الإنجاز، في منصب كبير المعماريين. ومنذ 1526، عندما لم يكن يتجاوز عمره السابعة والثلاثين، وحتى عام 1583 (أي في مستهل تسعينيات عمره)، عندما وضع في ذلك العام تصميم جامع الملكة صفية في القاهرة، ولم يمتد به العمر ليرى ذلك الجامع الموجود حتى يومنا هذا، قائمًا ومشيّدًا، فإن عقودًا طويلة واستثنائية من تاريخ العمارة العثمانية تحققت على يديه، ومن قدح عبقريته المعمارية.
مرحلة يمكن وصفها بالفترة الكلاسيكية للعمارة العثمانية، حققت عمارة الأناضول خلالها تطورًا ملحوظًا على سماتها السابقة. وشهدت العمارة العثمانية خلالها توحيدًا جديدًا، ومواءمة بين الأجزاء والعناصر والتأثيرات المعمارية المختلفة التي استوعبتها العمارة العثمانية سابقًا، ولكنها لم تكن توافقت بعد مع ما يُعرف بالكل الجامع.
في هذا الإطار، يمكن تعريف العمارة الكلاسيكية العثمانية التي تأثرت بالعمارة البيزنطية (آيا صوفيا على سبيل المثال)، أنها ذلك المزيج التوفيقيّ المتحقق عبر تداخل العديد من التأثيرات والتكيفات للاحتياجات العثمانية.
استخدمت المساجد الكلاسيكية التي صممها سنان، والذين جاؤوا بعده، في ما قد يكون الأكثر رمزية بالنسبة للمباني، هيكلًا قائمًا على القبة على غرار هيكل آيا صوفيا، إلا أن النسب تغيرت، وفُتح الجزء الداخلي من الهيكل، وتحرر من الأعمدة والعناصر الهيكلية الأخرى التي حُطمت داخل آيا صوفيا وغيرها من الكنائس البيزنطية الأخرى، مما أضاف مزيدًا من الضوء، مع التركيز بشكل أكبر على استخدام الإضاءة والظل وأحجام أكبر من النوافذ. جاءت هذه التطورات في حد ذاتها مزيجًا من التأثر بكنيسة آيا صوفيا والهياكل البيزنطية المماثلة، ونتيجة لتطورات العمارة العثمانية منذ عام 1400 فصاعدًا. وهي، بحسب المعماري الإنكليزي جودفري جودوين (1921 ـ 2005) Godfrey Goodwin، مؤلف كتاب "تاريخ العمارة العثمانية": "حققت بالفعل التفاعل الشاعريّ بين التصميمات الداخلية المظللة والمضاءة بنور الشمس".
مدرسة سنان
قبة مسجد السليمانية التي بناها معمار سنان في إسطنبول في تركيا في القرن السادس عشر (12/ 5/2015/ Getty) |
ما بدأه سنان، وأبدع فيه، تحوّل إلى مدرسة معمارية لم يقتصر تأثيرها على حدود الأناضول فقط، بل امتد ليشمل بقاعًا كثيرة من العالم المتفاعل مع محيطه أيامها، إضافة، طبعًا، إلى تأثيره الواضح على البلدان التي كانت الإمبراطورية العثمانية تسيطر عليها. ولعل المثل الصادح على تأثر مَن بعدَه به، التصميم الذي تبناه المعماري العثماني صدفكار محمد آغا، وشُيّد على أساسه جامع السلطان أحمد (استغرق بناؤه سبعة أعوام، من عام 1609 إلى عام 1616) الواقع على مسافة قريبة جدًّا من آيا صوفيا.
فالطفل الذي كان يحلم أن يصبح نجّارًا، أصبح مُعلّمًا ومَعلَمًا، وصاحب منهجٍ معماريّ يُحتذى به. فمبكرًا التقط سنان صاحب مئات المنجزات والتصاميم (بقي زهاء 100 منها حاضرًا حتى يومنا هذا) أدوات نبوغه، ومعالم ما حوله، وموجبات نهضة شعبه. عشق القباب الزرقاء، فصارت علامة فارقة مسجلة باسمه. فبعد أن كانت هذه القباب ذخيرة بيزنطية، استطاع سنان أن ينفخ فيها الروح، ويحفظ ممكنات صمودها أمام تيارات الريح والعواصف والزلازل، وحتى الحروب والنزاعات، بكثير من الجمال والمنعة وأعمدة الصلابة، وقباب الاحتضان الأصغر من القبة الرئيسية الكبرى.
السليمانية والسليمية
صورة معمار سنان (1489 ـ 1588) ومسجد السليمية على العملة النقدية التركية من فئة 10000 ليرة قبل الإصلاح النقدي (Getty) |
بعد حواره المعماري والوجداني مع كنيسة آيا صوفيا، التي كانت عندما كبر ووقف أمامها، قد أصبحت وقْفًا خاصًا بالعثمانيين، ومحمد الفاتح ممثلهم وقائدهم وقت دخول القسطنطينية، قرر سنان أن يخلد مسيرته بمعمار يقترب من عظمة آيا صوفيا، ويتجاوزها بما نقصها، أي بقباب صغيرة ومآذن وفيرة شاهقة. فالمعروف أن الإضافة الجوهرية التي قدمها سنان للكنيسة الأبهى في زمانها، هي تثبيتها وحمايتها من الزلازل التي كانت قد أطاحت بها وبقبتها الشامخة غير مرّة على مدى تاريخها.
ولما كانت معجزة آيا صوفيا المعمارية تتجلى في قبتها شديدة الضخامة، التي يبلغ ارتفاعها ٥٤ مترًا، تحملها قاعدة مكوّنة من 40 نافذة، فإذا بها كأنها للناظر نحوها معلقة في الهواء، فإن هاجس سنان الذي ظلّ يلاحقه إلى أن أنجزه، كان بناء مسجد قبّته أعلى، ومحاسنه أكثر، وممكنات صموده أوفر.
كان أول ما تعلّمه سنان من آيا صوفيا وطبّقه هو اختيار مكان رائع يناسب تحفة معمارية جديدة، فبنى مجمع السليمانية على ربوة تتحكم في كلٍّ من الخليج الذهبي والبوسفور. كان السليمانية مجمعًا ضخمًا يضم ثمانية عشر بناء؛ بين دار إطعام للفقراء، ومستشفى (بيمارستان)، ومدرسة للطب، وحمّام، ومفردات أخرى، وكان المسجد هو محور هذه المباني جميعها. مجمّعٌ اجتمعت داخل مفرداته فلسفة سنان المعمارية: "القوة، النفعية، والجمال. قوة تتحدى الزمن، ونفعية ينتفع بها الناس، ولا تكون تحفة من دون معنى، وجمال ينقّي نفس الناظر إليه، ويذكّره بجمال الله الأعظم". (منة التلاوي، موقع الجزيرة، 2 أيار/ مايو 2020).
ولما كان غاية عظمة آيا صوفيا هي قبتها، فقد أبدع سنان لجامع السليمانية قبة تشبه السماء بارتفاع 53 مترًا، ترتكز على أربعة أعمدة تشبه أقدام الفيل، وعلى القبة حفر كبير الخطاطين حسن قرة حصاري آية: "إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا". تحف القبة 32 نافذة ذات أقواس مستديرة، ويضم المسجد أكثر من مئة نافذة بزجاج ملون، لحفظ توازن وصول النور إلى مختلف زوايا المسجد. أما المآذن، فللمسجد أربع مآذن سامقات، اثنتان منها يزيد ارتفاعها على 74 مترًا.
ولأن سنان يضع القوة ضلعًا في مثلث فلسفته، فقد خشي أن تصيب الزلازل مسجده فتفعل به كما فعلت بآيا صوفيا، فأخذ يضع أساسات المسجد ثم يقويها، ثم تركها لمدة عام ليختبر صلابتها وتأثرها بالزلازل، أو غيرها من العوامل، ولما تأكد مما أراد جمع عمدان المسجد، كل عمود من بلد مختلف، وكان طول أحدها مثل طول مئذنة كاملة، ثم أتى بالمرمر من جزيرة مرمرة، والمرمر الأخضر من جزيرة العرب، وغيرها من مختلف البلدان، وصولًا إلى مكونات أحضرها من قصر بلقيس ومعبد سليمان.
وفي ظل انشغاله ببناء المسجد، وشى به نفر إلى السلطان قائلين: "أدرك مسجدك؛ فإن سنان يدخن الشيشة في محرابه"، فذهب السلطان ليتأكد بنفسه، فسمع أصوات الشيشة، وسأله عن ذلك، فأجاب سنان: "بل هي أكثر من شيشة، لكنها جميعًا بلا دخان، وقد وزعتها في مختلف نواحي المسجد لأحسب توازن الصوت وصداه"، فسُرَّ السلطان لجوابه، وانبهر بصنيعه، حتى إنه جعله يفتتح المسجد بنفسه في حضرته.
وخلافًا لآيا صوفيا وامتيازًا عنها، لم يكتفِ سنان بباب واحد، بل اشتمل مسجده على عدة أبواب صُنعت من خشب الأبنوس، وزيّنتها الزخارف. وبعكس آيا صوفيا التي يكسوها الظلام، أنار سنان مسجده بأربعة آلاف قنديل، وأحدث فتحات صغيرة للتهوية تحت القبة ليضمن تيارًا صاعدًا يجذب وراءه الدخان المتصاعد من لمبات الزيت المستخدمة بكثرة لإضاءة المسجد. ويتسع المسجد لخمسة آلاف مصلٍّ.
أوج السليمية
رغم انخفاض قبة مسجد مجمع السليمانية عن قبة آيا صوفيا مترًا واحدًا فقط، إلا أن هذا المتر الأقل، شكّل غصة عند سنان، لم يبرأ منها إلا عندما صمّم وشيّد، وهو في العقد التاسع من عمره، مسجد السليمية (بدأ بناؤه عام 1569، وأنجز عام 1575)، في مدينة أدرنة القريبة من بلاد اليونان. وفيه جعل القبّة ترتفع أعلى، محطّمة حاجز الـ 54 مترًا، الذي شكّل تحدّي الآيا، وفخرها بنفسها.
ومن الجميل هنا أن نترك سنان يتحدث بنفسه عن نفسه، وعن تجربته اللافتة في تشييد السليمية:
"كان المعماريون الغربيون يفتخرون علينا قائلين: لنا الغلبة على المسلمين؛ فلم تُبنَ قبّة في الدولة الإسلامية مثل قبة آيا صوفيا، وكانوا يزعمون أن من الصعوبة البالغة إقامة قبّة كبيرة بهذه الدرجة، ويقولون: لو كان بإمكانهم عمل مثيل لها لفعلوا ذلك من قبل. كانت هذه الكلمات تؤلمني كثيرًا، وبفضل الله استطعت في عهد السلطان سليم خان (سليم الثاني) تشييد هذه القبّة العظيمة، أعلى من قبة آيا صوفيا بست أذرع، أما محيطها فأوسع بأربع أذرع".
تجلّى السليمية بوصفه غاية ما وصله إبداع سنان، إلى حد أن الجيش البلغاري أثناء انسحابه من أدرنة عزم على تدمير المسجد، فلمّا عُرض الأمر على قيصرهم فرديناد قال: "لا أستطيع أن أتحمّل مسؤولية كهذه أمام التاريخ" (تلاوي، موقع الجزيرة).
الأثر الباقي
"إن النوافذ هي مرآة تنظر بها إلى العالم، والنوافذ أجنحة الروح الأمين". تلخص هذه العبارة لِسنان ما سعى من تكريسه كأثر يبقى من بعده، وتتناقله الحضارات، ويقلّب صفحاته المتابعون والمعماريون والمهجوسون بعمارة الأرض وتصاميم المدن.
سنان الذي تأمّل بعمق منجز العمارة السلجوقية، بمبانيها الشاهقة، وقبب مساجدها المتنوعة بين الصغر والكبر، ودمْج الأحجار الكريمة المنقوش عليها، والمحاريب المزخرفة، وابتكار المقرنصات (عنصر معماري وزخرفي يوجد في زوايا القباب لنقل أعلى المبنى من الشكل المربع إلى الشكل المستدير، فتثبت القبة وترتكز وتكتسب نقطة التقائها بالجدار شكلًا جماليًا)، لم يضيّع وقته في التأمّل، ولم يتوقف كثيرًا عند مراحل خدمته العسكرية، ولا أعاقه خذلان الحب (سنان أحب السلطانة مهرماه ابنة السلطان سليمان، ولكنه حب ووجه بالصدود السلطاني والمنع الطبقي)، ولم يخذله التقدم في سنوات العمر، فإذا به يتجلى كأيقونة ساطعة للعطاء الذي لا يفتر، والطاقة المتوالدة على مر السنين، وإذا بمآذن السلاجقة المدببة التي تشبه القلم الرصاص، تتحوّل بين يديّ عبقريته إلى قبابِ معراجٍ لا ينتهي، ومآذن تطاول السماء.
وإذا بضياع الحب يصعد نحو إبداع معجز، ويبني سنان من وحيه مسجديْن، ولمّا كان اسم معشوقته مهرماه (الشمس والقمر)، فقد جعل المسجديْن واحدًا في منطقة أدرنة كابي (الجزء الأوروبي من إسطنبول)، والثاني في منطقة أوسكودار (الجزء الآسيوي منها)، فإذا غربت الشمس عن المسجد الذي بناه بأدرنة كابي في الواحد والعشرين من شهر آذار/ مارس، طلع القمر على المسجد الآخر في أوسكودار. أما لماذا في 21 من كل آذار، فإنه يوم ميلاد سلطانة الشمس والقمر، التي أحبّها فإذا به يجعل من حبّه لها أثرًا باقيًا لا يموت ولا ينتهي، تمامًا كما معظم منجزه المشغول بوجدان الحب، المصقول بصلوات الصوفيين، المنير باليقين.
تتزيّن كثير من الحواضر العربية والإسلامية في حلب والقاهرة وبغداد وجزيرة القرم، وغيرها، بصنائع "مايكل أنجلو الشرق"، حسب وصف الألماني كلوك، أستاذ العمارة في جامعة فيينا، "كبير معماريي العالم"، بحسب لقبه السلطاني، "الفقير سنان" اللقب الذي خلعه بنفسه على نفسه.
تلك نوافذه الباقية تصر، مثل رنين اسمه، على الصمود في وجه العواصف كلها.
ثلاثة خلال مختلف تجليات الإمبراطورية العثمانية حملوا اسم سنان، ثلاثة ألبان (المصادر التي تؤكد ألبانيّتهم أقوى من غيرها)، لكن واحدًا منهم ارتبط اسمه بكل هذا المجد، وحين يسهم دليل سياحي بالشرح والتعريف، أو يشرع مؤرخ بالتوثيق، أو يقوم باحث بعمل ما حول تاريخ العمارة العثمانية، أو يشير أحدهم إلى الجامعة التي تحمل اسم سنان، فإنهم لا يضطرون جميعهم، ولا بأي شكل من الأشكال، إلى توضيح أي سنان منهم يقصدون، فسنان النوافذ المفتوحة على الحياة والمعنى والفعل الإنساني الخالد، هو سنان واحد.
وإن كان لكل واحد من اسمه نصيب، فإن من معاني اسم سِنان في العربية الشجاعة والشهامة والإقدام، فإن تذكرنا أن سنان خدم في الجيش الإنكشاريّ وهو ما يحتاج إلى شجاعة استثنائية، فإن الإقدام هو تفرغه للعمارة، ولإبداعه فيها، رغم كل الدفق العظيم من عمارة الحضارات السابقة عليه، المشكّلة تحديًا صلبًا أن يأتي بأحسن منها.
ولعل قفلة على لسانه تحمل من المعنى ما لا تستطيعه قفلة أخرى:
"أنا المهندس المعماري المبارك والمقدم، أنا شيخ دار ضيافة العالم، الله يعرف أنني بنيت العديد من بيوته، وجعلت ألف محراب مكانًا للسجدة، بحمد الله حافظت على إسلامي، وأجريت بالعدل أحكامي. حسبي أني لا أعرف الرياء، مؤمّلًا خير الدعاء. ذو المال يبني مسجدًا، والفقير ينتظر الرجاء".