}

ذوو الإعاقة.. نحو ثقافة ترى فيهم علامات تنوّع

محمد جميل خضر محمد جميل خضر 16 أكتوبر 2022
إناسة ذوو الإعاقة.. نحو ثقافة ترى فيهم علامات تنوّع
اليوم العالمي لذوي الإعاقة

على عتبة بيت قديم في حيٍّ شعبيٍّ، كان يجلس سمير، ويقضي هناك معظم ساعات النهار. وعندما كنّا نسأل أمهاتنا لماذا لا يشاركنا سمير اللعب واللهو، فإن الإجابة الوحيدة الواحدة التي يبدو أنهنّ اتفقن عليها، هي: (الله يكون بعونه وعون أهله).
جواب مبهم كان يدخل طفولتنا العمّانية في سبعينيات القرن الماضي، في دوامة المجهول، والغامض، وربما ما هو أكثر من ذلك، مثل أفعال الجن، وطلاسم الخرائط الساكنة بعض البيوت المهجورة أيامها.
أيمن الوحيد من بيننا الذي كسر العزلة التي كان سمير يقيم داخل عوالمها؛ يجلس قربه، يتحسس مكانًا له هناك، ويبدأ مع صديقه الأثير حديثًا طويلًا، يتبادلان خلاله أخبار أولاد الحارة، أو لنقل أيمن يروي وسمير يستمع. حسن استماع سمير، وعدم مقاطعته أحاديث أيمن التي كانت تشرّق وتغرّب، أسعد قلب السّارد، وجعل سرده يجوب آفاقًا متخيلة يراها أيمن بعين بصيرته، فعيون بصره لم تكن ترى، لا أدري هل وُلِد كفيف البصر، أم أن مرضًا أصابه في عامه الأول، كما كان يشيع علي ابن حارتنا، أفقده القدرة على البصر.
لم يلحظ أيمن، بالطبع، أن عدم مبادلة سمير الحديث معه، إلا بأقل القليل، مردّه لحالته الذهنية الناتجة عن كونه واحدًا من ملايين حول العالم، ولدوا ترافقهم "متلازمة داون"، وترافق أيامهم، وصحوهم ونومهم، ومختلف أشكال تفاعلهم مع محيطهم.
لم يلحظ ذلك لأنه يجالسه من دون أن يرى ملامحه، ويحكم عليه بالتالي، بسبب ملامحه تلك فقط!
أيمن أطلق على سمير لقب "مايسترو"، فالأخير كان يعزف له على آلة أعدتها لسمير شقيقته عبير مكوّنة من وعاء حديد (جلن زيت سيارات، أو ما شابه)، ثقبت جهة منه، وربطت بين أوّله وآخره بخيطان (مصّيص)، ودبّرت له قطعة بلاستيكية صغيرة يضعها بين أصابعه ويبدأ العزف على قيثارته المتخيلة، أو عوده المُشتهى.
عبير فعلت ذلك، كما أخبرنا أيمن، عندما لاحظت كيف تتغيّر ملامح شقيقها عندما يسمع موسيقى طالعة من هنا، أو هناك، وكيف يشنّف أذنيه، ويُقبل عليها بجوارحه جميعها.
أعجبنا اللقب الذي حاز عليه ابن حارتنا الجالس كل ساعات لهونا قبالتنا، يتفاعل معنا بعواطفه فقط، عندما نشرع بواحدة من ألعاب (القلول)، أو عندما نبدأ سهرة ليلية مع لعبة (الغماية)، أو عندما كنّا نركب مراجيح العيد، أو نلعب (الزقّيطة) ويفوز أسرعنا عبّود بأدوارها جميعها. أعجبنا وصرنا أكثر انتباهًا لما يعزفه من ألحان، هل كانت ألحانًا فعلًا؟ لعلها أنغام روحه المحلقة في آفاق لا نراها، السابحة في سديمٍ أعلى من كوكبنا، الطالعة من أينع ينابيع النقاء وأشفّها بلورًا نابضًا باليقين.
لم يبخل عليه عمران الطيّب البشوش بطبقة الورقيّ، أمسكه الخشبة التي دوّر حولها الخيط الطويل، وساعده بإطلاق الطبق المرسوم عليه ألوان العلم، المصنوع من الورق المقوّى. كم كانت فرحة سمير باتعة مشعّة حبورة إلى أبعد الحدود، تخيّل نفسه هو من صنع الطبق وهو من طيّره في مساءات عمّان، يجاري رفوف الحمام، وينقش في المدى لوحة للفرح، وبراءة الأيام.
أيمن الذي تلمّس فرحته بمجسّات فؤاده، فَرِحَ لِفرحه، وجاءت قصصه في ذلك المساء الوديع محتشدةً بالمسرّات، زاهرةً بورود الحديقة، نابضةً بالتفاصيل الدقيقة.
أعجبنا اللقب، وبتنا جميعنا نناديه به: (مرحبا يا مايسترو، كيفك يا مايسترو، قوّك يا مايسترو، شلونك يا مايسترو، يعطيك العافية يا مايسترو.. وهلمّ جرًّا)، وعندما طيّر له عمران الطبق الورقيّ كان يشجعه قائلًا له: (أيوا يا مايسترو حلّق بالطبق وبكرى بتحلّق بالألحان). هل حلم سمير أن يصبح مايسترو فعلًا؟ هل تخيّل نفسه يرتدي هذا الزيّ العجيب المُنتهي من الخلف بذيلٍ أنيق؟ هذا ما سوف تجيب عليه الأيام؛ أيامنا، وأيامه، وأيام العاصمة التي كانت تكبر، تمامًا، مثل أحلامنا، وتتحوّل فيها الحارات الشعبية الحميمة إلى هياكل عمرانية موحشة، وشوارع إسفلتية صارمة، سياراتها لا ترحم، ولهو الطفولة في حاراتها يتضاءل عامًا تلو آخر.
كبرنا وكبر معنا سمير، أو لعلّه كبر وحده، داخل عتمة القوقعة التي وضعها المجتمع، من أهل وجيران ووعي جمعيّ سائد وقتها، في أعماقها.
وحين كبرنا، وتعلّمنا، وتراكمت خبرات أيامنا، أدركنا حكاية سمير؛ واكتشفنا أنها حكاية زهاء سبعة آلاف آخرين في الأردن وحده. وحين تعثّر بعضنا في الثانوية العامة، فإن أيمن الطموح الذكيّ اللمّاح العنيد، لم يفعل، واجتاز تلك المرحلة المفصلية من عمر شباب الأردن وشاباته بتفوّق، وصار واحدًا من طلبة الجامعة الأردنية، حيث التحق هناك بكلية الآداب، ليواصل متعة السرد التي أتقنها صغيرًا، ولتصبح قضية صديقه سمير قضيته الشخصية، يفكّر به، ويفكّر له، ويفكّر من أجله.

 
لعنة التوصيف

"أحدب نوتردام" في فيلم رسوم متحركة 


أيمن بكامل عنفوانه يقف أمام مكتبي في الجريدة. "ياااه" قلت لنفسي، متسائلًا: كم مضى على مغادرتنا جميعنا، تقريبًا، الحارة العمّانية المعتّقة؟ ما الذي فعلته بنا الأيام؟ قفزت قبل أن تغرقني نوستالجيا الذكريات، وبحرارةٍ عانقت الطفل الذي صار رجلًا بقامة ممشوقة وثقة عالية لم تقلّل منها عصاه التي تسبق خطوه وتمهّد له السبل، لم تكن الجائحة قد حلّت، ولم تكن عناقاتنا قد أصبحت محسوبة بالقلم والبيكار.




تحاشيتُ الأسئلة المحرجة؟ كيف استدلّ عليّ؟ كيف وصل إلى مكتبي؟ كيف يتدبّر أمور حياته ومعيشته؟ وبذكائه اللمّاح، أجابني عن معظم الأسئلة التي لم أسألها؛ قال لي إن مواقع التواصل بقدر ما باعدت بين الناس، قرّبت من زاوية أخرى بينهم؛ أصبحت دليل من يبحث عن صديق قديم، أو جارة أعجبته يومًا ما. فورًا لمعت في وجداني عبير، شقيقة سمير، هل كان أيمن معجبًا بها بشكلٍ من الأشكال؟ هل بادلته يومًا حبًّا بحب؟
صعقتني أكثر إجاباته خبثًا ولمّاحية عن خاطر بالكاد لمع في رأسي: "أنا وعبير زوجان سعيدان، ألم يخبرك أحد معارفنا، أو أبناء حارتنا بهذا الأمر؟"!
كان لا بد من النزول إلى كافتيريا الجريدة، فالحديث، على ما يبدو، سوف يطول ويطول، وهناك أخبرني أيمن عن نيته افتتاح مركز يعنى بذوي "متلازمة داون". كدت أقول له وماذا بخصوص مركز لذوي الإعاقة البصرية، ولكني عدلتُ فنحن ولا مرّة تعاملنا مع أيمن بوصفه إنسانًا يحتاج إلى خصوصية، أو استثناء، أو تفكير خارج صندوق البشر الأسوياء.
ولكن هذا لم يمنعني من وضع اقتراحي على طاولة القهوة والشاي وبعد ذلك الشطائر الخفيفة، فهو اعتذر عن عدم قبول دعوة بيتية، فأقلّها (ساندويشات عالماشي). وقد تلخص اقتراحي أن نجري أنا وهو بحثًا، أو ربما تحقيقًا، حول أحوال ذوي الإعاقة في مجتمعنا. وحين سألني عن دوره في الأمر، أخبرته أن دوره تعريفي بمشاعر هذه الفئة المجتمعية المهمة من قرب، أن يبث لي بعض بوحهم، أن يجعلني على تماس أكثر مع حالاتهم، على اختلاف هذه الحالات، واختلاف شكل الواقع الذي يتعايشون معه.
أيمن فكّر معي بصوتٍ عال، سألني ماذا لو كتبتَ عن لعنة التوصيف؟ أخبرني أنه لا ينزعج ممن يصفه بأنه أعمى، ففي متن القرآن الكريم آيات تقول "عبس وتولّى، أن جاءه الأعمى". مازحته ضاحكًا: "يبدو أنك رأيت ملامحي حين فوجئت بك بكامل بهائك تقف فوق رأسي". ضحك قليلًا، وواصل مداخلته، معبرًا عن انزعاجه ممن ينادونه بمفردة (ضرير) لا يعرف من أين جاؤوا بها، حتى مفردتي (كفيف)، أو (مكفوف)، تبيّن أن له حولهما بعض التحفظات. فالضرير، بحسبه، هو ضرير القلب أعمى البصيرة، والضرير من الضرر والأذى والعلّة المقعدة، وضاحكًا قال (الضُّرّة مُرّة). وأسهب فربط الضرير بكلِّ ضررٍ وحسدٍ وسوء. حاولت التذاكي عليه، وأخبرته أن هنالك من يذهب إلى أن الأعمى هو أعمى البصر والبصيرة، فجاء جوابه حازمًا، جواب الذي يعرف ما يريد، وأكد لي أن أحد أهم مشاكل ذوي الإعاقة على اختلاف أنواعها هو انتشار الأخطاء الشائعة، وانجراف الناس، بجهلٍ، نحو أنماط مضرّة، وتنميطات ركيكة، وتوصيفات مُهينة.
أردت التخفيف من حنق أيمن، وقبل أن يصل إلى التوصيف الأسوأ على الإطلاق، المتعلّق بمفردة عجيبة غريبة هي (منغولي) يصف بها بعض الأكثر جهلًا وركاكة، ذوي "متلازمة داون"، فقلت له إنها قضية إنسانية بالدرجة الأولى، فإذا بمداخلتي تزيد من حنقه، ومن فوره زجرني مصوّبًا "بل قل إنها قضية حقوق إنسان"، فعلقتُ ممازحًا: "يبدو أنك تود أن تدخل معي في متاهة قل ولا تقل". أجابني صديق الطفولة أن التصويب هنا لا يشبه المتاهة التي كنّا ندخلها صغارًا في مدينة الألعاب، وأنه ضرورة لا بد منها، إنْ كان بنو البشر جادّين في مسألة التعامل الوقور اللائق مع الأشخاص ذوي الإعاقة.
منذ طفولته، أشعرنا أيمن جميعنا أن الإعاقة هي تنوّعٌ واختلافٌ بشريٌّ طبيعيّ، وأن الخجل منها يعكس عدم تجذّر ثقافة التنوّع وقبول الآخر. ولهذا، فأبناء حارتنا، على وجه الخصوص، تعاطوا مع إعاقته، وإعاقة سمير، منذ ذلك الزمان البعيد، بوصف إعاقتيهما تنوّعًا، وكنّا حريصين جدًّا على تحقيق المساواة في تعاطينا معهما، مؤمنين بضرورة تكافؤ الفرص في حالتيهما، ولا مرّة تعاملنا بأي تمييز قائمٍ على أساس أنهما من ذوي الإعاقة. ولهذا لم يستغرب أيٌّ منّا عندما شاهدنا سمير يؤدي دورًا في واحد من المسلسلات المحلية، ولا عندما أبلغنا عمر الذي بقي على تواصل مع أولاد الحارة، أن سمير يعزف بشغف على آلة الغيتار، وأنه حضر له مرّة حفلًا موسيقيًّا، ومرّة مسرحية أدّى فيها سمير دورًا.
كان لا بد من عودتي إلى مكتبي وعملي في الجريدة، فوقفت بطريقة أدائية، وقدمت خطبة عصماء بطريقة استعراضية: "الحق أقول لك يا صديقي الرائع، إن الأشخاص ذوي الإعاقة لهم من الحقوق ما لغيرهم تمامًا، وتحقيق المساواة في ممارسة هذه الحقوق هو أمر واجب؛ تفرضه مواثيق حقوق الإنسان والدستور". صفّق أيمن ليؤكد لي كم هو ذكيٌّ لمّاح، يلتقط المزحة النقيّة الطيبة، بقدر ما يلتقط الخبث والخبائث.




وصلت عبير على موعدٍ محسوبٍ دقيق، وبعد السلام والسؤال ونبش بعض الذكريات، مضى معها زوجها وركبا سيارتهما وصعدتُ بدوري إلى مكتبي وأنا أقلّب الأمر، وأتدبّر فكرة أن يؤسس أيمن مركزًا للمولودين ممن يحملون معهم "متلازمة داون".

 
أرقام وحقائق

الفريق الأردني في دورة الألعاب البارالمبية في طوكيو 


في المادة (44) من القانون رقم (20)، الذي يحمل عنوان "قانون حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة"، وصدر سنة 2017، بعد مصادقة العاهل الأردني عليه، قائلًا: "نحن عبد الله الثاني ابن الحسين ملك المملكة الأردنية الهاشمية، بمقتضى المادة (31) من الدستور، وبناء على ما قرّره مجلسا الأعيان والنواب، نصادق على القانون الآتي، ونأمر بإصداره وإضافته إلى قوانين الدولة". في تلك المادة، على وجه التحديد منه، ترد بعض حقوق ذوي الإعاقة السياسية والحزبية، ففي البند (ب) من المادة (44)، يرد الآتي: "تلتزم الهيئة المستقلة للانتخاب، وفقًا لتعليمات تنفيذية تصدرها بالتنسيق مع الجهات ذات العلاقة، بتمكين الأشخاص ذوي الإعاقة من ممارسة حقهم الانتخابي بسريّة واستقلال، من خلال توفير الترتيبات التيسيرية المعقولة وإمكانية الوصول، بما في ذلك توفير مراكز اقتراع مهيأة، ومترجمي لغة الإشارة، وتمكين الأشخاص ذوي الإعاقة من الاقتراع بوساطة مرافقيهم". أما البند (ج) من المادة نفسها فيوصي بالآتي: "لا يجوز حرمان الأشخاص ذوي الإعاقة، أو تقييد حقهم في الانضمام للنقابات والأحزاب السياسية والجمعيات على أساس الإعاقة، أو بسببها".




توقّفت كثيرًا عند هذه المادة، وبالعودة إلى المادة (30) من القانون نفسه، وهي المادة التي تجرّم من يحرم ذوي الإعاقة حقوقهم:
"أ ـ يعد عنفًا كل فعل، أو امتناع من شأنه حرمان الشخص ذي الإعاقة من حقٍّ، أو حرية ما، أو تقييد ممارسته لأي منها، أو إلحاق الأذى الجسديّ، أو العقليّ، أو النفسيّ به على أساس الإعاقة، أو بسببها.
ب ـ على كل من يعلم بوقوع عنف ضد شخص ذي إعاقة تبليغ الجهات المختصة.
ج ـ تتولّى الجهات القضائية المختصة توفير الحماية اللازمة للمبلّغين والشهود، وغيرهم ممن يقومون بالكشف، أو التبليغ، عن حالات العنف المرتكبة ضد الأشخاص ذوي الإعاقة، أو بإعداد تقارير، أو تحقيقات استقصائية عنها من خلال ما يلي:
1 ـ عدم الإفصاح عن المعلومات المتعلقة بهويتهم وأماكن وجودهم.
2 ـ السماح لهم بالإدلاء بأقوالهم وشهاداتهم من خلال استخدام الوسائل التقنية الحديثة، وبما يكفل سلامتهم.
3 ـ عدم تعريضهم في أماكن عملهم لأي تمييز، أو سوء معاملة.
4 ـ اتخاذ أي إجراء أو القيام بأي عمل ضروري يضمن سلامتهم".
أقول إنني توقّفت كثيرًا هنا، وبتُّ موقنًا أن أيمن كان أنبهنا، وأوضحنا، وأكثرنا تصالحًا مع نفسه، وإيمانًا بحتمية وصول المجتمعات البشرية إلى الوعي اللازم الكفيل بإحقاق الحق حول قضايا ذوي الإعاقة، واتّباع النهج القويم السليم الكريم في التعاطي مع هذه القضايا، وترسيخ المنهجيات والأساليب المستندة إلى حقوق الإنسان حين يتعلّق الأمر بتناول حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، ومعاينة أحوالهم.
والأرقام على الأرض، وفي الميدان، تؤكد، في الحالة الأردنية على الأقل، ذلك؛ يكفي أن نعلم أن قانونًا من (52) مادة وعشرات البنود، حبّر خصيصًا لهم، وحظي بمباركة ملكية سامية، ويكفي أنهم، في الأردن، صار لهم مجلس أعلى يُعنى بحقوقهم، ويكرّس جهده كلّه للتصدي لقضاياهم، والاستماع إلى هواجسهم، ومختلف تجليات أيامهم، ويترأسه أمير (الأمير مرعد بن رعد بن زيد)، وَرِثَ، كابرًا عن كابر، قيادة التغيير لدمج الأشخاص ذوي الإعاقة في شتّى نواحي الحياة.
واليوم، دخل ذوو الإعاقة عالم التعليم الرقميّ، ولديهم مقرِّرٌ أمميٌّ، وباتوا جزءًا لا يتجزّأ من مشاريع التنمية المستدامة وبرامجها وأهدافها، فالهدف العاشر من أهداف التنمية المستدامة السبعة عشر، المعتمدة في الأمم المتحدة، يتحدث عن "الحد من أوجه عدم المساواة". وفي إطار شرح الهدف، يتبيّن أن المقصود بعدم المساواة، هنا، المطلوب الحد منها: "الحد من أوجه انعدام المساواة، القائمة على أساس الدخل، أو الجنس، أو السِّن، أو الإعاقة، أو الانتماء العرقي، أو الطبقي، أو الإثني، أو الديني، أو الفرص المتاحة في جميع أنحاء العالم".
ومن الأرقام المشرقة إلى حد بعيد ما حققه ويحققه الرياضيون الأردنيون من ذوي الإعاقة المندرجون في اللجنة "البارالمبية" الأردنية، يكفي في هذا الإطار أن يتناهى إلينا عدد الميداليات التي حققتها لاعبة مخضرمة في لعبة كرة الطاولة (عزفتُ عن ذكر اسمها لأنني لم يُتح لي أخذ موافقتها على النشر)، خلال مسيرتها الرياضية، وصلت إلى (110) ميداليات، منها (57) ميدالية ذهبية، وترتيبها الثانية عالميًّا بعد لاعبة صينية، علمًا أن الصين هي صاحبة اليد الطولى في هذه الرياضة الأولمبية، إنجازات لا تتوقف عند التفاصيل الصغيرة برأي أبطال هذه الإنجازات، مثل عدم توفر البنية التحتية، أو ضعفها، ومثل غياب أصحاب الاختصاص في اللجان التي تشرف على رياضاتهم، ومثل التقصير الإعلامي الذي لا يتناسب، بحسب أحد أبطال رفع الأثقال الخاصة بذوي الإعاقة، الذي يرى في مقابلة معه أن الإعلام المتعلّق بهم لا يتناسب مع الإنجازات التي يحققونها عربيًّا وعالميًا، فهذا البطل على سبيل المثال، وبحسب تقرير نشره الزميل زكريا حراحشة في موقع "عمّان نت"، حطّم مرّات عدة الأرقام القياسية العالمية برفع الأثقال الخاصة بوزنه، وهو الإنجاز الذي أهّله لانتزاع بطاقة التأهل الرسمية إلى بارالمبيك طوكيو 2020، حين حطّم الرقم القياسي مرّتين؛ أول مرة 237 كيلوغرامًا، وحطّمه مرّة ثانية رافعًا ما وزنه 240 كيلوغرامًا. وهو، إلى ذلك، حاصل على بطولة العالم في رفع الأثقال، وذهبية دورة الألعاب الآسيوية في آنشين/ كوريا الجنوبية 2014، وبرونزية بطولة العالم في المكسيك، وبرونزية بطولة العالم في كازاخستان.
وعلى سيرة الحديث عن بارالمبيك طوكيو 2020، فقد حصد الرياضيون الأردنيون من ذوي الإعاقة خلال منافساته أربع ميداليات ذهبية وواحدة برونزية، وأما المضحك المبكي حول هذا الإنجاز أن كثيرًا من الصحف والمواقع الإلكترونية الإخبارية نشرت الخبر، ونشرت بالتفصيل أسماء من استقبل الوفد البطل، ولم تورد أسماء الأبطال أنفسهم! حتى أن أحد المواقع أجرى مقابلة معهم، ونشر فحوى ما قالوه كما لو أنهم جميعهم لهم لسان واحد!! نشر ما قالوه وأنهم مستعدون لحصد الميداليات في بارالمبيك باريس 2024، من دون أن يذكر اسم القائل، ومن دون أن يذكر، متشرفًا، أسماء الأبطال الذين نالوا كل هذه الميداليات!!! في المقابل، وحين نال البطل أحمد أبو غوش ذهبية التايكواندو في أولمبياد ريو دي جانيرو 2016، فقد تحوّل إلى أيقونة، وملأت صوره شوارع عمّان جميعها. لست هنا في صدد المقارنة، ولو كان أيمن معي في هذه اللحظة لرفض مبدأ المقارنة من أساسه، كما أنني لا أقلّل من منجز أبو غوش الفذ، خصوصًا أنها كانت أوّل ميدالية ذهبية على الإطلاق ينالها الأردن في دورة أولمبية، ولكن الذهب يبقى ذهبًا، وكل من ينال شرف تطويق عنقه به ينبغي، بل يجب، أن يكرّم بشكل لائق عادل، وفق منطقٍ يضمن المساواة وعدم التمييز.




في سياق الأرقام والحقائق، فلا بأس بسرد حكاية شاب أصيب منذ الولادة بحالة شلل دماغي، بسبب نقص في الحصول على الأكسجين خلال عملية الولادة، وهو ما تسبب في شلل أطرافه الأربعة، ومعاناته من صعوبة شديدة في الكلام، وهي الإعاقة التي لم تمنعه من التميز والنبوغ العقلي الذي لاحظت والدته تمتعه به منذ سنوات عمره الأولى.
بالنقر تعلّم الفتى، وبالنقّر نال درجة جامعية في علوم الحاسوب، وبالنقر كتب، وهو في الحادية والعشرين من عمره، روايتيْن: "نظرات ثاقبة"، و"عاشقة صاحب الكرسي". تقول أمّه عن هذه التجربة الفريدة، وتحديدًا عند كتابته روايته الثانية: "هذه الرواية كُتبت على مدى أيام وليالٍ وتعبٍ وسهر، هي رواية كُتِبَتْ نقرةً.. نقرة، في الفاصلة نقرة، في الفتحة نقرة، وفي التنوين نقرة، فكانت هي تقريبًا ربع مليون نقرة على جهاز الآي باد".
الأرقام لا تحصى ولا تعد، ولولا أن أيمن مشغول بالمركز الذي صار شغله الشاغل، يساعده في إدارة شؤونه صديقه ونسيبه سمير، لكنت طلبت منه أي أرقام لم أصل إليها، ولكن هذا الغيض يكفي فالفيض جارف، والإنجازات تترى، كل ما نحتاجه هو أن نحسن الرؤية ببصيرة تحاول الاقتراب من بصيرة أحبّتنا من ذوي الإعاقة، ممن واجهوا العوائق البيئية والسلوكية، واستطاعوا أن يحققوا ما يريدونه وما يسعون إليه بعزيمة وإصرار وإيمان عميق، وقناعة راسخة أن التنوّع سمة الطبيعة والناموس الكونيّ، وأن الإعاقة هي، بدورها، تنوّع واختلاف بشري طبيعيّ، وأن الخجل منها يعكس عدم تجذّر ثقافة التنوّع وقبول الآخر.

 
ثقافة التنوّع

من فيلم "الكيت كات".. محمود عبد العزيز الفاقد للبصر يقود دراجة نارية  


مثل أي ثقافة صديقة، تتجلّى ثقافة التنوّع بوصفها مدماكًا جوهريًّا من مداميك التنمية المستدامة. إنها رافعة مهمة من روافع الوعي المجتمعيّ، وضامن أكيد لمجتمعٍ عادلٍ ينجز الواجبات قبل أن يطلب الحقوق.
ثقافة التنوّع تضمن، حين تسكن أعماق روائيٍّ على سبيل المثال، أن يتعاطى مع أبطال في روايته من ذوي الإعاقة، تعاطيًا مدركًا محاطًا بحساسية نبيلة. ولعلّ الأمر لا يرتبط برواية واحدة، أو روائي واحد، بل بالسياق العام المتحصّن بمعرفة ماذا يقول وماذا لا يقول، حين تشرع إحداهن، أو يشرع أحدهم بكتابة رواية، أو قصة، أو نصٍّ مسرحيّ، مسرحه واقع يحيط بأشخاص من ذوي الإعاقة. في سياق متّصل، فلعل رواية "أسرار قوقعة" التي صدرت عام 2020، للكاتبة الأردنية شهيرة الحسن عن دار "الآن ناشرون وموزعون"، متناولًا موضوعها الرئيسي تجارب أشخاص من ذوي الإعاقة السمعية، ورصد مشاعرهم وردود أفعالهم، تكون قد نجحت في امتحان كيف نكتب عن هؤلاء الأشخاص، فهي تستند في روايتها إلى معطيات واقعية اطّلعت على تفاصيلها من معلمين مختصين بتعليم ذوي الإعاقة السمعية، ومن أطباء يقع هذا النوع من الإعاقة ضمن مجال اختصاصهم.




وها هو عرض مسرحي قُدّم قبل أعوام في طرابلس وبيروت ومدن أخرى تحت عنوان "البؤساء بالعربي"، أبطاله جميعهم من ذوي الإعاقة، بإشراف رئيس المنتدى اللبناني لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، نواف كبّارة، ومن تأليف توفيق عوني المصري وإخراجه. المفارقة اللافتة في هذا العرض المسرحي أن أبطاله لم يتحدثوا عن موانعهم الشخصية، كونهم من ذوي إعاقات حركية وغير حركية، بل تناولوا مستندين إلى نصٍّ متين، الواقع اللبنانيّ، على وجه الخصوص، والعربي، على وجه العموم، البائس، والمضطرب، والآيل، تمامًا، للسقوط.
هل "أحدب نوتردام" من ذوي الإعاقة؟ هل أراده الروائي الفرنسي فيكتور هيغو (1802 ـ 1885) نموذجًا للقبح، أم تعرية لكيف ينظر الناس إلى بعضهم؟ أم أن الأمر برمّته مجرّد جولة أمضاها هيغو في شوارع باريس، وطرز عمارتها وسمات سكّانها؟ كما يرى الباحثُ الجزائريُّ، بغداد عبد الرّحمن، في بحثهِ المَوسوم "سرديةُ المكانِ التاريخيّ وفاعليتُه في روايةِ "نوتردام دي باريس" لِفيكتور هيغو"، المنشورِ في مجلةِ جامعةُ النّجاح للأبحاثِ (العلومُ الإنسانيّة) المجلّد 33، (12)، 2019، قائلًا: "يكادُ يكونُ مِن أكثرِ الأدباءِ الفرنسيينَ المحدثينَ ارتباطًا بظروفِ العُصور الوِسطى، واندماجًا بمكوّناته، فتصويرُه للأماكنِ يكادُ يُشبه رحلةً سياحيةً عبرَ الشوارعِ الباريسيةِ للقرنِ الخامسِ عشَر".
لعل من أطرف الأعمال التي اختارت بطلًا من ذوي الإعاقة، رواية "مالك الحزين" للكاتب المصري إبراهيم أصلان، التي تحوّلت لاحقًا إلى فيلم سينمائي حمل عنوان "الكيت.. كات"، من إخراج داود عبد السيد، وبطولة الفنان الراحل محمود عبد العزيز (1946 ـ 2021). ففيها، وفي الفيلم، يقود الشيخ حسني (محمود عبد العزيز) في حواري حيّه العشوائيّ الفقير دراجة نارية، متناسيًا أنه صاحب إعاقة بصرية، جاعلًا من هذه المغامرة لحظة طريفة محتشدة بالمعاني والمتعة في آن معًا. تقاطعٌ لافتٌ مع الفيلم الأميركي "عطر امرأة" من بطولة آل باتشينو بدور ضابط متقاعد أصبح من ذوي الإعاقة البصرية بعد إصابة تعرّض لها خلال خدمته العسكرية. ففي الفيلم، أحب المخرج مارتن بريست أن يتبنّى الضابط المتقاعد لحظةً تكسر إيقاع أيامه الرتيب، فجعله يقود سيارته في عدة مسارات ضيقة بالكاد تتسع لسيارة واحدة، ثم، وبعد نهاية الجولة التي تحبس الأنفاس، يقف عند نهاية الممر تمامًا، كما لو أنه قام بهذا الأمر عشرات المرّات. جولة الشيخ حسني في الدراجة النارية، وجولة الكولونيل المتقاعد فرانك سليد في السيارة، تفتح كثيرًا من آفاق تعاطينا مع من حولنا، وتخبرنا أن احتمالات الحياة لا تنتهي، في دربٍ طويلٍ لا ينتهي.

 
جلسة صفاء

متلازمة داون لم تمنع إشعاع الجمال العميق 


من تخطيط أيمن، وهل من أحد سواه يمكن أن يفعل ذلك؟، تحقّق في بيته لقاء جمع، تقريبًا، جميع أولاد حارتنا البعيدة في الزمان والمكان. قرأنا الفاتحة على عمران الطيب المعطاء، أبلغنا أيمن برحيله في عام كورونا. صلّينا أن يعود إلينا علي بالسلامة من غربته (أبلغنا أيمن باغترابه). كان سمير في أشرق مسرّات سعادته، على استحياء دخلت عبير، رحّبت بـ(فتيان) حارتها، وعادت أدراجها لإعداد واجبات الضيافة. دار الحديث حول كل شيء، أسهب أيمن في حديث حريص ومسؤول حول منجزات مركزه شبه التطوّعي، وبكثير من الشجن باح لنا بهواجس ذوي الإعاقة، قال إن (كودة) متطلبات البناء الجديدة الخاصة بالأشخاص ذوي الإعاقة تعد إنجازًا وطنيًا يعكس أحدث المعايير والممارسات الفضلى في مجال التهيئة البيئية، وتمكين الأشخاص ذوي الإعاقة من استخدام المرافق العامة، والوصول إلى ما تقدمه من خدمات. تحدث عن ضرورة تطوير مقاييس تشخيص صعوبات التعلم، والوصول إلى أفضل الاختبارات الإدراكية السمعية والبصرية إلى جانب استخدام مقياس تشخيص المهارات الأساسية في اللغة العربية والرياضيات. تناول غالب، زميلهم في المركز، سعي الجهات المعنية لرفع مستوى خدمات الترجمة الإشارية للأشخاص الصم والأشخاص ذوي الإعاقة السمعية. سأل محمود الذي تعوّدنا عليه أيام الحارة صامتًا معظم الوقت، عن مشورة النظراء، ماذا تعني بالضبط، ولمن هي موجهة؟ باستغرابٍ، أعجب أيمن بالسؤال، وأجابه باستفاضة: إنها تعني تبادل التجارب والتعاون بين الأشخاص ذوي الإعاقة لتجاوز التحديات والحواجز النفسية والشعور بالأمان، ومواجهة التحديات اليومية، وكيفية بناء العلاقات، وإعادة تقييم الذات، وشرح الطبيعة البشرية. سألت أنا: وماذا عن دور مجموعات الدعم في تغيير نظرة المجتمع تجاه الأشخاص ذوي الإعاقة؟ فنظر أيمن إلى عينيّ مباشرة، وسألني هل السؤال لتقرير صحافي أعده، أم هو مجرّد سؤال شخصيّ؟ فسألته بدوري، وهل تصدقني إن قلت إنه شخصيّ؟ فأجاب من فوره: لا. ضحك الجميع، ثم أكمل قائلًا إن دورها مهم، وعليك أن تزور المجلس الأعلى لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة لتحصل على جوابٍ رسميّ.
عاد أيمن بعد مداخلاتنا إلى بوحه وتداعيات الشجن في حديثه، وفي سياق هذا البوح أشار، غير مرّة، إلى أهمية الدّمج والتنوّع في التعليم، مقتبسًا هنا، جملة قالها الأمير مرعد في مناسبة عامة: "إن نظام التعليم في الأردن هو الذي يحتاج إلى التغيير ليكون قابلًا للتكيّف مع الأطفال، وليس العكس. إذا لم نوفّر التعليم بشكل صحيح، فلن نحقّق أيَّ شيء بشكل صحيح". عقّبت قائلًا "بالوعي يبدأ التغيير"، فابتسم محاولًا التقاط العلاقة بين تعقيبي واقتباسه.
بالمحبة اجتمعنا، بتنوّعنا، ورغبتنا الصادقة بأن نظل أصدقاء، وأن تظل الحارة القديمة، التي لم تكن تعرف إلا قبول التنوّع وتعزيز الاختلاف، نبراسنا، وموقد ذكرياتنا، وطياراتنا الورقية تحلّق بنا ونحلّق بها فوق غيوم عمّان، عاليًا نحو ذُرى الشمس، ورقصات النجوم، وأغنيات الأمل.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.