}

عن "عمارة الموت".. تدوين الفَناء بأحرفٍ من حديد!

محمد جميل خضر محمد جميل خضر 12 مارس 2022
إناسة عن "عمارة الموت".. تدوين الفَناء بأحرفٍ من حديد!
عمارة الخراب الإسرائيلية في وادي الحمص في القدس (22/7/2019/الأناضول)

"على المباني أن تموت/ Buildings Must Die" هو عنوان كتاب صدر في عام 2014 لِلمعماري الأسترالي ستيفن كيرنز، وأستاذة العلوم الاجتماعية الأسترالية، جاين م. جاكوبز، يبحث مؤلفاه بين ثنايا صفحاته مفهوم موت المبنى. هُما يتناولان المسألة من زاوية أنّ للمفردات المعمارية عمرًا افتراضيًّا، ونهايات محتملة، وفي أحايين كثيرة حتمية، ولكنهما لم يناقشا في كتابهما اللافت موت المباني تحت ضربات الحروب المدمّرة، ليس عندما تتحول المباني إلى أطلال يمكن أن تصلح لقريحة شاعر، أو تأمّل متأمّل، أو ذكريات عاشق، بل إلى مخلّفات تصلح لندب النادبين، وندم النادمين، إن كان ثمّة في عصرنا الدمويّ هذا من نادمين على قتل مبنى. هم لا يندمون على قتل كل أنواع الحياة، بادئ ذي بدء، حياة البشر، يلحقهم الشجر، من دون تفويت قتل دوّاب الأرض، من ماشية وبقر وخيل وقطط وكلاب، وغيرها، وجميعها تُصنَّف في خانة الأحياء، فما بالكم بالحجر الذي يُصنَّف في خانة الجماد؟
ولكن؛ هل للمباني والمساكن والبيوت أنفاس؟ هل تئنّ وهي تهوي فوق رؤوس أصحابها، وقد تمرّغ تاريخها وأحلام ساكنيها وأشجان زهوها بالتراب، وقد صارت أثرًا بعد عين؟ أما السؤال الأهم: هل تقتصر عِمارة الموت على المباني الحجرية والإسمنتية والخشبية والزجاجية، من أبراج ومجمعات وبيوت وعمارات؟ ماذا بخصوص المباني المعدنية، من دباباتٍ ومدرعاتٍ، وجرّافاتِ هدمِ منازلٍ، وسحلِ شوارع (ماركة إسرائيلية بامتياز) ومنجنيقاتٍ وغواصاتٍ وبوارج ومدافع وقنابل وألغام وحاملات طائرات وناقلات جند ومسيّرات وطائرات حربية؟ ماذا بخصوص الدُشم والخنادق والكمائن والمتاريس والأنفاق؟ ماذا بخصوص الأبراج والقلاع، وجبال تورا بورا؟




ربّما علينا، بداية، أن نميّز بين المفردات التي تصنع الموت، من بين ما سجّلناه أعلاه، وبين ما تحاول منعه، أو التقليل منه. فالدبابة تصنع الموت عندما تصب لهيب مدفعيتها نحو مدينة، أو قرية، أو تجمع، أو عندما يسحق جنزيرها جسد بطل وقف في وجهها ثابتًا متحديًّا، بشجاعةٍ تستعيد الحياة، ولا تستدعي الموت. وفي حين تزرع الموت، كما هو حال الدبابة، الطائرة الحربية، وراجمة الصواريخ، وتزهق الألغام أرواح البشر، أو تبتر، على الأقل، أطرافهم، وفي حين.. وفي حين.. فإن القلاع، ربما، تهدف، إلى إيقاف طاحونة الموت هذه، وكذلك المتاريس، ومختلف أشكال التحصن من مصادر النار، والاحتماء من تصاميم الموت المندفعة على شكل طائرات ورصاص رشاشات ومقذوفات مدافع وذخيرة فناء (بالفتحةِ على الفاء)، وغير ذلك، وغير ذلك، من دون أن أنكر أنها قد تفعل ما تفعل، وتبعد الموت عن حياضها، ثم تعيد، من مواقع دفاعها عن نفسها، تصديره للجهة المقابلة، جهة العدو.



عمارة اقتلاعية
لا يمكنني أن أمرّ نحو لبّ موضوعي، وأشرع باستعراض تصاميم الدبابات والطائرات والجرافات، وباقي أشباح الموت، من دون أن أعرّج قبل كل شيء على ما تفعله البؤر الاستيطانية في فلسطين. فلا عمارة موت أبلغ بتمثّل هذا التعريف مما تفعله دولة الاحتلال بالمدن الفلسطينية. فكل بؤرة استعمارية تُغْرَسُ كالخنجر المسموم في نابلس، أو القدس، أو بيت لحم، أو الخليل، وباقي المدن الفلسطينية، تعلن من فورها عن موت حق، واقتلاع ذاكرة، وقتل أحلام، وخراب شجر وحجر، وتعطّل سواعد زراعة وبناء، وصمت أغنيات كروم، وتوقّف مشاوير حقول.
إن المستوطنات الإسرائيلية هي عمارة موت بامتياز. وجدار الفصل العنصريّ هو عمارة موت بامتياز؛ موت أوصال الوطن الواحد، وأبناء الأسرة الواحدة، وشرايين النبض الواحد. وإن الجرافات الإسرائيلية البشعة المرعبة التي سوّت عام 2002 مداخل مخيم جنين، ومعظم شوارعه وحاراته بالأرض، هي هياكلُ موتٍ عاتيةٌ مُصفّحةٌ بتشريع القتل، والتقرّب، عبره، إلى (يهوه) إله الجنود. وإن (الميركافا) بأجيالها جميعها، عمارةُ موتٍ مسنودةٌ بمباركةِ الدِّوَلِ (المتحضّرة). وإن (المحاسيم) هي (دُشَمُ) موتٍ متعددُ الأشكال: موت أواصر القربى بين مناطق الضفة الغربية، موت فرحة عرس، موت حماسة غُدوٍّ نحو العمل ومراكمة الأمل، موت أي إحساس بالاستقلال والحرية والكرامة الإنسانية، موت الأم لحظة الولادة، أو موت المولود قبل أن يصرخ الحياة.
يبيّن المعماريان الإسرائيليان، إيال وايزمان/ Eyal Weizman، ورافي سيغال/Rafi Segal، في دراسة لهما حملت عنوان: "احتلال مدني/ سياسات العمارة الإسرائيلية"/ A Civilian Occupation. The Politics of Israeli Architecture، كيف أضحت العمارة الإسرائيلية أداة سياسية لتنفيذ سياسات استيطانية، رائييْن أن المستوطنات في الضفة الغربية هي الشكل الأكثر تأثيرًا في العمارة الإسرائيلية، ممثّلِةً، بحقٍّ وصدقٍ، مظاهر العمارة في إسرائيل. فالمستوطنات، بحسبهما، هي "أبشع أنواع انتهاكات حقوق الإنسان، والتمييز العنصري، واغتصاب الأرض، وحقوق الشعب الفلسطيني". استنتاجات صادقة عميقة جعلت جمعية المعماريين الإسرائيلية تحظر البحث، وتمنعه من المشاركة في "المعرض الدولي للعمارة في برلين" في دورة عام 2002، وتلغي، نهائيًّا، المشاركة الإسرائيلية في ذلك المعرض. وعندما قرّر المعماريّان تحويل البحث إلى كتاب منشور يحمل العنوان نفسه، قامت السلطات الإسرائيلية بسحب نسخه من السوق والتخلّص منها، ثم يحدثونك عن ديمقراطيتهم مقابل ديكتاتورية أنظمتنا! إنها ديمقراطية تذكّرني بـ(فوبيا) العِداء للسّامية، التي من شأنها أن تدمّر المستقبل المهنيّ لأي صحافيٍّ، أو باحث، أو أكاديميٍّ أوروبيٍّ، أو غير أوروبيّ، يتورّط في هذا (العداء).





في بحثه المعنوَن "عقلية الجدار اليهودية: الجذور الدينية والتطوّر التاريخي"، يقول الأكاديميّ المصريّ، أحمد هيكل، أستاذ الدراسات العبرية الحديثة في جامعة حلوان: "لم يكن من المستغرب أن تطلق إسرائيل على عمليتها العسكرية ضد قطاع غزة في أيار/ مايو 2021، مصطلح "شُومير هَحُومُوت"، أي "حارس الأسوار"، لأن الشخصية اليهودية/ الإسرائيلية هي، فعليًّا، لا تستطيع العيش خارج الأسوار؛ تلك الأسوار التي أصبحت جزءًا لا يتجزأ من ثقافتها الانعزالية، وتاريخها الاستعلائي، وبلورةً عصريةً متجدّدة لِخضوع المجتمع الإسرائيلي لِهيمنة عقليّة الجدار".
هيكل يضيف قائلًا: "رغم تجربة اليهود المريرة مع الغيتو، راحت إسرائيل ترفع الجدران العازلة داخل القدس، والضفة الغربية، وحول قطاع غزة، وعلى الحدود المصرية والأردنية واللبنانية والسورية، وتُسلِّحُ الأبراج، وتشيّدُ التحصينات، وتقيمُ السواتر الترابية والخنادق، وتنشُرُ المكعبات الإسمنتية والكتل الخرسانية، وتَضَعُ الحواجز الأمنية الثابتة والمتحركة والموسمية، وتمدُّ الأسلاك الشائكة داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، لتعزل المجتمع الإسرائيلي عن العالم. والمفارقة الغريبة أنها عزلة مزدوجة، مثلما ذكرنا سابقًا، فقد سَجَنوا عُنوة على الطرف الآخر من أسوارهم المنيعة، الشعب الفلسطيني بعد أن سلبوا الأرض بما ومَن عليها".
فهل مِن عمارةِ موتٍ أبشع وأبأس من العمارة الإسرائيلية المتخنْدقةِ خلفَ المزاعم والخُرافات؟



قتل الذاكرة المعمارية

أطلال مدينة بعد الحرب 


يرى الفنان والمصمم البريطاني، روبرت بيفان/ Robert Bevan  (1865 ـ 1925)، في كتابه "تدمير ذاكرة العمارة في الحرب"، أن دمار الحرب على وشك أن "يقتل الثقافات والهوّيات والذاكرة المعمارية، بقدر ما يقتلُ من النّاس، ويحتلُّ من الأراضي".
من اللافت أن يحملَ بيفان على الحرب بكل هذه الضراوة، وهو الذي لم يعاصر سوى حرب كونية واحدة هي الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918)، منحازًا بوجدانِهِ الفنيّ الجماليّ لِخسائر العمارة بسبب ويلات الحروب، قبل أي خسائر أخرى. هذا، حتمًا، ليس انتقاصًا من تراجيدية الخسائر في أرواح البشر، ولكن خوفًا على الذاكرة العمرانية الجَمْعية، التي هي، في نهاية المطاف، منجزٌ إنسانيٌّ إبداعيٌّ، يحمل سمات الديمومة والأثرِ المؤشّرِ، حتى بعد رحيل الناس الذي صنعوه، وصبّوا عصارات أرواحهم، وتفتقات إبداعهم فيه.
من جهتها، تعاين الباحثة المصرية، الدكتورة ألفت عبد الغني سليمان، في بحثِها المعنوَن "دَوْرُ أحداث العنف والحروب في الفكرِ والناتجِ المعماريّ/ The Role of Violent Events and Wars in Thought and Architectural Output" ارتباط الحروب المعاصرة بالعنف والدمار وموت العمران أكثر من أي تاريخ بشريّ سابق.
وترى في مقدمة دراستها أن الإنسانية شَهِدت، خلال القرن الماضي، العديد من الحروب المُدمِرة التي أظهرت "مدى ضعف التراث العمرانيّ والإنسانيّ عامة أمام القوة التدميرية للأسلحة والحروب، وباختفاء العديد من المباني خاصة الأثرية منها أثناء الحرب العالمية الثانية، بدأ الانسان يُدرك أهمية عملٍ يُسهم في الحفاظ على العمارة والعمران من الفَناء. فرغم تأثير الزمن، والتآكل الطبيعي، وتأثير الكوارث الطبيعية، من زلازل وفيضانات، وغيرها، على العمارة والعمران، إلا أن تأثير الإنسان كان أفدح وأكبر. كذلك أثرت التكنولوجيا في تسهيل التطور العمراني السريع، واختفاء العديد من المباني، حتى المباني الأثرية منها، والمناطق، لإفساح المجال أمام الطرق والمشروعات العامة والصناعية الكبيرة، وساهمت الصناعة في زيادة التلوث البيئي للهواء والمياه، مما أثر تأثيرًا مباشرًا على الإنسان والجماد معًا. وأصبح الحفاظ على العمارة والعمران مسؤوليةً تاريخيةً إنسانيةً تُساهم في الإبقاء على معالم الماضي، لكي يراها أبناء المستقبل".




تقسّم سليمان الحروب في بحثها إلى ستة أجيال؛ وفي حين أن الجيل الأول، بحسب دراستها، يتعلّق بالحروب التقليدية بين جيشيْن نظامييْن، فإن الجيل السادس الذي "أبدعت فيه روسيا الاتحادية"، يتعلّق بالحرب التي تُدار عن بُعد من خلال استخدام الأسلحة الذكية. وهي حرب تهدف، كما تبيّن سليمان، إلى التشويش المجتمعيّ من خلال التجنيد الكامل لشبكات الإنترنت، بهدف هدم أركان الدولة وإفشالها. في حروب الجيل السادس، تتنوّع، كما تورد الباحثة، الوسائل الذكية في استخدام الطيور والحيوانات والأسماك كأدوات للتجسس، وإلحاق الضرر عن بُعد، كاشفة أن هذه الأدوات تتبناها "وكالة داريا" التابعة للبنتاغون.



هياكل موت بريّة

هياكل موت في براري الأرض تنشر عمارة الخراب


تنضوي تحت هذا القسم معظم الأسلحة المستخدمة في الحروب، ولكن ليس أكثرها تدميرًا وحصدًا للأرواح، فهذا ما يتكفّل به القصف الجويّ العشوائيّ المتواصل من دون كلل أو ملل. كما أن الحروب القديمة كانت تعتمد بشكلٍ أساسيٍّ، وفي أحايين كثيرة، بشكلٍ كليٍّ، على البرِّ الذي تدور الخيول فوقه حول نفسها، وكذا الفيلة وباقي وسائل الامتطاء خلال المعارك، إلى أن دخلت الهياكل البحرية في حروب الدول الواقعة حول البحر الأبيض المتوسط، ثم لاحقًا، في حروب بحارٍ ومحيطاتٍ أخرى.
تشكّل الدبّابة نموذجَ هيكلٍ بريٍّ مدججٍ بالموت. ولأن علم الهندسة المعمارية قائم، أساسًا، على وظيفة إسكان الناس داخل مفرداته، فلا أدري مدى دقّة إدراجي هيكل الدبابة وقوامَها وأجزاءها بوصف كلِّ ذلك عِمارةَ موت؟




على كل حال، لا تبتعد تلك الهياكل بشكل نهائي عن أحد علوم الهندسة، فإن فقدت مشروعية أن تكون واحدة من فروع العمارة، فهي حتمًا تندرج تحت علوم الهندسة الميكانيكية، وما أصبح يتعارف عليه في حقل سلاح الهندسة، أو هندسة الأسلحة. ولكنها هندسة يجري تشييدها مدماكًا فوق مدماك. ألا تعيدنا هذه الحقيقة إلى عالم العِمارة ومشتقّاتهِ وتعرّجاتِهِ وتناقضاتِه؟ نعم، ربّما.
الدبّابة، سفينةُ البر، بنتُ الحرب العالمية الأولى، هديةُ بريطانيا العظمى إلى العالم الحر، كاسرةُ جمود حرب الخنادق بين الإنكليز والألمان (دخلت الخدمة العسكرية من خلال دبابتين من طراز مارك ـ1 بريطانية الصنع، شاركتا يوم 15 أيلول/ سبتمبر 1916 في معركة "فليرس كورسيليت" (جزء من معركة السوم)). التماعُ تصميمٍ ما، فكرةٍ ما، في ذهن النمساوي غونتر بورستين، الدرعُ الحديديُّ الحربيُّ الحصين، تبلوْرت مع انتقال الحروب من جيلٍ إلى الذي يليه، بوصفها عِمارةَ موتٍ مزوّدةً بمدفعٍ ثقيلٍ، وعددٍ من الرشاشات الدائرية (تكتفي بعض أنواعها برشاش واحد، إلى جانب فوهة المدفع الشبيه بمئذنةٍ غيرِ سماويةٍ ولا رحيمةٍ).
هيكل غير معنيٍّ بقيم الجمال. لا شرفات فيه، ولا انسيابية البيوت الوديعة. معدنٌ مصفّحٌ بألوان محايدة، تحاكي الصحارى. لا تشعر بأي حميمية مع المدن. عدوّةُ الإسْفلت، وحين تمرّ فوقه تترك ندوبها وشرورها فوق جسده المسجّى. دبّابة أنثى، وأخرى ذكر، واحدة تزوّد بأسلحةٍ رشّاشةٍ ثقيلة، وأخرى (الأنثى) تزوّد بأسلحة رشّاشة خفيفة. وبين الجنسيْن، تُستباح مختلف خصوصيات بني البشر، وتُغتال أرواحهم.
ومن هياكل الموت البريّة: ناقلات الجند، شاحنات الذخيرة والدعم اللوجستيّ، منصّات المدافع من مختلف العيارات، حقول الألغام (معادنُ موتٍ تحتُ أرضية)، السيارات رباعية الدفع المزودة برشاشات من عيار 500 ملم، وغيرها. لستُ خبير أسلحة، لكن الضرورة تقتضي أن يتعرّف بنو البشر على مهلكات وجودهم وفوهات اندثارهم.



هياكل موت جويّة

القاذفة الاستراتيجية الأميركية بي 52

 





من منّا لا يعرف الـ(إف 16) وباقي عائلة الموت المحلّقة في سماء الخراب. في هذا السياق، فإن الـ(بي 52) B-52 Stratofortress تتجلّى بوصفها هيكل موتٍ جويًّا مرعبًا، قاذفة قنابل استراتيجية بعيدة المدى (قد تقطع في رحلة موتها 32 ألف كيلومتر متزوّدة بالوقود وهي تطير نحو أهدافها المنذورة للموت) ذات ثماني محركات. تعمل تحت قيادة القصف الشامل في سلاح الجو الأميركيّ. وصفها الجنرال ناثان توينيج قائلًا: "البندقية كانت أفضل سلاح وقت اختراعها. طائرة بي ـ52 هي بندقية عصر الطيران". عمارتها انسيابية بزاوية 45 درجة. لا تكره ولا تحب، فقط تقتل من دون أن تكون مضطرة للتعرف على ضحاياها، فهي تحلق في البعيد فوق سرعة الصوت وعيون الرادار. شبح موت بشع تفننت أميركا في نقش مواصفاتها على مدى الزمن منذ عام 1946 ميلادية.



هياكل موت بحريّة

غواصة عملاقة


حين يقرأ الواحد منّا مواصفات هياكل الموت البحرية، فإن أول ما يخطر على باله هو مباركة قروش البحر والحيتان المفترسة، وتفهّم منطقها القائم على درء الحاجة وفق منهجية أخلاقية تؤمّن إدامة ما تحت الماء من دورات حياة. بنيت هذه الهياكل بالاعتماد على تحقيق رادع الرعب القائم على ضخامتها، وفتك ما تحمله الغواصات الروسية، على سبيل المثال، من أسلحة ومقذوفات ومعادن تحطيم. في هذا السياق، تقف الغواصة الروسية من نوع (تايفون)، أو (أكولا)، في مقدمة وحوش ما تحت الماء. غواصات وسفن حربية تجعل من مقطع شعري مثل "هذا البحر لي" مضحكًا إلى أبعد الحدود، فلا شيء لنا، كل الأشياء والمصائر في يد شركات صناعة الموت العابرة للأحلام والأعوام.



حرب النجوم
عسكرة الفضاء عمرها من عمر السباق الفضائي نفسه. فمنذ أن وُضع القمر الاصطناعي سبوتنيك في المدار في عام 1957، تبحث واشنطن وموسكو عن سبل لتسليح الأقمار الاصطناعية وتدميرها. من عام إلى آخر، تطوّرت حرب النجوم، وانتقلت من فكرة تدمير أقمار اصطناعية بواسطة صواريخ، أو بواسطة أقمار اصطناعية انتحارية، إلى إيجاد سبل لتعطيلها بواسطة أسلحة الليزر، أو الموجات الصُّغريّة فائقة القوة. حرب افتراضية تدخل فيها جلّ العلوم التطبيقية تقريبًا: العمارة، الميكانيكا، الهندسة الإلكترونية، علوم الفضاء والفلك، الفيزياء والكيمياء، الجبر والهندسة ومختلف علوم الرياضيات، وطبعًا تكنولوجيا المعلومات.



قنبلتا هيروشيما وناغازاكي

اليابانيّ تسوتومو ياماغوتشي نجا من قنبلتي هيروشيما وناغازاكي






"الولد الصغير" (Little Boy) هو الاسم المشفّر الذي أطلق على أول قنبلة ذرية ألقيت على مدينة هيروشيما اليابانية في 6 آب/ أغسطس 1945، من قاذفة القنابل بي ـ 29 "إينولا غاي"، التي كان يقودها الكولينيل بول تيبيتس من السرب 393 من القوات الجوية الأميركية. وهي أول سلاح نووي يتم استخدامه في كوكبنا المنذور لعتاد الموت. وبعد إلقائها بثلاثة أيام، تم إلقاء القنبلة الثانية "الرجل البدين" (Fat Man) على مدينة ناغازاكي اليابانية أيضًا. وحتى يومنا هذا، لا تزال المدينتان تعانيان من آثار عمارتي الموت المرعبتين اللتين أسقطتا فوق رؤوس وجودهما.
بلغ طول قنبلة "الولد الصغير" ثلاثة أمتار، وقطرها 28 بوصة (71 سم)، ووزنها 8900 رطل (4000 كيلوغرام). كتلة جوفاء من اليورانيوم 235 أقل من الكتلة الحرجة لهدف من كتلة أخرى لتكون الكتلة الحرجة لبدء تفاعل نووي متسلسل. ورغم أنها تحتوي على 64 كيلوغرامًا من اليورانيوم، إلا أن الذي خضع للانشطار النووي هو 0.7 كغم، ومن هذه الكتلة لم يتحوّل سوى 0.6 غرام إلى الطاقة، فتخيلوا، يا رعاكم الله، لو كانت الأرقام أعلى؟
رغم كل الموت الذي تسببت فيه القنبلتان الذريّتان في الحرب العالمية الأولى، إلا أن المواطن اليابانيّ تسوتومو ياماغوتشي نجا منهما كلتيهما، كان يعمل في هيروشيما، أصابته القنبلة الأولى بجروح، فعاد إلى مدينته ناغازاكي، فإذا بالقنبلة الثانية تأتيه بعد يومين من وصوله إلى حيث يحيا، ولكنه نجا مرّة ثانية، لأن الحياة في نهاية المطاف أقوى من الموت. ياماغوتشي رحل عن عالمنا في عام 2010، لم ينقص من عمره لحظة، عاش ما هو مقدّر له، وظل شاهدًا على قوة الحياة في وجه الموت. هذا لا يعني أن نتركهم يشيّدون عمارة الموت كما يحلو لهم، بل عليهم أن يعوا جيدًا درس هذا المواطن العادي، في كوكب يحكمه من لا يحترمون الناس العاديين.



عمارة المقاربة

مدينة هرقليون الغارقة أمام شاطئ الإسكندرية

 




في مقاربةٍ ممكنة، فإن عشرات المدن في مختلف أنحاء العالم توجد تحت الماء. هذه مدن كانت تحيا إلى أن تحوّلت من عمارة الحياة إلى عمارة الموت، إما بسبب حرب، أو طوفان، أو زلزال، أو تسونامي، أو أي أمر من هذا القبيل. "هرقليون" الإسكندرية المفقودة، سان روما دي ساو الكاتالونية الغارقة، وكر القراصنة الغارق في جامايكا، بوابة الجنة الغارقة في الهند، بافلوبيتري اليونانية، أقدم مدينة تحت الماء في العالم، مجموعة مؤلفة من 10 قرى كندية غارقة تحت الماء، عتليت في حيفا الفلسطينية وغيرها، وغيرها. ورغم الصمت المطبق لتلك المدن الساكنة أعماق البحار، إلا أن في صمتها حكايات، سرديّة عميقة المؤدى عن عمارة الموت، وعن موت العمران. أثر باقٍ، مدن بعضها تركت كما كانت حتى آخر أنفاس الحياة: الكأس فوق الطاولة، اللوحة فوق الجدار، تمثال الأسد عند المدخل، حجارة البيت على حالها، يسكنها البرد إضافة للصمت، تدور حولها كواسر البحر، فتتعجب كم نحن كواسر أكثر بكثير مما تعتقد نفسها



موت الفضيلة

استحوذت أطلانطس (مدينة أفلاطون الفاضلة) على خيال الفلاسفة والمفكرين على مرّ الزمن. بحث عنها مغامرون حالمين أنها تتمتع بجمال طبيعي وتحتضن ثروة كبيرة.
إحدى النظريات ربطت بين أطلانطس (تُكتب كما يحلو لنا: أطلانتس، أطلانطس، أتلانتس، وهلمَّ جرًّا) وإحدى المناطق الواقعة في مضيق جبل طارق وغرقت في البحر منذ 11 ألف عام.
حتى أن الباحث الأكاديميّ الألمانيّ، الدكتور راينر كويهن، من جامعة أوبرتال الألمانية، كرّس كل جهده ووقته البحثيّ العلميّ، في تبني مقاربات لِمكان مدينة أفلاطون، مرجحًا أنها قد تكون جزءًا من ساحل إسبانيا الجنوبيّ قريبًا من إشبيلية.
مرّة يقول إنها إما سييرا مورينا، أو سييرا نيفادا، معللًا فرضيته هذه أن أفلاطون ربط المدينة بالنحاس، وفي جبال سييرا مورينا توجد مناجم نحاس. ومرّة يرجّح أن سكّان أطلانطس هم أنفسهم قراصنة البحر. ولا مرّة فكّر، لا هو، ولا غيره، تأمّل البعد الفضائلي لِمدينة أفلاطون، وأنها المدينة التي أرادها تلميذ سقراط بلا عمارة موت، ولا مداميك خراب، ولا أطماع غزو، ولا مشاريع توسّع على حساب الآخرين من جيراننا في الكوكب المنكوب بنا. مدينة يكون الحاكم فيها حكيمًا، والمواطن حاكمًا، والنبل سِمَةً، والرفاه استحقاقًا.



شذرات

(*) تمثّل رواية المصري علاء الأسواني "عمارة يعقوبيان"، التي تحوّلت إلى فيلم سينمائي، من إخراج رامي إمام، وبطولة عادل إمام، عمارة موت. فهي تؤبّن، بحسب سرديّتها، زمنًا جميلًا كانتْه مصر قبل جمال عبد الناصر. زمن القاهرة الكوزموبوليتانية، المتنوّعة، الحيوية، زمن السهر والتسامح الدينيّ والسينما وحدائق الغناء وعمالقته الكبار. عندما كانت مصر تغري مستثمرًا سويسريًّا (جاكومو غروبّي)، ليأتي ويستقرّ فيها، ويفتتح في وسط البلد التاريخيّ العريق مطعمًا يقدّم بعد الشاي و"ساندويتش الروزبيف" بوظة "غروبي" الشهيرة، حيث كان جاكومو أوّل من أدخل في النصف الأول من القرن العشرين (الكريم شانتيه)، و(الآيس كريم) إلى مصر.
فى كتابه "القاهرة المدينة المنتصرة"، يصف عاشق مصر، وأستاذ الأدب المقارن الإنكليزي ماكس رودنبك (1936 ـ 2020)، الأجواء في المقهى الشهير، فيقول: "كان غروبي في ما مضى مكانًا للمكائد السياسية، وساحة لعقد الصفقات التاريخية، وتجمع الكتّاب والصحافيين والفنانين ونجوم السينما، ونجوم المجتمع من محبّى الظهور، واليوم تتناقص أعداد أولئك الذين عايشوا وعاصروا غروبي فى أيام مجده، وهؤلاء الذين لا يزالون على قيد الحياة منهم يقولون الشِّعر فيه حين يتحدثون عن تلك الأيام الجميلة الغابرة".
أمر واحد غفلت عنه مصر ذلك الزمان الذي يعلن الأسواني في الرواية موته: العدالة الاجتماعية، فقد كان ميسورو مصر يمضون في ملاهيهم ومسرّاتهم، بينما كان السواد الأعظم من الشعب المصري يعيش في الصعيد والأرياف، وعند حدود وحواف الفاقة والحرمان. غفلوا عن أكثر ما يدمّر الأمم، ويخرّب العمران، ويفسد السهرة الصاخبة: عدالة توزيع الوفرة، وتمتين أواصر العطاء، وتدشين عرى التسامح.

(*) خلال أيام قليلة، تحوّلت مدن أوكرانية بأكملها إلى خرائب تندب عمارة كانت، وتشهق الصدمة أن ضربة أبناء العمومة دائمًا أوجع. على الهواء مباشرة، تستطيعون أن تستعيضوا عن مقالي هذا بمتابعة ما يجري من حرب روسيا على جارتها، وقبل ذلك تابعتها، وقبل ذلك وبعده، على الدولة التي ينتمي أهلها إلى العرق نفسه والعائلات نفسها والملامح نفسها التي ينتمي إليها الشعب الروسيّ! فهل من عمارة موت أبلغ من كل هذا الذي يحدث صوتًا وصورة؟
ما أحزن عمارة الأرض عندما تتحوّل إلى خبرٍ آفلٍ عاجل.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.