}

"أم الزنار" في محافظة حمص.. من أقدم كنائس العالم

علاء زريفة 17 مايو 2022




في حي الحميدية في محافظة حمص في وسط سورية، تقع واحدة من أقدم كنائس العالم على الإطلاق، والتي أخذت اسمها المميز من الاعتقاد السائد بوجود "زنار ثوب مريم العذراء" فيها، فسميت بـ"أم الزنار". هذا المكان يتمتع بأهمية كبيرة نظرًا للمكانة الدينية والسياحية أولًا، وثانيًا لموقعها في نفوس رعاياها ولدى أبناء سائر الطوائف المسيحية الأخرى، ولدورها المهم الذي لعبته أثناء الحرب في مجال تقديم المساعدات الإنسانية، والتخفيف من معاناتهم إبان الحرب وبعدها.

كلف موقع الكنيسة القريب من حي الخالدية، الذي كان أحد معاقل المعارضة المسلحة، ثمنًا كبيرًا نتيجة الصدامات العسكرية مع القوات الحكومية فقد تم تدميرها بشكل جزئي وتعرض سقف الكنيسة للتدمير الكامل، واحترقت أجزاء منها، كذلك اضطرت إلى إجلاء قسم كبير من رعاياها إلى المناطق الأكثر أمانًا، نحو ناحية شرق حمص وغيرها من المناطق كما أخبرني القس طوني حنا.

كانت عمليات الترميم مستمرة في الكنيسة عندما زرتها، لا سيما في الجزء الخاص بمزار الزنار الملحق بالكنيسة التي تم إنجازها. فقد شاهدت رفقة القس طوني حنا الزاوية العليا من الباب، والتي كانت تحوي صورة كبيرة لمريم العذراء، وقد احترقت بالكامل نتيجة إصابتها بعدة ضربات صاروخية. في حين نفت المطرانية، وفقًا للأب زهري خزعل الذي التقيته أثناء زيارتي أيضًا، أن تكون الكنيسة بحد ذاتها قد نهبت أو أن يكون الزنار قد سرق، وأن الأضرار في الكنيسة بحد ذاتها خارجيّة.  

قصة الزنار الذهبي

يروي الأب زهري خزعل، القائم على شؤون الأبرشية حاليًا، رؤيا القديس توما بعد وفاة السيدة مريم بثلاثة أيام، حيث رآها تصعد إلى السماء محمولة في موكب ملائكي عجيب، فأخذ بركة الجسد الطاهر، وطلب علامة، ليبين لأخوته التلاميذ، حقيقة صعود العذراء بلا جسد إلى السماء، فأعطوه "الزنار المقدس"، فحمل الزنار حتى وفاته حيث دفن الزنار مع رفاته، ونقل بعدها إلى مدينة حمص سنة 476م.

وفي رواية أخرى وبموجب التقاليد المسيحية، فإن الزنار كان من نصيب القديس توما الذي نقله إلى الهند، ومكث فيها أربعة قرون، حيث نقلها إلى مدينة الرها مع رفات القديس توما، ومنها إلى حمص سنة 476م، حيث أن راهبًا يدعى الأب "داود الطور عابديني" قدم إلى الكنيسة في طريقه إلى القدس، ومعه الزنار وبسبب مرض ألم به منعه من إكمال رحلته، حفظ الزنار في الكنيسة التي تلقبت نسبة له.

الزنار منسوج بخيوط الصوف والحرير وموشى بالذهب، وجد في علبة أسطوانية من الفضة المتأكسدة كانت في جرن ضمن مذبح الكنيسة، ويقول الأب خزعل إن هذا الاكتشاف جاء من قبل البطريركية اعتمادًا على وثائق خفية عثرت عليها، أشرف عليها البطريرك إفرام برصوم في مطلع الخمسينيات من القرن الماضي، والذي تواصل مع الجهات المختصة لإجراء عمليات التنقيب، وتم الكشف عن الزنار في سنة 1953م.

يخبرني الأب طوني حنا أن الزنار محفوظ حاليًا في الأبرشية بعد الأحداث التي ضربت المدينة، وعند انتهاء عملية إنجاز المزار الخاص به سيعرض للزوار، ولا يتم إخراجه حاليًا إلا في الخامس عشر من آب/ أغسطس من كل عام، وهو عيد "انتقال العذراء" حيث ينقل من الكنيسة، ويتم الطواف به في الشوارع المجاورة.

 تاريخ تشييد الكنيسة التحت أرضيّة يعود لعام 59  


من ملجأ إلى كنيسة فأبرشية

أتجول مع القس طوني حنا في أرجاء الكنيسة حيث حدثني عن تاريخ هذه الكنيسة الأخاذة قائلًا إن تاريخ تشييد الكنيسة التحت أرضيّة يعود لعام 59، وهي تقع أسفل الكنيسة المشادة حاليًا التي تتسع لـ 500 مصل. ننزل إليها عبر درج بجوار الكنيسة. وهي أشبه بقبو تحت الأرض كانت تتم العبادة فيه سرًا خشية من الحكم الروماني الوثني، وذلك على يد إيليا، أحد تلاميذ المسيح السبعين؛ وبعد أن أصبحت حمص مقر أبرشيّة كانت الكنيسة كرسي الأبرشية الأسقفي وأقام فيها أول أساقفتها سلوانس قرابة الأربعة عقود حتى وفاته عام 312.

ويتابع طوني قائلًا: إن الكهف القديم كان يسع حوالي 30 مصليًا، ولم يكن يضم أي علامات علي أن هذا المكان "كنيسة"، خوفًا من تعرض المؤمنين للاضطهاد، الذي كان يتعرض له المؤمنون حينها، وعقب انتشار الديانة المسيحية بنيت كنيسة من الحجر الأسود، مارس فيها المصلون شعائرهم الدينية، ثم ردموها وبنوا الكنيسة الحالية الضخمة التي تتسع لـ 500 مصل. وفي عام 313 بدأ مسيحيو حمص تشييد كنيسة كبيرة فوق الكنيسة القديمة المحفورة تحت الأرض، واستعملوا في بنائها الحجر الحمصي الأسود، وسَقفوا الكنيسة بالخشب وإليها نُقل الزنار المقدس الذي كان محفوظًا بوعاء معدني وضمن جرن بازلتي، أما عمود الجرس أو الجرسيّة فقد بنيت في القرن السادس أو القرن السابع. وفي عام 1852 قام المطران يوليوس بطرس بترميم الكنيسة، فردم السقف الخشبي وبعض الجدران، وشيدوا الكنيسة الحالية القائمة على ستة عشر عامودًا ضخمًا منها ثمانية أعمدة وسط الكنيسة والباقي ضمن جدرانها، وشيدوا في وسطها قبة نصف أسطوانية مزخرفة. أما الزنار فقد وضع ضمن جرن بازلتي في وسط المذبح، ووضعوا فوقه حجرًا ونقشوا عليه بالخط الكرشوني تاريخ تجديد الكنيسة وأسماء المتبرعين، وذكروا أنَّ الكنيسة تَرجع لعام 59. في عام 1901 أضيف للكنيسة الجرسيَّة الحالية، وفي عام 1910 وبأمر من السلطان العثماني محمد الخامس جددت الكنيسة.

وفي عام 1953 وخلال حبرية البطريرك إغناطيوس أفرام الأول برصوم تم إخراج الزنار من وسط المذبح، وعرضه في مزار صغير مجاور للكنيسة؛ وفي عام 1954 قام البطريرك أفرام الأول برصوم بتوسيع الكنيسة لجهة الغرب وإضافة جناح لها. كانت المنطقة التي تحوي الكنيسة، قد شهدت عدة اضطرابات منذ بداية الأحداث السورية عام 2011. فتم وفقًا للأب طوني حنا إفراغ الكنيسة مؤقتًا من محتوياتها قبل أن تعود لها الحياة بعد عام 2014م تاريخ خروج عناصر المعارضة المسلحة باتجاه إدلب في الشمال السوري.

السماء (قد) تفتح أبوابها مجددًا

حالفني الحظ أثناء هذه الزيارة القصيرة للكنيسة برؤية وفد طالبات كن في زيارة لها، يرافقهن القندلفت عبدو فرح وهو يرد على أسئلتهن حول طبيعة الديانة المسيحية، وأوجه التشابه والتباعد بينها، سواء في العبادات ورمزيتها، وبعض الطقوس ودلالاتها لدى المسيحية، وقد سألتهن حول انطباعاتهن التي جاءت معبرة عن مشاعر الغبطة والسعادة بمحاولة معرفة الآخر المختلف دينيًا بعد ما مر على حمص من سنوات كان التدين الزائف سلاحًا فتاكًا يرفعه السوريون بوجه بعضهم البعض. كذلك كان هناك مجموعة من الشبان والشابات الفرنسيين الذين أخبروني أنهم قدموا في جولة سياحية لسورية لزيارة عدد من أماكنها السياحية، ومنها كنيسة أم الزنار، وللاحتفال بعيد الميلاد ورأس السنة، وقد أخذوا عددا من الصور التذكارية في ساحة الكنيسة رافعين العلم السوري، وعبارات تؤكد على رسالة الحب والسلام للبلاد التي أنهكتها الحرب والدمار.

الدور الإنقاذي للكنيسة

تحدثت إلى أحد المواطنين ممن كانوا في زيارة عادية للكنيسة للصلاة والذي تحدث بأسى عن السنوات الماضية وما جرى من أحداث هددت وجود المسيحيين في المدينة بصفة عامة، وعن الخدمات والدعم الإنساني الذي قدمته الكنيسة سواء لرعاياها أو أبناء الطوائف المسيحية الأخرى، ما يعكس روح التسامح والأخوة التي تتمتع بها الكنيسة، رغم أنها تتبع لطائفة السريان الأرثوذكس. فقد ذكر لي أن الأبرشية ممثلة بالأسقف سلوانس برصوم، القائم على إدارة شؤون الكنيسة، تكفلت بدفع تكاليف ترميم مئات المنازل بعد عودة أهاليها إليها، كذلك قامت بدفع أجور المنازل في فترة نزوحهم إلى المناطق الأكثر أمانًا، إضافة إلى توزيع المعونات الغذائية، والطبية للمحتاجين بشكل شهري للعوائل الفقيرة والمحتاجة.

وذكر لي القس طوني حنا أن الكنيسة تقوم دائمًا بمشاريع خيرية توزع فيها الملابس والأغذية وسواها، يساهم فيها متبرعون من داخل سورية وخارجها، الهدف منها مساعدة الناس على البقاء، والتخفيف من وطأة الأزمات الحالية التي تعصف بهم، والتمسك بالبلاد على اعتبار أن الوجود المسيحي مرتكز أصيل يسهم في تعزيز اللحمة الوطنية، وقبول الآخر، والانسجام مع باقي مكونات المجتمع السوري.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.