لكل من المدن موطن جمال وسحر وعطر.
ولمدينة الكاف (تونس) العالية جمال أخّاذ وسحر طبيعي وتاريخ مجيد يجعلها تستحق اسمها باللغة العربية، ويعني المدينة التي بنيت فوق الكهوف ومفردها كهف وقد تحوّلت اللفظة إلى العامية فسقط حرف الهاء في الأثناء لتصبح الكاف، والعالية شهادة على أنّها شُيّدت فوق هضبة يصل علوّها إلى سبعمائة وثمانية وخمسين مترًا فوق سطح البحر.
أما اسمها اللاتيني منذ العهد الروماني فهو "سيكا فينيريا" ويعني فينوس آلهة الحبّ والجمال، وهي كذلك حقًا بكل ما ترويه تفاصيلها، إذ يطيب فيها العيش وخاصة في الشتاء حيث تتساقط الثلوج على مرتفعاتها وتسكن الروح داخل كهوف حضاراتها حيث الدفء يشعّ من مدفآتها ومن قلوب أهاليها الذين اشتهروا بعشقهم الأبدي للحياة وللفنون بجميع أشكالها وخاصة الغناء والطرب، وحتى الآن لا يكاد يخلو بيت من بيوت أهاليها الأصليين من الأدوات الموسيقية كما لا تكاد تخلو عائلة من وجود فنان معروف في مجال ما من مجالات الفنون.
تقع مدينة الكاف في الشمال الغربي من البلاد التونسية على الحدود الجزائرية إذ لا تكاد تفصلها عن مدينة عنابة الجزائرية إلا مسافة أربعين كيلومترًا. وهي، حسب ما تذكره آثارها، أنشئت منذ الحصر الحجري الأول، أما كتب التاريخ فهي تؤكد نشأتها في العهد اللوبي أو البوني. ولأنّ موقعها الجغرافي جعلها تتميز بعلوّها فقد اتخذ منها الرومان قلعة حصينة لهم تشرف على سهول كانت لهم فيها مواقع وآثار مثل زنفور والأربس ووادي ملاڤ.
وقد شهدت مدينة الكاف في العهد الروماني ازدهارًا كبيرًا إذ سُميت أيضًا بمطمور روما نظرًا لثراء منتوجها الفلاحي وخاصة من الحبوب بشتى أنواعها والتي كانت ترسل إلى روما عاصمة الإمبراطورية.
وتشهد على هذا الماضي المجيد آثار لا تزال تزيّن المدينة مثل كنيسة دار القوس المقامة تقرّبًا للقديس بطرس، والنقوش الكثيرة في الكهوف والفسقيات والتماثيل والكثير من الفسيفساء كما تمّ اكتشاف حمامات وكنيسة أخرى منذ سنوات قليلة.
فُتحت مدينة الكاف إسلاميًا وهي التي يسكنها البربر والأمازيغ حوالي سنة 689 ميلادية بعد انهزام القائد كسيلة البربري لتتراجع مدينة الكاف طيلة العهد الإسلامي عن دورها المركزي الذي عُرفت به كقلعة حصينة وكطريق رئيسية في الحركة بين تونس والجزائر.
أماّ مسجدها فهو معلم قديم أدخلت عليه بعض التحويرات وأضيفت له مئذنة ومحراب.
ولم تعد الكاف إلى دورها الاستراتيجي المهم إلاّ في العهد العثماني حيث عُهد إليها بالدفاع عن الإيالة التونسية من الهجومات الجزائرية القادمة من جهة قسنطينة.
وقد بُنيت القصبة الرابضة في أعلى الهضبة سنة 1675 م كما قام علي باشا بإقامة سور حول المدينة سنة 1740 م، وعندما تولى حمودة باشا الحكم تولى ترميم القصبة وسور المدينة حوالي سنة 1806 م.
حاليًا تندرج القصبة في إطار المسلك الثقافي الذي تستغرق مدّة زيارته ساعتين ونصف الساعة، وكذلك قلعتها التي تُعَدُ تاجها. كما يشمل المسلك البازيليك الروماني الذي يعود إلى أكثر من ثلاثة آلاف سنة، وكنيسة دار القوس التي يرجع تاريخ تشييدها إلى القرن الرابع ميلادي، وكنيسًا يهوديًا، ومقام سيدي بومخلوف الذي شُيّد في العهد العثماني، ومتحفًا للعادات والتقاليد الشعبية المتوارثة عبر كل الحضارات المتعاقبة على هذه المدينة الثرية بموقعها الاستراتيجي وبطبيعتها الخلابة وبآثارها الفريدة وبطبيعة أهلها المنفتحة على عشق الحياة بالرغم من أنّهم أبناء مرتفعات وليسوا أبناء بحر. ورغم كل هذا الذي تتميّز به، فقد ظلّت وما زالت لسنوات طوال مهملة من قبل الدولة التونسية العاجزة عن تحويلها إلى قبلة سياحية مهمّة. بعد إدراج مائدة يوغرطة على قائمة الآثار العالمية من قبل منظمة الإليكسو، وهي مائدة تقع على ارتفاع 1270 مترًا تخليدًا لذكرى القائد البربري يوغرطة، الذي تحدى الإمبراطورية الرومانية، بدأت وزارة الثقافة التونسية والآثار بالاهتمام بمدينة الكاف لإعدادها لتكون وجهة سياحية شتائية بالخصوص، كما بدأ بعض المستثمرين من أبناء المدينة في الاستثمار في هذا الجانب السياحي من خلال صيانة بعض الآثار كمقام سيدي بومخلوف الشهير الذي يُعد قبلة الزوار والذي شُيِد إلى جانبه مركب سياحي سيمثّل نقطة إشعاع ستعيد لمدينة الكاف بعلوّها وغاباتها وصخورها وعيونها المائية الصافية وآثارها التي تبدو كالوشم على وجه عجوز أمازيغية بربرية، حظوتها بين المدن التونسية التي تتميز كل واحدة منها عن الأخرى بالكثير لكنّها مجتمعة كباقة ورد تشكٌل تونس العريقة والخضراء.