}

الفراسة.. هل تعود للتأثير مع وسائل التواصل الاجتماعي؟

فريد الزاهي 16 يوليه 2022
اجتماع الفراسة.. هل تعود للتأثير مع وسائل التواصل الاجتماعي؟
علي المندلاوي، العراق




القليلون منا يعرفون أن جرجي زيدان، الذي غذت يفاعتنا رواياته التاريخية المشوبة بقصص الحب، كتب كتابُا بعنوان "علم الفراسة الحديث" نشره عام 1901. وهو كتاب مليء بالصور والرسوم التوضيحية، عن علم كان أحد المعارف العربية القديمة التي صنف فيها العرب مرجعيات غدت مشهورة في الغرب، وبالأخص منها الفراسة للرازي، والفراسة لابن القيم، وغيرهما. كان المرمى من هذا الكتاب، مزدوجًا، أن يؤكد المؤلف استمرارية علم يزاوج بين الطب والذكاء والتبصر والتنجيم والسحر والعرافة، في الغرب المعاصر له، وأن يدافع عنه مقدار ما دافع عنه رواده الأوروبيون على غرار لافاتير وغيره.


الفراسة رهانًا على الحداثة؟

لماذا هذا الكتاب عن هذا "العلم" بالضبط في تلك الفترة؟ ليس علينا أن ننبش عميقًا لكي ندرك أن هذا المثقف النهضوي كان مولعًا بالثقافة العربية القديمة، عارفًا بها وبمعارفها المختلفة وبتاريخها. وهو من ناحية ثانية كان متقنًا لبضع لغات غربية كالفرنسية والإنكليزية، ما جعله محيطا أيضًا بمنتجاتها الثقافية البارزة. بيد أن اختيار هذا الموضوع بالضبط لا يمكن إلا أن يفصح عن مقاصده المتمثلة في علم يؤمن بالفرد والفردية وبالتميز الذي يمنحه المظهر للإنسان، وبخاصة منه الوجه. صحيح أن ثمة جوانب أخرى في الفراسة تهتم بالجماعات و"الأعراق"، غير أن الجانب منها، الذي لا يزال متداولًا لحد اليوم، يتعلق أساسًا بقراءة الوجه وملامحه. والوجه موطن الفرادة والهوية ومن ثم هو ما يمنح للجسد أيضًا كينونته. لقد حدس هذا الكتاب، الذي كان أول مصنف في الموضوع في عصر النهضة، الأهمية التي تشكلها الفراسة في الحياة اليومية والذهنية للإنسان العربي، والدور الذي يمكن أن تلعبه في بناء عقلية جديدة لها طابع "علمي".



كانت الفراسة بمختلف أشكالها (ومنها تحديد النسب) تشكل، كما جاء بالأخص لدى ابن القيم الجوزية، نمطًا من التبصر يمكن من الحكم الصائب، وتفادي الخطأ، واستكشاف الباطن من خلال الظاهر. إنها ضرب من السيكولوجيا البدائية التي تعتمد على محددات خلْقية للكشف عن خفايا خُلُقية. وكان جرجي زيدان يعلم أن الفراسة قد تصدى لها الكثيرون، من سقراط إلى هيغل. لذلك فهو من البداية يطرح الأمر: "للعلماء في علم الفراسة أقوال متناقضة. فمن قائل بصحته إلى أدق جزئياته وقائل بفساده من أساسه وبينهما أقوال متفاوتة لا محل لتفصيلها. وعندنا أن الفراسة علم صحيح إلى حد محدود. إذ لا يختلف اثنان في إمكان الاستدلال على أخلاق الناس من النظر إلى ظواهرهم. من منا لا يتفق له أن يرى رجلًا فيتوسم فيه الذكاء والفهم وسلامة النية ويرى رجلًا آخر فيحكم عليه بالحمق والرياء أو خبث النية. وكم نرى من رجال لا نتمالك إذا نظرنا إلى هاماتهم وتكوين جماجمهم عن أن نحكم بشجاعتهم أو جبنهم أو بذكائهم أو عيهم. وفي التاريخ أدلة لا تحصى تؤيد ما نقوله بأجلى بيان فضلًا عما جاء على ألسنة الأنبياء والحكماء".

جرجي زيدان وكتابه "علم الفراسة الحديث"



وقع جرجي زيدان تحت فتنة لافاتير لأن "علمه" له جذور عربية، ولأن الفراسة كانت ما تزال تحظى بتأثير كبير في أوروبا القرن التاسع عشر. ولأن الرجل لم تتح له قراءة هيغل أو نيتشه أو الكتابات الأولى لفرويد، فإن ولعه بالفراسة كان بشكل ما تعبيرًا عن الحاجة إلى علم للنفس يسبر بواطن الذات الإنسانية. لقد كان علم النفس بشكله الحديث المجال الذي تأخر دخوله كثيرًا للعالم العربي، لهذا كانت الفراسة المضمار الوحيد الذي بدا لجرجي زيدان تعبيرًا عن علمية مفترضة. من ناحية أخرى فإن الفراسة بطابعها التصنيفي للشخصية الإنسانية (والحيوانية أيضًا)، كانت تركز على الوجه، ومن ثم على التميز الفردي. لقد كانت شكلًا من أشكال التركيز على الفردانية باعتبارها إحدى مرتكزات الحداثة.

بيد أن هذا "العلم" كان من ناحية أخرى وراء بناء تصنيف تراتبي للأعراق، ومن ثم وراء تفوق العرق الأوروبي وتبريره لاستعمار الشعوب الأخرى التي كانت تعتبر وحشية وأقل ذكاء، وموضوعًا ممكنًا للتحضر والتمدين. لقد صاحبت هذه المفارقة موقف جرجي زيدان بالرغم من الحذر الذي أبداه بخصوص تبنيه لصحة الفراسة و"علميتها". فالطابع التقني للفراسة وبناؤها لخصائص الفرد بالنظر إلى ملامح وجهه وخصائص جسده كان يمنحها مصداقية لن تصمد طويلًا أمام النظرة الأنثروبولوجية التي تجعل الفرد كيانًا اجتماعيًا وثقافيًا مشروطًا بمجموع تجاربه الحياتية الواقعية.
           

الفراسة وأنماط التواصل الرقمي

حين ظهرت بوادر شبكات التواصل لدينا في أواخر العقد الأول من الألفية الجديدة، كانت الصورة الرقمية قد صارت متداولة، والآلات الصغيرة أضحت تنافس الهاتف المحمول في الأهمية اليومية. وإذا كان هذا الأخير قد تطور حثيثًا في حجمه وممكناته التقنية، فإن الانفصال بينهما كان واضحًا. الهاتف للتواصل الشفهي اليومي وبعث الرسائل، وآلة التصوير الرقمية للإمساك بالمرئي. وكان الكمبيوتر المجال الذي يتحقق من خلاله ضخ الصور في الفيسبوك واختيار صورة البروفايل، ومن ثم خلق ذاكرة بصرية للذات.



ولأول مرة صار المرء يحمل هوية مرئية من العموم، تجاوز بكثير هويته التي تلازم جيبه، ويتحكم في اختيارها وفي استبدالها متى شاء، بل إنه بدافع من الحنين قد ينشر صورًا قديمة له بعد رقمنتها. استهوت مواقع التواصل الاجتماعي الشباب فدخلوها أفواجًا أفواجًا. وقاومها الكهول زمنًا قبل أن يستسلموا لسحرها. لقد وجدوا فيها ضالتهم، أعني فضاءهم الشخصي، الذي بدأ يشكل مع الوقت مجال هويتهم الجديدة. وأضحى هذا الفضاء الشخصي مجالًا للفردنة والتفرد، وولادة للذات في فضاء الذوات. وصار التواصل من خلف الشاشة وحُجُبها مدخلًا للتواصل المباشر بالسكايب، وللقاء المباشر في الفضاء الواقعي. لقد صارت الصفحة الشخصية مجالًا للانفصال عن الجماعة والعائلة وتحررًا من مواضعات المجتمع الواقعية؛ إنها المجال السري لعيانية شخصية لا يملك مفتاحها إلا صاحبها ومن يحيطون به. قد يسرّ لها المرء بهمومه، وقد يستخدمها مجالًا لنشر إبداعاته، وقد يفجر فيها موهبته في السخرية والنقد اللاذع من غير رقيب غير من يتواصلون معه.

لافانير وكتبه عن علم الفراسة



أضحت صورة الوجه حينها مدخلًا للتواصل. وحين يتوصل المرء بطلب صداقة تكون هي عتبة القبول أو الرفض. فالصورة ملامح ونظرة تقدم للآخر كائنًا قد يستجذب اهتمامه. وإن هو تصفح المنشورات فقد يتأكد له "طبع" ذلك الشخص. في هذه المرحلة "البدائية" من وسائل التواصل الاجتماعي، كان الشخص يتسلح بفراسته، أي بحدسه وذكائه في قراءة ملامح الوجه ووضعية الجسد. فالمظهر يكون هنا حاسمًا لقبول صداقة الشخص ومعرفة نواياه ومقاصده واستكناه شخصيته، ومن ثم تلاؤم تلك المقاصد مع مقاصد الناظر للصورة. بيد أن تطور وسائل معالجة الصورة واستبدال الملامح وكثرة تقنيات "الفيلتر"، أضحت تغير من الطابع الحقيقي لصورة الوجه. وهنا صارت فراسة المرء تتعطل أو تبحث لنفسها عن طرائق أنجع للإمساك بهذه التحولات. فتغيير صورة الوجه افتراضيًا أشبه بجراحة التجميل، أو أقدر منها على امتلاك وجه آخر حسب المبتغى.

هل بعثت وسائل التواصل الاجتماعي ما يعرف بعلم الفراسة، أو على الأقل بعضًا من ملامحه؟ وما الذي يجعل أنماط التواصل الراهن تستعيد هذه التقاليد أو بعضًا من عناصرها؟ وهل تندرج الفراسة أو بعض مكوناتها في سيرورة ولادة الفردانية؟ وهل شجع تصوير الوجه والبورتريه على تفشيها من جديد؟

يقود تعقّد العلاقات الاجتماعية في طابعها الفرداني إلى الاشتغال على الوجه باعتباره مدخلًا لطُويّة الفرد وبواطنه. ووسائل التواصل الاجتماعي بتذويبها للشخص في لجة علاقات افتراضية تستوجب التخمين والتفرس في ما يقدمه الآخر من ملامحه وملامح شخصيته. وسيولة هذه العلاقات والتحولات التي تستتبعها تجعل الكائن الافتراضي أكثر سيولة وميوعة مما يتطلب استكناها أكبر للدخول في العلاقة. إنها فراسة مؤقتة بدأ يستخدمها أيضًا المدربون أو "الكوتشات" بشكل مغاير في بناء شخصية الفرد وصياغة علاقته بالغير وتنضيد وعيه بالآخرين. كما أن العديد من التدوينات تعتمد على عناصر الفراسة الشعبية التي تخترق الحكايات الشعبية والأمثال والنوادر... وهي تشكل بهذا المعنى استيحاء لـ"حكمة شعبية" متداولة وتوظيفًا لها في تفادي مخاطر العلائق الفردية في عالم يتغير فيه شكل الوجه واقعيًا (بالتجميل) وافتراضيًا بالتحوير الرقمي لمعطيات الوجه وملامحه. من ثم... قد تكون الفراسة علمًا متجاوزًا، وتفكيرًا ميكانيكيًا يلغي الطابع الاجتماعي للفرد، لكنها مع ذلك تظل سارية وتجد لنفسها أشكالًا جديدة للتبلور في عالم يسوده أكثر فأكثر الاحتراس من الآخر.  

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.