}

من استلاب إلى آخر: هل مصائرنا لم تعدْ بأيدينا؟

فريد الزاهي 5 أبريل 2024
آراء من استلاب إلى آخر: هل مصائرنا لم تعدْ بأيدينا؟
أضحت وسائل التواصل مدرًا للمال والشهرة (Getty)
تداولت وسائل التواصل الاجتماعي في المغرب في الآونة الأخيرة قضية يسرا، الشابة التي استغلها زوجها وحماتها في ما يصورانه من حياتهم اليومية وينشرانه في اليوتيوب والتكتوك، ما يدّر عليهما مداخيل إلكترونية ويمنحهما شهرة وموقعًا في العالم الافتراضي. ويسرا شابة في مقتبل العشرين متوسطة التعليم، زوّجتها عائلتها بشاب لم تتعرف عليه من قبل. وجدت يسرا نفسها منذ اليوم الأول تتكفل غصبًا عنها بأشغال بيت عائلتها الجديدة، ويتم تصويرها وهي تتعرض للتعنيف والتوبيخ والاستغلال اليومي. وحين يعلق أحد المتتبعين مندّدًا بذلك، تفرض العائلة عليها أن تجيب بالابتسامة بأنها سعيدة وراضية بذلك. بعد أربعة شهور على هذه الحال، قررت الفتاة الانفصال، وحكت أنها إن رفضت الظهور، أو الإجابة على المعترضين، يكيل لها زوجها الضرب المبرح حتى تقبل الجواب بالبسمة على الشفاه.
ما يهمنا هنا ليس فقط ظاهرة العنف الممارس على المرأة علانية، وعلى مرأى ومسمع من الجميع، في وقت يستعد فيه المغرب إلى إدخال تغييرات جديدة على مدونة الأسرة، بما يمكّن المرأة من قدر أكبر من المساواة الاجتماعية. بل إن ما يثيرنا أكثر أن هذا العنف يمارس عبر الصورة الحية، ومن خلال تطبيقات أضحت مرتعًا لأنواع المفارقات كافة، ولحرية لا ضفاف لها، قد تبدأ بالدعوية الدينية وتنتهي بالاستهتار الجنسي. الأمر يتعلق، إذًا، بعنف مضاعف، العنف المعيشي الذي تتعرض له المرأة، وعنف الصورة التي بقدر ما تمرّر هذا العنف بقدر ما تمنحه شرعية معينة.
لكنْ الصورة هنا ليست فقط وسيطًا لهذا العنف الاجتماعي، إنها تمنح له أبعادًا جديدة في سياق مغاير للواقع الاجتماعي، يتعلق بالتواصلات الجديدة ودلالتها الملتبسة في عصر العولمة، الذي هو القرن الحادي والعشرون. لقد وجد عدد من البشر مرتعهم في هذا المصدر الجديد للتواصل الحيّ الذي أضحى مشغلًا مدرًا للدخل وللشهرة، بغض النظر عن هدر القيم الإنسانية الأبسط. إن هذا التهافت المؤدي للاستلاب الاجتماعي والثقافي والقيمي لا يقتصر فقط على الفضاء الإلكتروني، بل يطول أيضًا مسلسلات رمضان التي تستعيد بشكل فج في الغالب ثنائية القروي والحضري، وغيرها من القضايا التي تغفل عن جوهر الكوميديا والحس الفكاهي.

من الاستلاب الاقتصادي إلى الاستلاب المعمَّم
الاستلاب كما حدده ماركس في مخطوطات 1844 يعني اغتراب العامل عن المنتجات التي يكون وراء إنتاجها (Getty)

تبيّن هذه الواقعة، كما غيرها، عن تحولات مفهوم وواقع الاستلاب الذي يعيشه الإنسان المعاصر في ظل مفارقات تشدّه أطرافها إلى استعمال الوسائط التكنولوجية والرقمية التي تؤكد انتماءه للراهن، وفي الآن نفسه انشداده لقيم بالية وممارسات تسكن وعيه ولاوعيه، تشهد في حضورها على تمزقاته الثقافية. إنه، مرة أخرى، استلاب مزدوج تمارسه عليه تقاليد معينة ترى أن الرجولة تتمثل في التحكم في المرأة وممارسة العنف عليها وتحويلها إلى سقط متاع، وتمارسه عليه ـ في الآن ذاته ـ وسائل التواصل الجديدة التي يستخدمها بالطريقة نفسها التي قد يستخدم الدراجة، أو الشاحنة، أو الدواب. بيد أن المثير أيضًا هو كيف أن المرأة (الحماة، وأحيانًا أخت الزوج) تغدو العدو اللدود للمرأة والمحرض الأكبر على ممارسة العنف الذكوري على كنّتها، إذ هي التي تسهر على ترويضها بشكل شخصي مباشر، أو من خلال تحريض الابن على ذلك، أو من خلالهما معًا.
فإذا كان الاستلاب كما حدده ماركس في مخطوطات 1844 يعني اغتراب العامل عن المنتجات التي يكون وراء إنتاجها، فإن هذا المفهوم بالرغم من طابعه الغامض يظل من أخصب المفاهيم التي استقاها ماركس من شلايرماخر، وهيغل، وأكثرها قدرة على الانطباق على الوضعية المعاصرة؛ لا لكون العامل في الأشكال الجديدة للرأسمالية لا يزال يعيش الوضعية نفسها فقط، ولكن لقدرة مفهوم الاستلاب على الانزياح عن طابعه الاقتصادي البحت ليغدو مفتاحًا خصبًا لفهم مجالات أخرى، كالسياسة والمجتمع والمعتقدات والحياة الفردية.
في وقت ما، كانت الدولة تتحكم في إنتاج الصور، خاصة منها التلفزيونية والسينمائية. واليوم، مع تعدد القنوات الرسمية وغير الرسمية، أضحى كل فرد راغب في ذلك قادرًا في وقت وجيز، ومن غير رخصة، على فتح قناته على اليوتيوب والدعاية لها، وفي استعمال فضاء التكتوك بشكل عرضي، أو احترافي. لقد أضحى التواصل البصري والرقمي مجالًا لرهانات جديدة يتمازج فيه العالم والجاهل، ويتساوى فيه كل من له الوقت والرغبة في ذلك، لكي يخلق "البوز"، ويفبرك الإثارة، ويطرح بشكل هازل، أو جدي، اقتصادي أو معاملاتي، حضوره كفاعل ومؤثر ويوتيوبر، وغيرها من التسميات...




وأنت حين تدخل مقهى لاحتساء قهوة بعد يوم من الصيام، أو العمل المضني، تجد في الغالب المتحلقين حول طاولة إما يتحدثون عما يشاهدونه جماعيًا في اليوتيوب، أو التكتوك، أو يرتكن كل واحد منهم في مكانه منغمسًا في انطواء تام في شاشة هاتفه. بل إن الأغلب اليوم لا يتفرجون باستعمال "كيت" السماعة، بل يطلقون الصورة والصوت وكأنهم يوجدون لوحدهم في هذا الفضاء العام، غير مكترثين بإزعاج الآخرين بما يتوالى من مشاهد على شاشة هاتفهم. وحين تجلس عائلة إلى طاولة مقهى، لم تعد هذه الفسحة مجالًا للكلام والضحك والتواصل الحميم، فالأب منكفئ كما الأم، كما الابن والابنة، على هواتفهم مختلين فيه بعالمهم الخاص، في غير حاجة فيما يبدو للتواصل سوى مع شاشتهم السحرية.
أعتقد أن الهاتف الذكي سمي كذلك، ليس فقط لأنه فعلًا يتسم بالذكاء لخدمة مستخدمه، ولكن أيضًا لأن ذكاءه ماكر مكرًا منهجيًا، فهو يقترح عليك الجديد، من أصدقاء وموضوعات وحاجيات للاقتناء، وهو حتى في صفحتك يدس لك منتجات اليوتيوب، والتكتوك، من نساء ذوي عجيزات أسطورية، ووقائع غريبة وعجيبة، بحيث أن مهمته تكمن في أن يضلك عن سبيل تصفحك، فتجد نفسك تغرق لوقت طويل في المشاهدة. وهكذا يسلب منك وقتك وإرادتك ورغبتك. أليس هذا أبسط وأفصح مثال للاستلاب التكنولوجي؟
لقد انتبه عديدون إلى هذا الاستلاب (هايدغر، ومعاصره جاك إلّول، سيموندون وغيرهم)، ونبهوا له في وقت لم تكن الفورة التكنولوجية الرقمية قد استعلنت بعد. فغالبية الناس ما زالت ترى أن استعمالها للصور في أشكالها الحالية مجرد استعمال بريء، وأن امتلاكهم لطرائق استخدامها تمكنهم من تملكها وتوظيفها بحرية مطلقة. والحال أن تكنولوجيا الصورة في الأوقات الراهنة أشبه بأخطبوط، وشبكيتها لا ترتهن فقط بإنتاجها، وإنما بترويجها واستعمالها في عدد من الأغراض المتداخلة. فحين يستخدم المرء الصورة في التكتوك مثلًا، يعتقد أنه يخلق محتوى متفردًا يميزه ويمنحه هوية (اجتماعية وبصرية...) تحوله من المجهولية إلى الشهرة. وهو في ذلك يدخل في علاقة مع مجموعة community افتراضية (مؤثر، يوتيوبر، خالق محتوى....) تمكنه من التحول في الهوية، وامتلاك ذات افتراضية لا تعيش إلا بهذه الصفة.

تحولات الاستلاب المدهشة
يعني الاستلاب في بعض مظاهرة العجز الجوهري الذي يحسه الفرد، أو الجماعة، في بناء هوية شخصية وذاتية، بحيث إنه يحس أنه مسيّر من قبل نظام معين (ديانة، أو عقيدة، عوائد اجتماعية، أو وضعية كولونيالية...). إنه يشعر مثلًا بما عبر عنه فرانز فانون في كتاب "معذبو الأرض"، أو "جلدة سوداء وأقنعة بيضاء"، من كون الاستعمار قد أدخل في عقلية الإنسان الأسود مجموعة من القيم والمشاعر والممارسات (ومن ضمنها اللغة) تجعله يحس بنفسه مثل المجنون، فاقدًا لعقله الشخصي (لأن كلمة alienation تعني في معناها الأصل الجنون). بل إن الرجل الأسود صار يؤمن بعدد من الصور النمطية، ويرددها بكثير من الاقتناع، من قبيل الفحولة، وغيرها.
انتبه بعض السوسيولوجيين أيضًا إلى ظاهرة الاستلاب السياسي الذي غدا ظاهرة فقدت معها الحياة السياسية في الأوقات المعاصرة كثيرًا من أصالتها وطابعها الدينامي. وذلك ما كان يشير إليه بطريقة ساخرة أستاذ الإحصاء، حين كنا طلبة في شعبة الفلسفة، إذ يقول لنا بلكنته الأمازيغية: "لا تستغربوا، فالحياة السياسية والحزبية والانتخابات في أميركا كمن يختار بين شرب كوكا كولا، أو بيبسي كولا". إنه المجال الأمثل الذي من خلاله تمارس الدولة ونظامها الديمقراطي الاستلاب على الحياة السياسية، الذي يعيشه الفاعلون السياسيون المستقلون عن هذا النظام بشكل مأساوي. وبالرغم من التمييز الواضح بين الأنظمة الديمقراطية والأنظمة التوتاليتارية، يمكن القول إن هشاشة الديمقراطية في عدد من البلدان التي تسمى عالمًا ثالثًا تمنحنا مؤشرات كثيرة لهذا الاستلاب، خاصة في العقود الأخيرة، التي غدت فيها الممارسة السياسية مضبوطة بالوسائط الإلكترونية والرقمية وتستعمل فيها الصورة بشكل مكثف. من ضمن هذه المؤشرات إحساس الفاعل السياسي بالتبعية الجذرية (للنظام أو للحزب)، والوعي بالعجز عن التحكم في مسيره السياسي بالعلاقة مع دوائر القرار، والوعي بانعدام وجهة معينة للنضال السياسي والتأرجح بين مستويات متعددة من الممارسة. إنه أيضًا الوعي الشقي (وهو بالمناسبة مفهوم يعود لهيغل، أول من تحدث عن الاستلاب) الناجم عن هذا الاستلاب الذي تمارسه الدولة والتنظيمات الحزبية ويعيشه الفاعل السياسي في أبعاده الاحتباسية.
هكذا تحول هذا المفهوم المهمش لمدة طويلة إلى ناظم لتحليل الحياة الفردية والجماعية في تغيراتها المتسارعة، التي حولت العالم إلى نظام شمولي تسافر فيه السياسات والصور بسرعة لا تضاهى، وغدا فيه الفرد يعيش هنا، كما في كل مكان، بمدى قدرته على استعمال الصور ووسائل التواصل الرقمي والتكنولوجي.  وغدت خصوبته الباهرة تكمن في الإمساك بمفارقات العصر الرقمي وممارساته، بقدرته على شمول عدد من المجالات التي لم يُنذر لها أصلًا، والكشف عن مفارقاتها.
وإذا كانت مخاطر الاستلاب الأنثربولوجي اليومي، الذي تعبر عنه حكاية يسرا، تفضح مفارقات مجتمع يمسك بالتكنولوجيا بيد، وباليد الأخرى يتشبث بعوائده القديمة، فإن مخاطر الاستلاب السياسي والعقيدي ليست بأقل جذرية، لأنها تفصح عن هشاشة الفعل السياسي في زمن المراقبة الجيوسياسية الشمولية لمصائر الشعوب. وحين يغدو الاستلاب مزدوجًا، أو متعددًا، فإن مخاطره تغدو مركّبة لا يمكن الانفلات منها، إذا أمكن ذلك جزئيًا، إلا بوعي مركّب بدوره، أو بالانطواء ورفضه رفضًا جذريًا، ومعه حتميته...

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.