}

الكاتب منتحلًا: من السلب إلى النهب

فريد الزاهي 25 أبريل 2024



"ذات اثنين أعلنوا أنني فزت بجائزة مارتين لويس غوثمان... ويوم الثلاثاء اتُّهمتُ في الصحافة بسرقة بعض المقالات الصحافية. ثم إنهم اتهموني يوم الخميس بسرقة موضوع روايتي الفائزة بالجائزة أيضًا. في يوم الاثنين من الأسبوع الموالي، وقّع تسعة وسبعون كاتبًا على بيان ضدي. صباح ذلك اليوم بالذات، اكتشفت أن زوجتي كانت هي التي قامت بالتنسيق بين أولئك الذين اتهموني، وأنها المخبرة الطائشة التي أخطرت الكاتب الذي فضح انتحالي للمقالات وللرواية وكان المحرّض الحقيقي على كل ذلك. ولهذا السبب سميته في هذا الكتاب فولتير (....) وفي الأربعاء الموالي... أعلنتُ عن استقالتي من منصبي بالجامعة وتنازلت أيضًا عن جائزة مارتين لويس غوثمان...

يوم الخميس، أصبح فولتير ميتا في شقته، بطعنة خنجر... يوم الجمعة زارتني الشرطة في شخص المحقق سالادريغلس الذي كشف عن كل شيء. بل اكتشف بطريقته الخاصة من أكون.

كل هذا يتطلب تفسيرًا. وهذا ما ستطّلعون عليه هنا" (ص 4 وما يليها من الترجمة العربية).

هذا هو مطلع رواية "سرقة أدبية" للكاتب المكسيكي إيكتور أغيلار كامين التي نشرها منذ بضع سنوات ونقلها إلى العربية منذ عامين حسن بوتكي. إنها رواية تحكي صعود وانهيار نجم كاتب يحب السلطة الثقافية أكثر من الثقافة، بدأ الكتابة بدافع الشعور بالحسد على ما كان يقرؤه، وورث موهبة التركيب لا موهبة الإلهام. هكذا "انطلقت مسيرتي لأصبح الكاتب الذي هو أنا الآن، أي كاتبًا منتحلًا" (ص 8). إنه كاتب يفكك نصوص الآخرين ويعيد بناءها من باب الإعجاب، لدرجة يفقد معها إمكان معرفة الذي كتبه الكاتب الذي أبهره، وما الذي شكله هو انطلاقا منه. "كنت أدخل الكتب بالسهولة نفسها التي أدخل بها إلى الناس. أستحوذ على تعاطف الآخرين أو حبهم وصداقتهم، بالسهولة نفسها التي أستولي بها على الكتب... كنت أعجب بما يكتبه الكتّاب، لا بسير حياتهم المعذبة أو قلة ذات اليد لديهم... ظللت دائمًا متحيّنًا لفرص الكسب والتأثير والسلطة التي يمنحها لي هذا المجال" (ص 12-13). بعيدًا عن حب السلطة والشهرة، أليس الانتحال أولًا وقبل كل شيء أخلص أشكال الإعجاب؟ كما يقول خورخي لويس كونراد.

  

إيكتور أغيلار كامين  


من انتحال إلى آخر

الانتحال ليس ظاهرة ثقافية فحسب وليس ظاهرة أدبية فقط. فالمحاكم تمتلئ بانتحال الشخصيات، وعلاقات الغواية تنبني في البعض منها على تقمص شخصية مرغوب فيها وجذابة، وتقنيات الفوتوشوب حولت "بشاعة" بعض الفتيات والنساء إلى جمال أخّاذ بحيث غدت الحياة مسرحًا كبيرًا نعيش فيها صور الناس كما يتصورونها أكثر مما نعيش فيها "حقيقتهم". بل إن هذه الصور، مع الوقت، تأخذ مكان الأصل إلى حد أننا قد ننسى الأصل ونتشبث بالصورة.

حين أصدر كاظم جهاد كتابه "أدونيس منتحلًا" (دار توبقال، 1994)، كان الكتاب أشبه برجّة تشكيك في عَلم من أعلام الشعر العربي، كنا ننتظر أن يكون يومًا ما من الحائزين على جائزة نوبل. بيد أن لهجة الكتاب السجالية، وكون صاحبه بدأ شاعرًا لينتهي كاتبًا ومترجمًا، ربما كانت وراء تحوله إلى سحابة صيف. وهو ما حدا بمؤلفه إلى مراجعته وإصداره بصيغة هادئة لتحويله إلى دراسة مرجعية تسعى إلى مجاوزة الفرد للحديث عن ظاهرة. وأنا أتذكر هنا ظاهرة انتحال دكتوراه في اللسانيات أحدثت ضجة كبرى في أواخر السبعينيات بالمغرب، خرج منها صاحبها، مع ذلك ومع الوقت، سليما معافى. بل إن هذه الظاهرة استفحلت في العقود الأخيرة في الجامعات المغربية والعربية إلى درجة صارت معها ظاهرة معمولًا بها، خاصة مع تطور المعلوميات وتوفر المراجع الرقمية، إلى حد أن المجلس الأعلى للتربية والتكوين بالمغرب أصدر تقريرًا يكشف فيه عن مدى تفشّي السرقات الأدبية في أطروحات الدكتوراه. ما حدا بالجامعات المغربية إلى اعتماد برنامج الكشف عن الانتحال قبل المناقشة. بيد أن هذا البرنامج لا يكشف إلا عن السرقات الحرفية ويعجز عن الكشف عن أنماط السرقة الأخرى المتمثلة في الأفكار والأسلوب، إذ يكفي التلاعب والتقديم والتأخير واستخدام المرادفات لكي ينجح السارق في مهمته، إلا إذا تعلق الأمر بالأفكار الشهيرة المتداولة. كما أن الترجمة بتصرف (أو عبر برنامج غوغل) من لغات أخرى وإعادة الصياغة تساعد على إخفاء الانتحال أو على الأقل من التخفيف منه.

لقد أضحت الجامعات مرتعًا للانتحال في صيغته هذه، كما في صيغة أخطر تتعلق باعتماد المنهجية نفسها وطرائق البحث والكتابة نفسها. هكذا يُفرض على الطالب منذ بحث الليسانس أن يعتمد قالبًا محددًا يبدأ بدواعي اختيار البحث وبفرضياته وببسط الميتودولوجيا المعتمدة، كما بتقسيمه إلى شق نظري وشق تطبيقي أو ميداني، وبتقسيمه إلى فصول ومباحث وأبواب. وهذا القالب المعتمد نجده متداولًا في كتب كثيرة مخصصة لطريقة تحرير البحث العلمي والأطروحة الجامعية يتداولها الطلاب ويعتمدونها ككتاب مقدس. أليست هذه النمطية، في آخر المطاف، انتحالًا متواضعًا عليه، بل من أخطر أنواع الانتحال، لأنها تسلب من الباحث الحرية في طرق موضوعه وابتكار المنهجية المناسبة له واختيار أسلوب شخصي للكتابة والتحليل؟

في البدء كان الانتحال

في عام 1990، أصدر رولان دو شادوني "معجم المنتحلين"، يتضمن أسماء أكثر من ثلاثمائة كاتب فرنسي مارسوا السرقة الأدبية، بشكل عرضي أو منهجي، من كتاب آخرين، وبشكل ماكر أو ساذج. ونحن نعثر من بين هذا الكم الهائل على مشاهير الثقافة الفرنسية الكلاسيكية والحديثة والمعاصرة: من رابليه وموليير وفولتير ولامارتين إلى جاك أتالي، مرورًا بغي دي كار وأبولينير ومونترلان وبودلير وغيرهم كثير.

ولو رجعنا إلى ثقافتنا للاحظنا أن قضية السرقة الأدبية كانت متفشية منذ الشعر الجاهلي في المقدمات الطللية والغزلية كما في الصور الشعرية والمعاني، حتى إن حسانا ابن ثابت اضطُر إلى نفيها عن نفسه قائلًا: "لا أسرق الشعراء ما نطقوا *** بل لا يوافق شعرهم شعري".  والمصنفات التي كتبت في هذا المضمار في العصر العباسي تفصح عن هذا الاهتمام، بعد الانتقال من العصر الشفهي إلى عصر الكتابة والتدوين، وكان وراءها علماء اللغة والأدب، من قبيل: "سرقات الشعراء" لابن المعتز، و"سرقات أبي تمام" لأبي أحمد الطاهر، و"سرقات أبي نواس" لمهلهل بن يموت، و"سرقات البحتري من أبي تمام" لأبي الضياء بشر بن تميم. وهي مصنفات يمكن أن تكون مدخلًا لمعجم عربي للانتحال أو السرقات الأدبية.

ولا تخلو ثقافتنا الحديثة من هذه الظاهرة، التي تبدو لصيقة بالأدب. فقد اتُّهم توفيق الحكيم عام 1942 بسرقة مسرحية فرنسية لم يغير منها غير الأسماء لصياغة أول عمل مسرحي له هو "العريس". كما أن مقالات أحمد صالح رشدي كشفت مبكرًا عن "التلاصّ" الأدبي بين مسرحية "حمار الحكيم" لتوفيق الحكيم وكتاب "أنا وحماري" للكاتب الإسباني رامون خمينيث الحاصل على جائزة نوبل عام 1956.

كما اتهم عبد الرحمن شكري إبراهيم عبد القادر المازني بتعريب قصائد الشعر الإنكليزي ونسبتها إلى نفسه، مدلّلًا على ذلك بقصيدة للشاعر شيلّي سطا عليها المازني في قصيدته "الشاعر المحتضر". وإذا كان توفيق الحكيم قد اعترف باقتباسه لمسرحية "العريس"، فإن المازني لم يتجرأ على ذلك، بل اختار سبيل الاستخفاف، وكال غريمه وابلا من التجريح، واتهمه بالجنون، حتى أدى ذلك بعبد الرحمن شكري إلى الاكتئاب. وقريبًا منا وُجّهت التهمة لجمال الغيطاني بالسطو على صفحات كاملة من "بدائع الزهور" لابن إياس، في روايته الشهيرة "الزيني بركات"، وبنقل مقاطع كاملة من كتابات ابن عربي في كتابه "التجليات"، كما بالتشابه الكبير بين روايته "هاتف المغيب" ورواية "مدن غير مرئية" للكاتب الإيطالي إيتالو كالفينو. بيد أن الغيطاني ردّ على ذلك بأن الأمر راجع إلى تشبعه الكبير بهذين الكاتبين إلى حد القيام بذلك من دون وعي منه...

حين أصدر كاظم جهاد كتابه "أدونيس منتحلًا" كان الكتاب أشبه برجّة تشكيك في عَلم من أعلام الشعر العربي...


أنحن كلنا بالضرورة منتحلون؟

يبدو من التمعن في هذه الظاهرة، أن الانتحال كما السرقة الأدبية لصيقان بالكاتب، كما بالفنان. ألم يبْن المنفلوطي مجده على أعمال كتاب غربيين؟ وألم ينشأ المسرح المغربي والعربي من الاقتباس؟ وهل يمكن القول بأن تلطيف مفهوم السرقة الأدبية، وما يسميه الأدب المقارن بالتفاعلات interférences الثقافية، بمفهوم التناص، قد منح الشرعية للسرقات الأدبية؟ إننا هنا نطرق مفهوما مركبا وملتبسا ومتحولا، يمنح للنص الأصل المرجعية المطلقة، حتى لو كان هذا النص يعتمد نصوصًا سابقة عليه. أليس الاختلاف (ومن ثم الإبداع) تكرارًا كما نصّ على ذلك دريدا وجيل دولوز؟ لقد أدرك العديد من الشعراء والكتاب أن كل شيء قد قيل، وأن السلف سبقوا الخلف إلى طرق الموضوعات "الجديدة". ذلك ما يصوغه لنا موريس بلانشو ببساطة باهرة: "من ذا الذي سيولي عنايته لقول جديد، أيْ قولٍ لم يُقَل؟ ليس المهمّ أن نقول قولًا، وإنما أن نكرّر القول، وفي هذا التكرار، نقوله من جديد لأوّلَ مرّة".

وهذا ما عبّر عنه عنترة على سبيل الشكوى: "هل غادر الشعراء من متردّم *** أم هل عرفت الدار بعد توهم". ويأتينا توكيد الجاحظ لذلك بقوله في كتاب الحيوان: "والمعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي، والبدوي والقروي، والقاصي والداني، وإنما الشأن في إقامة الوزن، وتخير اللفظ وسهولة المخرج وكثرة الماء، وفي صحة الطبع وجودة السبك". لا غرو إذًا في أن يكون الامتلاك طبيعة لازمة للأدب. وفي هذا قد تكون الترجمة أكثر أشكال الانتحال تعبيرًا عن الإعجاب، وامتلاكًا (سطوًا مشروعًا) على نصوص الآخرين. وأنا أقول دومًا في حواراتي عن الترجمة إني أترجم الكتب التي أعجب بها وأتمنى أني لو أكون كاتبها. ألست أنتحل صيغتها العربية لنفسي في عزّ النهار، وبموافقة الناشر والكاتب؟

صاحب كتاب "أدونيس منتحلًا" لا بد أنه قرأ كتاب رولاند دو شادوني قبل أن يحرر كتابه ذاك. وهذا الأخير استلهم أربعة مصادر قبله: كتاب شارل نودييه "قضايا في الأدب الشرعي"، الذي يعتبر فيه صاحبه أن المعاجم هي انتحال بالترتيب الأبجدي؛ وكتاب "التدليس الأدبي مكشوفا" لجوزيف ماري كيرار عن الأمر نفسه؛ وكتاب "روح الآخرين" لإدوارد فورنيي الذي يتتبع قضايا السرقة الأدبية؛ وكتاب جورج موروفير "كتاب الانتحالات" الذي يتناولها لدى المحدثين قبل عام 1927.

وهذا المقال نفسه ليس آتيًا من فراغ، إنه يعتمد ما كتب سابقًا عن هذه الظاهرة. فالكتابة عن الانتحال، لا يمكنها أن تشذ عن الأمر وأن تخلو بدورها مما هي تتحدث عنه! ولا يكون ذلك ممكنا إلا باتخاذ موقف أخلاقي أو قانوني في مجال الممارسة الثقافية. فهل نكون كلنا، في آخر المطاف، منتحلين بهذا القدر أو ذاك؟

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.