}

الصهيونية وتزييف تاريخ فلسطين.. دراسة الآثار نموذجًا

أحمد الجندي أحمد الجندي 12 سبتمبر 2022
آثار الصهيونية وتزييف تاريخ فلسطين.. دراسة الآثار نموذجًا
الصورة التي نشرها نفتالي بينيت في صفحته على "تويتر"

لعب العاملان الديني والصهيوني دورًا كبيرًا في كتابة التاريخ الإسرائيلي القديم؛ ويمكن القول إننا إذا راجعنا سير علماء الآثار الذين اهتموا بدراسة آثار فلسطين في نهاية القرن التاسع عشر، والنصف الأول من القرن العشرين، سوف نجدهم أحد فريقين: الفريق الأول، أصحاب المرجعية الدينية الذين كان أغلبهم رجال دين مسيحيين، أو يهودًا، وتدعمهم مؤسسات كنسية غربية، ولعل أفضل ما وصف به علماء هذا الفريق أنهم حينما قدموا إلى فلسطين من أجل البحث الأثري "كانوا يحملون الكتاب المقدس في يد، ومعول الحفر في اليد الأخرى"، وكان هدفهم إثبات صحة التاريخ الإسرائيلي القديم، وروايات العهد القديم التاريخية. أما الفريق الآخر فهم الذين كانت تحركهم دوافع صهيونية، وهؤلاء، وإن اتفقوا مع الفريق الأول في هدفهم، إلا أنهم كانوا مهتمين في الأساس في تركيز جهدهم في أن تصبح أبحاثهم ممهدة لإقامة وطن قومي لليهود. هذا الفريق لم يراع في أحيان كثيرة الدقة والأمانة العلمية، بل كثيرًا ما قام بفبركة اكتشافات أثرية، وتزوير أدلة لإثبات ما ذهبوا إليه. المهم هنا أن المحصلة النهائية لأبحاث كلا الفريقين واكتشافاتهم خدمت المشروع الصهيوني.
في ذلك الوقت الذي كان العالم العربي ـ وما زال ـ لا يلقي بالًا لدراسة الآثار، ولا يخصص لها، أو لغيرها من العلوم، الميزانيات التي تكفي للارتقاء بها، أو لمواجهة الخطر الصهيوني، كان مفكرو الصهيونية لا يألون جهدًا في هذا المسار؛ وقد نقل عن أحاد هعام (1856 ـ 1927)، وهو رائد الصهيونية الروحية التي كانت تنادي بأن تكون فلسطين مركزًا روحيًا يؤثر إيجابًا في اليهود في أنحاء العالم، قوله "إن غياب الحقيقة الأثرية لا يؤثر على الحقيقة التاريخية، فلو أثبت علم الآثار مثلًا أن شخصية موسى ليست شخصية حقيقية، فإن هذا لن ينقص شيئًا من حقيقة وجوده التاريخي كمثال ونموذج تأثرنا به آلاف السنين". هذا التمييز بين الحقيقة الأثرية والحقيقة التاريخية في مقولة أحاد هعام يؤكد على قبول الرواية التاريخية، وإن كانت ضعيفة، طالما كانت في صالح الصهيونية.

أحاد هعام، رائد الصهيونية الروحية، في زيارة إلى فلسطين عام 1911


لقد كان الموقف العلمي الأخلاقي ألا يتم دمج علم الآثار بالسياسة، لأن الضرر حينها، كما يقول عالم الآثار الأميركي فيليب كينج، سوف يلحق بعلم الآثار، وحينها سوف يصبح علم الآثار تابعًا لتفوق النص الأدبي، وسوف يكون على علم الآثار في هذه الحالة أن يقدم الدليل الأثري الذي يثبت صدق النص، وهو ما سيؤدي بالطبع إلى مشكلات علمية حقيقية، وهو ما بات متكررًا في مجال دراسة آثار فلسطين طبقًا لشهادات عديدة لعلماء آثار غربيين في العقود الثلاثة الأخيرة.





وعلى الرغم من السؤال الذي طرحه كثير من الباحثين حول إمكانية تجاوز الأيديولوجيات القديمة، أو الحديثة، حتى لا يؤثر ذلك في كتابة التاريخ، إلا أن تجربة علماء الآثار في فلسطين تثبت عكس ذلك تمامًا، فكثيرًا ما حُرفت الحقائق، كما أن علماء الآثار لم يكونوا ينقبون عنها من أجل الوصول إلى الحقيقة، بل لتأكيد جذور إسرائيل، وهو ما أكده عالم الآثار الأميركي، نيل أشير سيلبرمان، في كتاب كامل حول هذا الموضوع، والذي يتضح من عنوانه "الحفر من أجل الرب والوطن/Digging for God and Country" إلى أي مدى اختلطت السياسة واللاهوت بعلم الآثار.
ثمة سؤال آخر طرحه بعض الباحثين الغربيين؛ وهو: هل كان الوضع السياسي في فلسطين في بدايات القرن الماضي يسمح بأن يكون علماء آثار مثل وليم أولبرايت، وإرنست رايت، أو غيرهما، مستقلين عن هذا الوضع في فلسطين؟ ويتساءل سيلبرمان: هل كان من الممكن لهؤلاء الباحثين أن يجروا أبحاثهم في مجتمع ممزق نتيجة الصراع (كفلسطين في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي) من دون أن يشاركوا بقصد، أو من دون قصد، في الصراع الدائر؟ وهل كان من الممكن أن يقدموا تصورًا عن الماضي منفصلًا عن التفسير السياسي الحديث، خاصة إذا وضعنا خلفية هؤلاء الباحثين القومية والدينية في الاعتبار؟ وإذا كانت هذه الأسئلة، وغيرها، تلقي بظلال الشك على نتائج أبحاث هؤلاء العلماء في آثار فلسطين، فإن هناك من تحدث بوضوح عن أن الأبحاث الأثرية لأولبرايت، وإرنست رايت، وغيرهما، كانت تنطلق من ثقتهم العميقة في نصوص العهد القديم، وتميز بني إسرائيل.
المقصود هنا أن عددًا كبيرًا من علماء الآثار كان هدفهم إيجاد الشرعية للاحتلال الصهيوني لفلسطين بالاستناد إلى روايات العهد القديم عن أصل بني إسرائيل، وربط ذلك بتأسيس وطن قومي لهم. وتضمن ذلك، بالطبع، توظيف علم الخرائط لاستبدال الأسماء العبرية لمدن وقرى فلسطين بالأسماء العربية القائمة فعليًا. ويعد جورج آدم سميث رائدا في هذا المجال الخطير، بعمله الذي جاء في مجلدين بعنوان "الجغرافيا التاريخية للأرض المقدسة/ The Historical Geography of the holy Land"، الذي صدر في مطلع القرن الماضي. وبعد احتلال فلسطين، شرع الاحتلال في استبدال أسماء المدن والقرى؛ بحيث لم يعد من السهل تذكر أسماءها العربية.




وخلال العقود الثلاثة الأخيرة، ظهر فريق من العلماء، أمثال توماس تومسون، ونيل لامكه، وفيليب دافيز، وآخرين، وهؤلاء رفضوا كثيرًا من نتائج الدراسات التي اهتمت بتاريخ فلسطين من واقع رؤية صهيونية، وذهب بعضهم إلى أن الصهيونية جندت علماء الآثار في مشروع استعادة تاريخ إسرائيل القومي، بل وإلى اختراعه إذا اقتضى الأمر، وتزييف العديد من النقوش والأختام الأثرية، والتشكيك في صحة كثير منها، مع تحديد ما جرى تزييفه من آثار، إضافة إلى تصنيف النقوش الكنعانية ضمن آثار اللغة العبرية، مثلما فعل يسرائيل ولفنسون في كتابه تاريخ اللغات السامية؛ حين صنف فصلًا عن اللغة العبرية وضع فيه نقوشًا موآبية، وكان حينها يدرس في الجامعات المصرية.


مثال واحد

نموذجان من الكتب التي حاولت الصهيونية بها تزييف تاريخ فلسطين


والحق أن ما يحدث في دراسة آثار فلسطين من قبل الدوائر الصهيونية يصل إلى حدّ الاستغفال. وسأكتفي هنا بإعطاء مثال واحد حديث تدعمه دولة الاحتلال؛ فمنذ أشهر عدة، قام نفتالي بينيت، حينما كان رئيسًا للوزراء، بالتعليق على صورة وضعها في صفحته على "تويتر"، كانت الصورة لكسرة من نقش قديم قال بينيت إنها اكتشفت في قرية (خربة الراعي) الفلسطينية، وعلق حينها بقوله إن الكسرة تعود إلى عصر القضاة، ومكتوب عليها اسم "يربعل"، وهو اسم مستخدم في العهد القديم، وبناء على هذا الادعاء أضاف "آباؤنا عاشوا على أرضنا هذه، وتحدثوا بلغتنا، وقرأوا نفس التوراة مثلنا".
لقد كان كم الاستغفال في حديث بينيت كبيرًا للغاية، وهو من خلاله يحاول أن يفعل ما فعله غيره من المتخصصين في دراسة آثار فلسطين لفرض سياسة الأمر الواقع حتى في المجال العلمي، مستغلين تخلف البحث الأثري في العالم العربي كله، رغم أن البيئة التي تتم فيها الاكتشافات بيئة عربية. ولطالما كانت بلادنا، مصر والعراق وفلسطين وسورية ولبنان، وغيرها تفتح لهؤلاء الباحثين الغربيين في الوقت الذي تغلق فيه أمام الباحثين من أصحاب الأرض لأسباب كثيرة ليس الموضع هنا لتفصيلها. وكان دور العرب في هذه الأبحاث، وما زال للأسف، مقصورًا أغلبه على المهام الخاصة بالحفر، ورفع المخلفات، والسهر على خدمة الباحثين الغربيين، من دون أن تكون هنالك مشاركة في البحث العلمي. ولهذا، فإننا حين نبحث عن علماء المصريات، أو الآشوريات، أو علماء البحث الأثري في فلسطين، فإننا غالبًا لن نجد عربيًا واحدًا بين هؤلاء العلماء.




بالعودة إلى كلام بينيت، نشير إلى أن عصر القضاة الذي ادعى بينيت نسبة النقش إليه هو عصر محل شك كله؛ وقد رويت أحداثه في سفر القضاة في العهد القديم بأسلوب الأسطورة والخرافة فضلًا عن المفارقات التاريخية التي تضمنها؛ فالفترة التاريخية التي امتدت منذ وفاة يشوع بن نون، خليفة موسى عليه السلام، حتى قيام مملكة داود وسليمان، ولم تكن تزيد عن 150 عامًا، جعلها محررو السفر 450 عامًا، وهذه الأمور دفعت لاعتبار عصر القضاة كله من نسج الخيال.
أما التوراة التي ادعى رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق أن أجداده كانوا يقرأونها مثلما يفعلون هم الآن، فيكفي أن يذكر هنا أن أقدم نص عبري معتمد للتوراة يعود إلى القرن العاشر الميلادي، وأن أقدم نص غير عبري للعهد القديم هو الترجمة اليونانية (التي تسمى السبعينية) التي اكتملت في القرن الرابع الميلادي. وبين الترجمة السبعينية وأول نص عبري معتمد للعهد القديم اختلافات كبيرة تدخل ضمن موضوعات ما يعرف بعلم النقد النصي.
أما النقش الذي عرضه بينيت فمكتوب بالخط الكنعاني القديم؛ إذ ليس هنالك أصلًا خط عبري؛ فقد استخدم بنو إسرائيل الخط الذي ابتكره الكنعانيون، بل إن اللغة العبرية نفسها ذات أصل كنعاني؛ حيث تفرعت عن الكنعانية شأنها في ذلك شأن لغات محلية أخرى لشعوب كانت تسكن أرض كنعان، كالموآبيين والعمونيين والأدوميين، والأكثر من ذلك أن الخط الحالي الذي تكتب به الصحف والمكاتبات الرسمية في إسرائيل، والذي يسمى بالخط المربع، هو خط آرامي.
أما بالنسبة للاسم يربعل المنقوش على هذه الكسرة الحجرية، فمن المعروف أن "بعل" هو اسم إله عبده الكنعانيون والآراميون، وغيرهم من شعوب الشرق الأدنى القديم؛ وكان الكنعانيون يجعلون اسمه جزءًا من أسماء أبنائهم، أو ملوكهم، مثل أبي بعل، بعل آتسور، أتو بعل.. وقد يطلقون اسمه على مدنهم، بعضها لا يزال موجودًا لليوم، كمدينة بعلبك اللبنانية. وجدير بالذكر أن عبادة البعل الوثنية تسربت إلى بني إسرائيل أنفسهم، وانتقد أنبياؤهم عبادتهم للبعل، وأشار القرآن الكريم إلى ذلك أيضًا في قوله تعالى (أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين..) الصافات، 125. وقد وصل الأمر إلى أن بني إسرائيل أصبحوا يطلقون اسم بعل على أبنائهم، مثلما فعل الكنعانيون، فوجدنا ذلك في العهد القديم في حالتين (يربعل، إيشبعل)، وفي الحالتين قام المحررون المتأخرون بتغيير الاسمين إلى يربوشت، وإيشبوشت، كشكل من أشكال التعبير عن الإحساس بالعار نتيجة الانتساب إلى البعل؛ حيث كلمة بوشت تعني العار في العبرية.
الغريب هنا أن يقرر بينيت أن الاسم يربعل دليل على أن ذلك أثر من آثار بني إسرائيل لمجرد ورود الاسم في العهد القديم، رغم أن البعل أصلًا إله للكنعانيين، فما الذي يجعل هذا الاسم لواحد من بني إسرائيل، وليس لشخص كنعاني، أو آرامي، والأغرب من ذلك أن عبارته "آباؤنا" لا تتفق مع نتائج الدراسات الأنثروبولوجية التي لا تؤيد وجود أي علاقة بين يهود العصر الحديث، وبني إسرائيل في العصر القديم.
تخيل أن كل هذه الملاحظات التي تدحض تلك الرواية الصهيونية، والتي يرجح أن بعض الآثاريين قد حكاها لرئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، تتعلق بنقش واحد يتكون من خمسة حروف فقط، فماذا لو أعدنا تقييم كثير من الدراسات الأثرية بعيدًا عن تلك التوجهات الصهيونية التي أثرت على دراسة آثار فلسطين القديمة؟!

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.